الجيش العراقي ينهار تحت وطأة الفساد والطائفية

«داعش» يستغل تفتت العراق وينفرد بالأقليات بلا رحمة (2-3)

صورة

أفردت صحيفة «نيويورك تايمز» عدداً من صفحاتها، لنشر موضوع موسع، يروي أسباب التفكك الذي اعترى العالم العربي، جراء غزو العراق في 2003، والذي أدى إلى الكارثة التي فتّتت العالم العربي، ما أدى بالتالي إلى صعود تنظيم «داعش» الإرهابي، وتفاقم أزمة اللاجئين عالمياً. وذكرت الصحيفة أن الرقعة الجغرافية لهذه الكارثة متسعة وأسبابها كثيرة، إلا أن عواقبها أفرزت حروباً أهلية، وعدم استقرار في جميع أنحاء العالم. وتناولت الصحيفة خمس مناطق عربية، تكشفت فيها مآسي «الربيع العربي» بشكل واضح، هي: مصر وليبيا وسورية والعراق وكردستان العراق.


كان الطفل وقاص حسن، وهو من قرية في ضواحي مدينة تكريت، يعاني صعوبات كبيرة في المدرسة، إضافة إلى مشكلات في حاسة السمع. وفشل في تحقيق أي إنجاز في المدرسة، ومن ثم انضم إلى مجموعات العمال غير المهرة العراقيين، حيث كان يعمل في قطع الحجارة، وخلط الاسمنت وما شابه، وعمل أحياناً في مصنع صغير للحلوى، افتتحه والده بعد تقاعده من البنك الذي كان يعمل به. وكانت حياة حسن رتيبة ومملة مقارنة بشقيقه الأوسط محمد، الذي كان يعمل ضابط أمن، ضمن قوات الأمن المحلية. وكان يتمنى أن ينتشله والعائلة كلها من وضعهم السيئ، بعد أن يساعده للعمل معه في الأمن. لكن في يونيو 2014، وقعت أحداث مصيرية غيرت كل شيء في حياة العائلة والمنطقة برمتها، فقد قام تنظيم «داعش» الإرهابي باحتلال مدينة الفلوجة في إقليم الأنبار العراقي، ومن ثم تمدد للسيطرة على العديد من المدن الأخرى. ولم يتجاوز تعداد مقاتلي التنظيم 1500، ومع ذلك تمكنوا من احتلال الموصل، التي كان يعمل بها عشرات الآلاف من قوات الجيش والأمن، الذين لاذوا بالفرار تاركين أسلحتهم، لا بل إن بعضهم خلع ملابسه العسكرية للنجاة بنفسه.

انهيار القوات العراقية

عوامل الانهيار

يعود الانهيار الكامل للقوات العراقية إلى عوامل عدة، أبرزها: عدم الكفاءة والفساد، اللذين نجما أيضاً عن فترة حكم رئيس الحكومة العراقي السابق نوري المالكي لثماني سنوات، حيث سيطر خلالها العراقيون الشيعة على جميع مناحي الحياة في البلد، بما فيها العسكري، كما سيطروا على المناطق ذات الأغلبية السنية، الأمر الذي اعتبره هؤلاء بمثابة احتلال لمناطقهم، وباتوا يكنون احتقاراً عميقاً للحكومة المركزية وللجيش، وأصبحوا ينشدون الخلاص، وجاء على هيئة تنظيم «داعش».


اللجوء إلى أوروبا

خلال معظم عام 2014، عاشت عائلة الشاب السوري ماجد إبراهيم حالة من الأمن النسبي، في منزلها الجديد وسط حمص، حيث انتقلت معظم المعارك القتالية إلى الضواحي. وأدى وقف إطلاق النار إلى إعادة فتح فندق السفير، حيث كان يعمل والد ماجد. وعمل إبراهيم في الفندق كعامل استقبال. وكانت الحياة قد عادت إلى وضع طبيعي، لكن ليس كما كانت عليه قبل الحرب، حسب إبراهيم.

لكن هذا الهدوء لم يستمر طويلاً، ففي 1 أكتوبر 2014، اتصلت به أمه تبلغه بان مدرسة إكراما المخزومية، حيث يدرس أخو ماجد الصغير تعرضت لانفجار. يقول ماجد إنه عندما وصل إلى المدرسة رأى مشهداً مرعباً، لم يكن يتوقع مشاهدته، إذ إن أجساد الأطفال كانت ممزقة ومنتشرة في كل مكان. لكن لحسن الحظ أن شقيقه مختبئ مع آخرين خلف المدرسة.

