تغيير الولاءات سياسة اتبعتها الدوحة منذ عقود

قطر تتقرّب من إيران بعد تخريب عـــلاقاتها مع جيرانها الخليجيين

صورة

طوال عقود، أبحرت قطر بحذر في المتغيرات الجيوسياسية، التي تشكل العلاقات بين جيرانها الثلاثة: المملكة العربية السعودية، وإيران، والعراق. وكان القطريون ينظرون عادة إلى إحدى هذه القوى الثلاث في الخليج على أنها التهديد الأساسي، واستجابوا لهذا التهديد، من خلال الاقتراب من البلدين الآخرين. وفي هذا المنعطف، وسط الأزمة الخليجية الحالية، من المرجح أن توطد الدوحة علاقاتها مع كل من إيران والعراق، بحثاً عن توازن إقليمي مع جيرانها الخليجيين. وكان وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني، صرح في نهاية يونيو في واشنطن، بأن إيران «دولة تقع في الخليج، ولذلك يجب على الدوحة وطهران أن تستثمرا في علاقات ثنائية بناءة».

مثلث جديد

إن الانقسام الإقليمي والدولي حول الأزمة الخليجية الراهنة، قد يساعد على ظهور مثلث جديد، يشمل كلاً من قطر وإيران والعراق، ويمكن أن يجعل دول شمال الخليج أقرب إلى إيران من أي وقت مضى، ومن المحتمل أن يصبح للدوحة دور أكثر إثارة للجدل في المستقبل. وتستفيد إيران بالفعل من أزمة قطر، في انتظار إنشاء جبهة عربية موحدة لمواجهة طهران، ويمكن لإيران الآن أن تقدم حجة أكثر إقناعاً من ذي قبل، بأنها تسعى إلى تحقيق السلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، متجاهلة ما فعلته في العراق وسورية ولبنان، وأخيراً في اليمن.


عام 2006 كانت الدوحة العضو الوحيد في مجلس الأمن الدولي، الذي لم يصوّت لمصلحة دعوة إيران لوقف برنامجها لتخصيب اليورانيوم. وفي فبراير 2010، وقعت الدوحة وطهران اتفاق تعاون دفاعي وأمني، شمل «تبادل الخبراء الفنيين، وتوسيع التعاون في التدريب، والحملات ضد الإرهاب»، وفقاً لما ذكرته مصادر إعلامية إيرانية آنذاك.

على الرغم من أن طهران قد تكون حريصة على مساعدة الدوحة، فإن قطر تعلم جيداً أن الاعتماد كثيراً على إيران يحمل مخاطر عدة. وهكذا، قبلت قطر المساعدات الإنسانية والأمنية من تركيا، بالإضافة إلى الدول الأوروبية والآسيوية.

وتضمنت قائمة الطلبات الـ13 الصادرة عن السعودية والإمارات والبحرين، خفض العلاقات مع إيران. إن استراتيجية قطر للسياسة الخارجية الراسخة في مجال الرهانات التحوطية على كل من السعودية وإيران، أثارت غضب الرياض وغيرها من العواصم العربية في الخليج، إلى درجة أن أعضاء مجلس التعاون الخليجي اعتبروا أن حياد قطر غير مقبول، ويجب أن تثبت الإخلاص للمجلس.

وقد أشارت قطر حتى الآن إلى أنها لا تنوي قبول المطالب السعودية والإماراتية، وفي الوقت نفسه، هدّدت الرياض وأبوظبي بالتمسك بما قامتا به حتى تلتزم الدوحة بمطالبهما لاستئناف العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية. وعوضاً عن تفهم مخاوف جيرانهم، يحاول المسؤولون القطريون منذ أسابيع تقييم الفوائد والمخاطر المحتملة للتحول إلى مدار طهران للتأثير الإقليمي.

