الاحتلال يقيم معسكرات لحماية مستوطنيه.. والفلسطينيون يزورونها للحفاظ على آثارها

وادي القلط.. محمية طبيعية تقـاوم الاستيطان

صورة

بعد السماح لنا بزيارة وادي القلط في أريحا، الذي يسيطر عليه الاحتلال الإسرائيلي، كان الطريق إليه مشوقاً، ومليئاً بالمظاهر التاريخية التي تعيد للذاكرة روايات الأمم والحقب الزمنية المتعاقبة، التي قرأنا عنها في كتب التاريخ، فمدينة أريحا تعد واحة في صحراء الضفة الغربية، والمعروفة باسم برية القدس.

في الطريق إلى أريحا عبر هذه البرية، توجد واحات صغيرة ذات طبيعة خلابة، شكلتها جمالياً عوامل الطبيعة قبل آلاف السنين، ومن أشهر هذه الوديان وادي القلط، وهو كما يقول الخبراء، انهدام طبيعي بين الهضاب المحيطة بالوادي، وعلى الجانبين جدران صخرية عالية، ترتفع في بعض المناطق إلى أكثر من 100 متر.

الطريق الذي قطعناه، خلال جولتنا عبر الوادي التاريخي، والذي بدأ من القدس إلى وادي القلط في أريحا عبر الصحراء، يعد أطول بكثير من المسافات الجغرافية، فقد شاهدنا حضارات الأمم السابقة ماثلة أمام أعيننا، بالإضافة إلى نتاج الظواهر الطبيعية التي حدثت خلال الأزمنة الماضية.

في البداية، عبرنا جسراً حجرياً ضخماً مقاماً فوق وادي أبوضبع، ومن خلال هذا الجسر يمكن رؤية بقايا أمم عدة، وبعد كليومترات قليلة وصلنا إلى عين القلط.

دير سانت جورج

على طول الطريق، تظهر الشلالات التي تصب في النهر، وفي طريقنا عبرنا ثلاثة جسور تطل على وادي القلط، لنهبط إلى الأخدود، ونصل بعد نصف ساعة مشياً، إلى دير سانت جورج، الذي بني بالمئوية السادسة للميلاد، على يد قبائل مسيحية بقيادة «جورج يانوس» الراهب المتعبد داخل مغارته، التي مازالت موجودة أمام الدير حتى يومنا هذا.

يعد دير سانت جورج واحداً من أديرة عدة في وادي القلط، مازالت شاهدة على تعاقب الحقب الزمنية، ففي الجهة الشمالية يُشاهد دير القلط ودير النساء المهجوران. وعند الخروج من ذلك المسلك يتسع الوادي لنصل إلى أريحا، وتحديداً إلى مخيم اللاجئين في عقبة جبر، وهناك يمكن رؤية بقايا قصور وحدائق وحمامات رومانية.

وبحسب رئيس أساقفة سبسطية للروم الأرثوذكس في فلسطين، المطران عطا الله حنا، كان الوادي لسنوات طويلة مأوى للنساك والرهبان، الذين هربوا بعقائدهم من الاضطهاد الروماني إلى مغارات وكهوف الوادي، ويعتقد أن الهاربين بعقيدتهم سكنوا هذا المكان منذ القرن الثالث الميلادي، وأقاموا الأديرة بعد القرن الرابع، إثر تبني الإمبراطورية الرومانية المسيحية ديناً رسمياً.

ويقول المطران حنا، لـ«الإمارات اليوم»، «إن النساك والرهبان الذين سكنوا وادي القلط، أقاموا في البداية داخل كهوف، ثم في كوات صغيرة بالصخر، لكنهم أقاموا الأديرة في القرنين الخامس والسادس». ويضيف: «يعيش في الدير الآن رهبان من الروم الأرثوذكس، ومن المعروف أن 90% من أبناء الطائفة هم من العرب».

وبحسب المطران حنا، يعد دير سانت جورج حالياً أحد أبرز معالم الوادي السياحية والأثرية، ويقام جزء منه في الجدران السميكة المرتفعة، ويعرض داخل الدير جماجم وعظام لرهبان ونساك، قضوا في هذا الدير، خلال الغزوات المتتالية.

ويقول رئيس أساقفة سبسطية الروم الأرثوذكس، متحدثاً عن جهود القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس في الحفاظ على دير سانت جورج، إن «الراهب القديس جاورجيوس عاش جانب الدير مصلياً ناسكاً، وقضى حياته الروحية محافظاً عليها حتي يبقى إلى يومنا هذا، وكان ثمن ذلك القداسة التي حصل عليها».

إذن مسبق

يوجد بمحاذاة الدير طريق ترابي صغير وعر يطل على الوادي، ويصل إلى أريحا، وبعد أن يقطعه الزائر وتلوح له الأشجار الخضراء، يصل بعد تلك الرحلة الشاقة إلى واحة طبيعية كان النساك والرهبان قد أنشؤوها، وذلك بحسب الباحثة الفلسطينية في شؤون الأماكن المقدسة بفلسطين ملاك حسين.