بعدها بنحو عام، حصل ماجد إبراهيم على شهادة البكالوريوس في إدارة الفنادق، من جامعة البعث في حمص. وكان هذا الإنجاز ينطوي على توتر وخوف بقدر ما فيه من فرحة، إذ إن ماجد أدرك أنه ستتم دعوته إلى الجيش، حيث سيأخذونه بالقوة من بيته.

وبناء عليه، قررت العائلة التحرك، فبعد أيام من تخرج ماجد في الجامعة أعطاه والداه 3000 دولار، هي كل ما تملكه العائلة من مدخرات، وطلبا منه أن يغادر البلد. وقال ماجد «لم يعد موضوع الوطنية وحماية الوطن يهمهما، وإنما الأهم بقائي على قيد الحياة»، ومن ثم رافقه والده إلى دمشق، حيث سافر من المطار إلى تركيا.

وحاول ماجد العمل في تركيا، كي يبقى قريباً من وطنه، لكنه هاجر إلى جزيرة كوس اليونانية، التي كان يوجد بها عشرات الآلاف من السوريين المهاجرين، وكانت السلطات اليونانية تستغرق 10 أيام على الأقل لإصدار أوراق التسجيل، كي تسمح للاجئين السوريين بالسفر إلى أوروبا. وفي ذلك الصيف، كان طريق المهاجرين عبر أوروبا الشرقية أصبح أكثر عدوانية على نحو متزايد. وحصل ماجد وصديقان تعرف إليهما في تركيا على أوراقهم، في 4 أغسطس، فأخذوا العبّارة التي تقلهم إلى البر اليوناني، حيث بدأت رحلة البحث عن مكان للجوء في أوروبا.


• تنظيم «داعش» الإرهابي جمع ثروة كبيرة، جراء سيطرته على منابع النفط في سورية، ومدينة الموصل، الأمر الذي جعل راتب الجندي غير المدرب، المنضوي تحت لوائه، يبلغ 400 دولار.

ويرجع هذا الانهيار الكامل للقوات العراقية إلى عوامل عدة، أبرزها عدم الكفاءة والفساد، الذين نجما أيضاً عن فترة حكم رئيس الحكومة العراقي السابق نوري المالكي لثماني سنوات، حيث سيطر خلالها العراقيون الشيعة على جميع مناحي الحياة في البلد، بما فيها العسكري، كما سيطروا على المناطق ذات الأغلبية السنية، الأمر الذي اعتبره هؤلاء بمثابة احتلال لمناطقهم، وباتوا يكنون احتقاراً عميقاً للحكومة المركزية وللجيش، وأصبحوا ينشدون الخلاص، وجاء على هيئة تنظيم «داعش».

وحسب ما قاله وقاص، فقد انضم إلى «داعش» في 10 يونيو 2014، في الوقت الذي أصبحت فيه ميليشيات التنظيم فاعلة بقوة في تكريت. يقول وقاص إنه انخرط في تنظيم «داعش»، ليس لأنه متدين ولا لأي سبب آخر، وإنما لأن شقيقه محمد طلب منه ذلك. وبالطبع فإن التنظيم جمع ثروة كبيرة، جراء سيطرته على منابع النفط في سورية ومدينة الموصل، الأمر الذي جعل راتب الجندي غير المدرب المنضوي تحت لوائه يبلغ 400 دولار.

وساعد الأخوان التنظيم في السيطرة على تكريت، كما أنهما لعبا دوراً يمكن القول إنه ليس أساسياً في أحد الأعمال الوحشية، التي قامت بها «داعش»، في معسكر تدريب بشمال تكريت، حيث كان آلاف الشبان يخضعون لدورة تدريبية، فعمد تنظيم «داعش» إلى مهاجمة المعسكر، فما كان من القوات العسكرية النظامية وقيادة المعسكر، إلا أن فروا من المعسكر لا يلوون على شيء، تاركين وراءهم المتدربين في حالة من الذهول. فعمد التنظيم إلى فرز المتدربين بصورة طائفية، ومن ثم إعدام جميع المتدربين من الطائفة الشيعية. وقال وقاص إنه ساعد في اعتقال المتدربين وتقييد أيديهم، لكنه لم يشارك في القتل. وتحدث كيف تم استدعاؤه ذات صباح من يونيو، وسلمه أحدهم مسدساً، وعلمه كيف يطلق النار على المحكومين بالإعدام، وقال إنه نفذ العديد من هذه الأحكام لأشخاص تراوح أعمارهم بين 35 و70 عاماً، وقال إنه شعر بالانزعاج عند القيام بذلك.