موازنة القوى الخليجية

نظراً لصغر حجمها، اعتمدت قطر منذ فترة طويلة على حلفائها الدوليين والإقليميين للدفاع عنها. وبعد دخول قوات صدام حسين إلى إيران في عام 1980، على سبيل المثال، دعمت قطر ومعظم الدول العربية الأخرى العراق مالياً، واعتبرت «الجمهورية الإسلامية» الوليدة تهديداً وجودياً للبلدان العربية في الشرق الأوسط. لكن بعد انتهاء الحرب، تحسنت العلاقات القطرية الإيرانية بسرعة. وبعد أن استولت إيران على ثلث احتياطي الغاز في حقل الشمال في عام 1989، اتفقت الدوحة وطهران على استغلال هذا الحقل معاً. وفي عام 1991 بدأ البلدان مناقشة خطط مد أنابيب مياه عذبة تربط نهر قارون في جنوب غرب إيران، بالدولة الصغيرة.

وبعد عام 1991، عندما وقفت الدوحة إلى جانب واشنطن ضد العراق في حرب الخليج الأولى، ازداد تحسن العلاقات بين قطر وإيران، حيث بدأت الدوحة، جنباً إلى جنب مع العواصم العربية الأخرى، ترى في بغداد تهديداً خطراً لأمن دول مجلس التعاون الخليجي، أكثر مما تمثله طهران. وعندها دعا أمير قطر إيران إلى الانضمام إلى مبادرات الأمن الإقليمي. إلا أن مثل هذه النداءات لم تجد آذاناً صاغية في عواصم دول مجلس التعاون الأخرى.

الدرس الرئيس

وكان الدرس الرئيس الذي تعلمته الدوحة من حرب الخليج الأولى، هو أن دول مجلس التعاون لم تتمكن من الدفاع عن نفسها دون دعم أميركي قوي. لذلك، سرعان ما قدم القطريون أنفسهم حليفاً عسكرياً وثيقاً لواشنطن، إذ وقعوا اتفاق تعاون عسكري مع واشنطن في عام 1991، أي قبل 12 عاماً من السماح للأميركيين بنقل قاعدتهم، التي تتولى قيادة القيادة المركزية من السعودية إلى العديد. وفي الوقت نفسه، اكتسبت شبكة الجزيرة الفضائية المملوكة للدولة، سمعة طيبة في المنطقة، باعتبارها المنبر الإعلامي الرئيس الوحيد الذي بثّ حملة القصف الأميركية في عام 2003، وكشفت كيف أن خطة الحرب سارت وفق ما رسمته إدارة بوش الابن. وبهذه الطريقة، أقام القطريون علاقات وثيقة مع واشنطن، ما ضمن لهم بعض المكاسب في الشرق الأوسط الكبير.

ومع ازدياد التوترات السعودية الإيرانية في المنطقة، بعد سقوط صدام حسين، التزمت قطر بالحذر حيال هاتين القوتين، وأحياناً تصادم موقفها مع السعودية. وعلى سبيل المثال، في عام 2006 كانت الدوحة العضو الوحيد في مجلس الأمن الدولي، الذي لم يصوّت لمصلحة دعوة إيران لوقف برنامجها لتخصيب اليورانيوم. وفي فبراير 2010، وقعت الدوحة وطهران اتفاق تعاون دفاعي وأمني، شمل «تبادل الخبراء الفنيين، وتوسيع التعاون في التدريب، والحملات ضد الإرهاب»، وفقاً لما ذكرته مصادر إعلامية إيرانية آنذاك. وفي ذلك الوقت، دفع رئيس الوزراء القطري حمد بن جاسم بن جابر آل ثاني، واشنطن لبذل المزيد من الجهود المباشرة بين واشنطن وطهران، لحل الخلاف حول برنامج إيران النووي. وفي العام نفسه اجتمع الأمير آنذاك الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، مع المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي في طهران، حيث تعهد الجانبان بتعزيز الوحدة السنّية - الشيعية في جميع أنحاء العالم الإسلامي.