ملاك شابة فلسطينية ينحدر أصلها من منطقة وادي القلط، لكنها تعيش حالياً في مدينة رام الله بالضفة الغربية، بعد أن هجر الاحتلال سكان الوادي الأصليين، واستوطنه بشكل كامل.

وتزور الشابة ملاك الوادي بشكل منتظم، ضمن وفود كثيرة من الشباب والفتيات الفلسطينيين القادمين من قرى ومدن فلسطينية مختلفة، من بينهم مسيحيو طائفة الروم الأرثوذكس، الذين يأتون لمشاهدة معالمها التاريخية، منها الأديرة المسيحية.

وتشير ملاك إلى أنه لا يمكن لها دخول وادي القلط، إلا بعد الحصول على إذن مسبق من الاحتلال، في ظل وجود قوات من الجيش الإسرائيلي تنتشر في الوادي بشكل دائم.

وتقول الباحثة في شؤون الأماكن المقدسة في فلسطين، لـ«الإمارات اليوم»، إن «الوادي يشكل فرصة كبيرة لهواة المشي في أحضان الطبيعة، حيث يمكن الصعود إليه من غرب أريحا، للمرور بالدير المنحوت في الصخر، والمعلق على حافة الجبل، ومن ثم مواصلة السير في مسارات محددة للوصول إلى بداية الوادي من نبع الفوار».

وتضيف: «تنظم رحلات مكثفة يشارك بها فلسطينيون يعود أصلهم إلى تلك المنطقة، وباحثون، بالإضافة إلى هواة المشي، حيث يستمتع الزوار على طول طرفي الوادي بالمناظر الطبيعية الخلابة والكهوف والحجارة المنحوتة أسفل الوادي، كما أن الأشجار التي تمتد على جانبي الوادي تجعل المكان غاية في الروعة».

أطماع استيطانية

يقيم عدد من العشائر الفلسطينية في الهضاب والأرض المنبسطة بالقرب من وادي القلط، لكنهم يواجهون معاناة حقيقية بفعل ممارسات الاحتلال ومستوطنيه، إذ يعيشون حالة من الكر والفر مع جنود الاحتلال، فيحملون خيامهم ويرحلون، ثم يعودون كلما ذهب الجنود إلى معسكراتهم المقامة في منطقة الوادي.

ويقول الشاب مصباح أبوقبيطة، أحد سكان العشائر الفلسطينية المقيمة بجانب الوادي: «منذ عشرات السنين سكن الوادي الغزاة والسائحون، الذين يتوافدون عليه لأسباب ليست فقط سياحية، لكن أيضاً لأسباب دينية، إذ إنه يعد جزءاً من الأرض المقدسة، ومن منطقة شهدت ما يعتقد أنه أحداث الكتاب المقدس».

ويضيف: «لا تمر لحظة دون أن يستقبل الوادي مئات السائحين والوافدين، معظمهم من اليهود، وما يزيد المشهد قسوة توافد المستوطنين إلى الوادي بقوة السلاح، من أجل الاستجمام بينابيع الوادي».

وبحسب أبوقبيطة، تسيطر اليوم على وادي القلط قوات الاحتلال بشكل محكم، ولا تخلو تلال وهضاب الوادي من معسكرات أو نقاط للجيش، فقد أبعدت طوال السنوات الماضية العشائر الفلسطينية التي تعيش في المنطقة عن أماكن سكناها، من خلال سياسة تهجير جماعي لتنفيذ مخططات عسكرية.

ويوضح أبوقبيطة أن الاحتلال يغض الطرف عن محاولات استيطان، يعلن عنها بين الحين والآخر في المنطقة، على الرغم من إعلان السلطات الإسرائيلية الموقع محمية طبيعية ومناطق عسكرية.

ويقول أبوقبيطة: «في شهر أغسطس 2003، وصلت للمنطقة المستوطنة ياعيل يسرائيل، ووضعت نواة لمستوطنة قالت إنها تسعى لتكون متنزهاً سياحياً ضخماً يشتمل على مرافق عدة، وياعيل هي ابنة عضو الكنيست أوري هرئيل، من حزب الاتحاد اليميني المتطرف».

ويضيف: «وصلت ياعيل إلى الموقع من إحدى المستوطنات في الضفة الغربية مع زوجها وطفلها، وسيطرت على بناء قديم، وأضافت آخر جديداً لتقيم فيه، وحدث ما يعرف بالسيناريو المتكرر في الأراضي المحتلة، فلم تتدخل سلطة حماية الطبيعة الإسرائيلية، وإنما الجيش الإسرائيلي هو الذي حضر، ليس لمنع ياعيل من الاستيطان، لكن لحمايتها».

ولحماية ياعيل وطفلها، سيجت منطقة واسعة في الوادي، وأقام الجيش الإسرائيلي معسكراً في المنطقة، لتوفير الأمان لها.

 

تويتر