الاحتلال يسعى إلى تسجيلها «موروثاً توراتياً» وإلغاء حق 42 ألف فلسطيني يعيشون فيها

لفتا.. قرية مقدسية هجّرت إسرائيل سكانها وهوّدت بيوتها

صورة

في منتصف شهر مايو من كل عام يمر سكان قرية لفتا المقدسية المهجّرين من أمام منازلهم كأنهم زائرون لها، يتمنون لمس جدرانها، وطرق أبوابها، فلا يسمعون سوى صدى أصوات التهويد والتهجير، يتذوقون ثمار أشجارهم على عجلة، ويستنشقون رحيق زهورها سريعاً قبل أن يعودوا إلى حيث كانوا في المخيمات والقرى التي لجؤوا إليها مهجّرين.

استيطان

سلطات الاحتلال وأذرعها المتمثلة في جمعياتها الاستيطانية تسعى بجهود مكثّفة لتهويد القرية، ومنها محاولة تسجيل لفتا وأراضيها الممتدة على مساحة 500 دونم كمعالم أثرية إسرائيلية، وموروث ثقافي تلمودي في «اليونيسكو»، زاعمة أنها تحتوي على تاريخ توراتي يهودي، وكذلك مخططات للتوسع الاستيطاني فيها، وبناء 212 وحدة استيطانية للأغنياء اليهود.

تراث مستمر

مازالت نساء لفتا يرتدين الثوب الفلسطيني الخاص بالقرية، والذي يعد من أغلى الأثواب الفلسطينية ثمناً، كما أن العلاقات التي كانت سائدة بين عائلات لفتا مازالت موجودة حتى اليوم، حيث تشارك بعضها بعضاً في أفراحها وأحزانها.

أطماع

قال رئيس جمعية لفتا الخيرية، ضياء معلا، «إن إسرائيل كرست الكثير من الوقت والجهود لإقامة مشاريع تهويدية في لفتا، منها بناء سكة القطار من مدينة يافا، مروراً ببيت سوريك وبيت إكسا، ليقطع الوادي وبلدة لفتا بشكل موازٍ، ويصل إلى مدينة القدس».

ويضيف أن «مخططات الاحتلال لتهويد لفتا والتوسع الاستيطاني فيها متواصلة، ولا تنتهي أبداً، ومنها تحويل ما تبقى من أراضيها إلى أحياء سكنية فاخرة، ومنتجعات سياحية وفنادق لكبار الأثرياء اليهود والمستوطنين».

ويؤكد رئيس جمعية لفتا الخيرية أن الاحتلال يسعى لتهويد القرى والمناطق التي لها أهمية استراتيجية وجغرافية لمدينة القدس، خصوصاً قرية لفتا التي تمتلك قيمة معنوية.

ولم يستبعد معلا أن قرية لفتا الكنعانية التي بناها اليبوسيون القدماء، تضم إلى المتحف التوراتي الإسرائيلي، لينسبها الاحتلال لتاريخه ومعتقداته، مضيفاً أن «التاريخ لا يمحى من الذاكرة والوجود الفلسطيني، فأجيال لفتا المتعاقبة مازالوا يمتلكون أوراقاً ثبوتية تعود لما قبل العهد العثماني، والتي تثبت ملكيتهم منازلهم وأراضيهم فيها».

فعلى الرغم من مرور 69 عاماً على احتلال قرية لفتا الواقعة على الجبال الشرقية الغربية لمدينة القدس المحتلة، إلا أن سكانها المهجرين يصطحبون أبناءهم وأحفادهم إلى قريتهم المهجرة يوماً واحداً طوال العام، ليورثوا لهم قصص البيارات والكتاتيب وجلسات إفطار الزيت والزعتر والجبنة، تحت أشجار الزيتون والعنب والرمان، فقصص حياة أهالي لفتا التي تداولتها ثلاثة أجيال متتالية بقيت محفورة في ذاكرة من هُجّروا منها عام 1948، وتنقش فصولها في ذاكرة شبابها.

القادم إلى قرية لفتا التي تمتد أراضيها حتى بابي العامود والخليل (أحد أهم وأكبر أبواب مدينة القدس)، لا يشاهد فيها بشراً، وكل ما يلمحه بصره المنازل المهجورة والأعشاب اليابسة، والمنشآت الإسرائيلية الرسمية والمهمة التي أقامها الاحتلال على القرية، ومن بينها الجامعة العبرية، ومبنى الكنيست، ومشفى هداسا، ومركز قيادة الشرطة، ومحطة الباصات المركزية.

ورغم هذا التشويه، إلا أن ثمة شيئاً واحداً لم يتغير فيها رغم مرور الزمن، هو تمسك 42 ألف فلسطيني من سكان لفتا بحقهم، خصوصاً الأجيال الشابة التي لم تنسَ قريتها، ومازالت باقية على الأمل في العودة إليها، ففي كل عام تحتفل فيه إسرائيل بعيد استقلالها يزحف الشباب والشياب من قبلهم إلى حدود قريتهم المهجّرة ليؤكدوا أن لهم أرضاً على مرمى حجر من المكان الذي هجّروا إليه، قرية اسمها لفتا.