الهروب من الخطر

وفي بداية يونيو 2015، كانت جولة وقاص مع «داعش» قد أكملت عامها الأول. ومنذ أن أكمل التدريب في أحد المجمعات قرب الموصل، أمضى ستة أشهر في بلدته دور، حيث كان عمله الرئيس حماية مواقع «داعش»، قبل أن يتم إرساله إلى القتال ضد الجيش العراقي في بيجي. ولدى انتهاء عقد وقاص مع «داعش» بينما كانت المعارك محتدمة، كان بإمكانه تجديده، لكنه قرر العودة إلى الحياة المدنية. وربما يرجع ذلك لأسباب مادية، إذ إن راتبه لم يعد يصله بصورة منتظمة، والأهم من ذلك أن تنظيم داعش نفسه بدأ يتراجع إلى الوراء، حيث بدأ الجيش العراقي بتحرير المدن والبلدات، التي يسيطر عليها «داعش»، الأمر الذي جعل وقاص يشعر بالخطر على حياته كمقاتل «داعشي» سابق في هذه المناطق. وفي نهاية المطاف استقر به المقام في مدينة كركوك، التي يسيطر عليها الأكراد.

إلى كردستان

بينما كنا في طريقنا بالسيارة نحو الصحراء، تحدث لي أزار ميرخان، وهو طبيب من أكراد العراق، عن أبيه الجنرال هيسو ميرخان، الذي كان قائداً لقوات البيشمركة. لكنه هرب إلى إيران عام 1974، بعد هجوم كاسح للجيش العراقي. لكن عند اندلاع الحرب الإيرانية العراقية، قرر الخميني استغلال أكراد العراق، وطلب من الجنرال ميرخان القيام بهجمات ضد العراق، لكنه قتل خلال تعرضه لكمين على الحدود العراقية. وبقيت جثته مفقودة لمدة 30 عاماً، حتى ما قبل بضع سنوات، حيث قام أزار وشقيقه بحملة بحث، وسألا كل من كانوا معه عن المكان الذي قتل فيه، وتمكنا من العثور على عظامه في وادٍ عميق جداً.

وكان أزار يحدثني، ربما كي يوضح لي أن المكان الذي نذهب إليه، وهو قرية غاندي سيبا العراقية، يشكل هاجساً بالنسبة له. فقد كان قد حصل على إذن من المستشفى الذي يعمل فيه في أربيل، عاصمة كردستان العراق، ليقوم بجولة على قوات البيشمركة الذين يقاتلون «داعش». وتبين من خلال الحديث أن مهمة أزار كانت أبعد من مجرد مواجهة خطر «داعش»، إذ إنه كان يرى في الوضع الحالي للأكراد في شمال العراق فرصة لا تعوض، لإقامة وطن الأكراد. ولتحقيق ذلك ينبغي ليس هزيمة «داعش» فحسب، إنما إبعاد الأعداء التاريخيين للأكراد وهم العرب، مرة واحدة وإلى الأبد. ومن دواعي فخر أزار أنه لا يتقن اللغة العربية، كما أنه لم يذهب إلى بغداد سوى مرة واحدة فقط. وقال أزار إنه كان متأكداً من أن «داعش» سيأتي إلى مناطق كردستان، وسيبدأ هجومه من منطقة سنجار التي يقطنها الإيزيديون.

معاناة الإيزيديين

والإيزيديون هم أقلية دينية كردية، قال تنظيم «داعش» إنهم يعبدون الشيطان وتعهد بالقضاء عليهم، في جبل سنجار شمال غرب العراق، وخارج أراضي كردستان العراق. وبعد احتلال «داعش» للموصل، أصبح التنظيم قريباً جداً من سنجار. وفي هذه الأثناء، قام أزار بجولة محمومة على معارفه الأكراد المدنيين والعسكريين، محذراً من أن تنظيم «داعش» سيهاجم كردستان، لكن أحداً لم يقتنع بذلك، إذ إنهم اعتقدوا أن التنظيم المتطرف سيهاجم بغداد.

وفي الأول من أغسطس 2014، هاجم مسلحو «داعش» موقعاً معزولاً للبيشمركة في بلدة زومار، على بعد 10 أميال عن سنجار. فقرر أزار مع بعض أصدقائه الذهاب إلى هناك فوراً. وقال كنا نقف على كتف الطريق في غوندا سيبا، قرب نهر دجلة، وكانت سنجار لاتزال تبعد 40 ميلاً، بدأنا مشاهدة قوات البيشمركة الفارين من سنجار ووراءهم الإيزيديون. وكان من الصعب مواصلة الرحلة لأن الطريق كان مزدحماً جداً. وفي ذلك اليوم بالتحديد، أي 3 أغسطس، ارتكب «داعش» جرائم كبيرة بحق الإيزيديين. وبعد يومين على هذا الهجوم، قام «داعش» بهجوم آخر نحو أربيل، فقفل أزار عائداً إلى الجنوب. ويقول أزار إنه حارب في منطقة القاطع السادس مع خمسة من إخوته، إضافة إلى أبناء إخوته في وجه «داعش». وعلى بعد 15 ميلاً من أربيل توقف هجوم «داعش». وفي 20 أغسطس أصيبت يد أزار بطلقة قناص من «داعش»، وكادت تبتر، لكنها شفيت في ما بعد.