أهمية حضارية

«الإمارات اليوم» زارت قرية لفتا، فوجدت المنازل الباقية مهجورة في معظمها، فيما رُمم جزء منها لإقامة عائلات يهودية، ولم يبق من الحوض الذي شيّد حول النبع في وادي الشامي سوى الأنقاض، وتحف بالجانب الغربي مقبرة تغطيها الأشجار والأعشاب البرية، بينما تظهر أطلال المنازل الأخرى في مواضع متفرقة في القرية.

والتقت «الإمارات اليوم» عدداً من سكان لفتا الذين قدموا من المناطق التي يعيشون فيها كلاجئين إلى قريتهم الأصلية.

رئيس هيئة حماية الموروث الثقافي لقرية لفتا يعقوب عودة، وهو أحد المهجرين منها عقب النكبة، يستذكر قريته حاملاً في جعبته ذكريات جميلة عن بلدته، وذكريات الطفولة، مستذكراً أيضاً بيت العائلة الجميل المؤلف من ثلاثة طوابق، والمطل على الجهة الجنوبية من القرية.

ويقول عودة «لقد كنا نعيش سعداء في قريتنا، وكل ما نحتاجه من أساسيات كان موجوداً، اذ كانت لفتا قرية مهمة تمثل البوابة الغربية والشمالية لمدينة القدس، وتعد موروثاً تاريخياً وحضارياً؛ فمسجدها بني قبل أكثر من 800 عام، وكان هنالك وقفية مسجلة في المحكمة الشرعية بأن يكون 50% من دخل قرية لفتا لمسجد سيف الدين بن عيسى بن قاسم العكاري، أحد أمراء جيش صلاح الدين». ويضيف أن «مصادرة لفتا يعني مصادرة موروث مبني على مئات السنين، وهذا شيء لا يتفق مع التاريخ».

ويصف عودة، مباني لفتا القديمة وما كانت تحتوي عليه من فنون وديكورات معمارية، وأعمدة وأقواس، وكذلك طرازها الفريد الذي رسمته الطبيعة، وليست كالمستعمرات والمستوطنات المبنية على رؤوس الجبال.

وكان عدد سكان لفتا قبل عام 1948 3000 نسمة، فيما يبلغ الآن 42 ألف فرد، يتوزعون في مناطق القدس، ورام الله في الضفة الغربية، فيما لجأ أكثر من نصف سكانها إلى الأردن، بعد أن تم تهجيرهم من قبل العصابات الصهيونية، حيث تعد من أوائل القرى التي شهدت تطهيراً عرقياً على يد العصابات الصهيونية، وذلك بحسب عودة.

رحلة سنوية

وفي ما يتعلق بمسيرة العودة السنوية، يقول رئيس هيئة حماية الموروث الثقافي لقرية لفتا، تنظم كل عائلات لفتا المقيمة في مناطق متفرقة داخل فلسطين رحلة سنوية إلى القرية وربوعها، حيث يتصدرها كبار القرية الذين يشرحون للمشاركين في الرحلة عن تاريخ لفتا، ومنازلها، وأزقتها، وتراثها.

ويوضح أن رحلة مسيرة العودة هي محاولات حثيثة من قبل أهالي قرية لفتا، بهدف الحفاظ عليها كموروث ثقافي فلسطيني، وحمايتها من عمليات التهويد الصهيونية.

إيمان أبوشلبك (25 عاماً) التي ينحدر أصلها من قرية لفتا، وتقطن في مدينة رام الله التي لجأت إليها عائلتها عقب النكبة، تحرص منذ أن كانت في سن السابعة على القدوم سنوياً ضمن مسيرة العودة برفقة والدها وجدها إلى قريتها المهجرة، لتوثق بذاكرتها تاريخ وحضارة أجدادها.

وتقول أبوشلبك لـ«الإمارات اليوم»، إن ارتباطي في لفتا بدأ من حكايات جدي وجدتي عن الحياة فيها، ثم برؤيتنا منازلها المهجورة أثناء مرورنا بجانبها، فنحن لم نحيَ فيها، لكنها تعيش فينا من خلال قصص الكبار التي تُروى لنا يومياً.

وتضيف «ما إن تتحرر لفتا، سأعود لأعيش فيها، وأمارس نشاطاتي اليومية، فأقرأ كتاباً في حديقة بيت جدي، وأشرب الشاي مع جاراتي».

وتوضح الفتاة المهجرة، أن وجود أعداد كبيرة من المنازل في لفتا كما هي وإن كانت مهجورة، يعزز لديها الأمل دائماً في العودة إليها، مؤكدة أن التمسك بلفتا حق تتوارثه أجيال القرية حتى يرجعوا إليها.

ومازالت نساء لفتا، بحسب أبوشلبك، يرتدين الثوب الفلسطيني الخاص بالقرية، والذي يعد من أغلى الأثواب الفلسطينية ثمناً، كما أن العلاقات التي كانت سائدة بين عائلات لفتا مازالت موجودة حتى اليوم، حيث تشارك بعضها بعضاً في أفراحها وأحزانها.

تويتر