على خط المواجهةبعد رحلتنا إلى غوندي سيبا، أخذني أزار ميرخان، إلى جبهة غوير مخمور، حيث أصيب برصاصة قناص من «داعش». وتناول منظاراً، وبدأ ينظر إلى قرية تبعد عنا نحو 700 إلى 800 متر، حيث كانت تبدو هادئة تماماً. لكن أحد الجنود حذره من وجود قناص من «داعش»، فلم يهتم به أزار، الذي كان قد نجا من العديد من هجمات التنظيم.

وكان أفراد البيشمركة مصممين على عدم السماح لـ«داعش» بالسيطرة على أي منطقة تابعة لهم، خصوصاً أنهم يدركون أن الأميركيين يقدمون لهم المساعدة العسكرية. وفي معسكر «النمر الأسود»، حيث مقر قيادة القطاع 6، الذي يترأسه شيروان ابن شقيق مسعود بارزاني، أشار هذا الأخير إلى خارطة عسكرية للمنطقة، وقال «عندما وصلت إلى هنا كان تنظيم (داعش) يبعد ثلاثة كيلومترات، لكننا أبعدناه الآن 23 كيلومتراً عن المنطقة، لقد استعدنا نحو 1100 كيلومتر مربع، لكن لايزال هناك 214 كيلومتراً مربعاً»، وقال بارزاني إنه بحلول مايو 2015، قتل نحو 120 مسلحاً من البيشمركة. وفي هذا الوقت بالذات كان الأميركيون يحاولون ترتيب إجراءات، من أجل القيام بضربات جوية ضد «داعش».

لكن معسكر «النمر الأسود» كشف عن شيء آخر يتعلق بكردستان العراقية، والذي يتجنب معظم المسؤولين الخوض فيه، وهو أن كردستان ممزقة بين معسكرين متخاصمين، هما الحزب الديمقراطي الكردستاني، وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، الأمر الذي أدى إلى حرب أهلية في تسعينات القرن الماضي. لكن في حقيقة الأمر إن المنافسة بين مجموعتين قبليتين، هما البارزاني، والطالباني. وكان هذا التصنيف القبلي واضحاً تماماً في معسكر «النمر الأسود»، إذ إن البيشمركة في شمال كردستان، التابعين للبارزاني يتميزون بوشاح باللونين الأبيض والأحمر. أما في قطاع الطالباني جنوب كردستان، فإن مقاتلي البيشمركة يرتدون وشاحاً أسود وأبيض.

وإضافة إلى ذلك، فإن شيروان بارزاني قائد القطاع 6، لم يصل إلى هذا المنصب لبراعته العسكرية، وإنما لأنه رجل ثري، ويملك شركة لبيع الهواتف المحمولة، كما أنه ابن أخ رئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني، الأمر الذي يوضح صراحة شيروان غير الدبلوماسية مع الصحافيين الأجانب.

وكان الأكراد، الذين التقيت معهم يشعرون بالذنب، لأنهم لم يقدموا النجدة للإيزيديين، ويقول أزار إن الأكراد خانوا تاريخهم، وأضاف: «تستطيع القول إن الإيزيديين هم الأكراد الأنقياء، لأن دينهم هو ما كان يؤمن به جميع الأكراد، في لحظة معينة من الزمن، لكن في ما بعد أصبح البعض مسلمين وغير ذلك، لكنّ الإيزيديين بقوا على دينهم الحقيقي».

وأمضى أزار وقتاً طويلاً، وهو يتجول على مخيمات الإيزيديين الذين هربوا من «داعش»، حيث كانت بعض المنظمات الخيرية تقدم لهم المعونة، في عام 2014، ولكن عندما زرت هذه المعسكرات في مايو 2015، كانت هناك أفواج جديدة، منهم من هرب من «داعش»، ومنهم من تم افتداؤه بالمال. ولقد سمعت الكثير من القصص طيلة حياتي المهنية حول بشاعات الحروب، إلا أنني وجدت أن قصصهم متفردة عما عرفت من قبل.

تويتر