مشاكسة واضحة

عام 2011، أصبحت المشاكسة القطرية أكثر وضوحاً، بعد أن بدأت الدوحة في دعم الحركات الإسلامية في الدول العربية، التي شهدت تحولات سياسية، مثل مصر، وليبيا، وتونس. ومع ذلك، ففي مناطق أخرى من المنطقة، خصوصاً في سورية واليمن، تعاونت الدوحة والرياض في بعض الأحيان بشكل كبير خلال السنوات الست الماضية، على الرغم من قطع العلاقات الثنائية أخيراً. وعلى سبيل المثال، وجهت الاتهامات للدوحة بتمويل تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة» مالياً وآيديولوجيا. وكان رد فعل الحكومة العراقية التي تدعمها إيران، هو تهميش وقصف العرب السنّة في محافظة الأنبار الغربية، في وقت قاتل الجيش السوري والميليشيات الشيعية المدعومة من العراق وإيران، بوحشية ضد المتمردين في سورية.

في عام 2014، سحبت البحرين والسعودية والإمارات سفراءها من الدوحة لمعاقبة قطر، بعد أن انتهكت اتفاقية أمن دول مجلس التعاون الخليجي لعام 2013، وتجاهلها التعهدات بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لدول مجلس التعاون الخليجي، وإذاعة «مواد إعلام معادية». وبعد أشهر، عاد السفراء الخليجيون إلى الدوحة، التي وافقت على الامتثال للمتطلبات السعودية والإماراتية الجديدة، لحل تلك الأزمة الدبلوماسية. وبعد ذلك، قام أمير قطر الشيخ تميم بن حمد، بتنسيق السياسة الخارجية للإمارة بشكل أوثق مع المملكة العربية السعودية، وإن لم يكن ذلك كافياً في نظر دول مجلس التعاون الأخرى. وهكذا، أصبحت قطر في ديسمبر 2015 عضواً مهماً في التحالف العسكري الإسلامي، الذي تقوده السعودية لمكافحة الإرهاب. وفي يناير 2016، سحبت الدوحة سفيرها من إيران تضامناً مع الرياض، بعد نزاع مع الأخيرة، على خلفية إعدام رجل الدين نمر الباقر نمر. وفي مارس من العام نفسه، انضمت قطر إلى الدول الخمس الأخرى في المجلس في تصنيف ميليشيا «حزب الله اللبناني» منظمة إرهابية. وفي ما يتعلق بسورية، بقيت قطر ثابتة في موقفها، متناغمة مع الموقف السعودي، بأن الأسد يجب أن يتنحى من أجل إيجاد حل للحرب الأهلية المستعرة في ذلك البلد.

فرصة إيرانية

ويبدو أن الأزمة الحالية دفعت قطر للتحول نحو مدار نفوذ إيران، عوضاً عن الانسجام مع محيطها الخليجي. وقد اغتنمت إيران الفرصة لدعم قطر منذ بدء الخلاف الدبلوماسي الشهر الماضي. في وقت تعتمد فيه الإمارة الغنية، التي تستورد أغلب حاجاتها من الغذاء، على معبر أبوسمرة الحدودي مع المملكة العربية السعودية لجلب 38٪ من وارداتها الغذائية (بيانات 2013). وعلى هذا النحو، فإن الحدود البحرية القطرية مع إيران، الوحيدة التي بقيت مفتوحة بعد الخامس من يونيو، أصبحت شريان الأمن الغذائي بالنسبة للدوحة، إلى جانب الممرات الجوية التي ظلت متاحة للبلاد.

ومنذ دخول الحظر حيز التنفيذ، قدمت طهران يومياً 1100 طن من الفواكه والخضراوات إلى هذا البلد. وأصبح ميناء بوشهر الإيراني مركزاً تجارياً رئيساً بين إيران وقطر. كما أثبت المجال الجوي الإيراني أهمية حيوية لرحلات الخطوط الجوية القطرية، منذ أن أغلقت البحرين والإمارات والسعودية أجواءها في وجه الرحلات الجوية من وإلى الدوحة. وعلاوة على ذلك، سمحت طهران بعبور السفن القطرية المحملة بالغاز الطبيعي المسال عبر المياه الإقليمية الإيرانية، كما أن الإمارات لم تقم حتى الآن بإغلاق تدفق الغاز القطري عبر خط أنابيب دولفين.

أبدت طهران اهتماماً منقطع النظير بالأزمة الحالية في الأسابيع الأولى، للظهور بمظهر من يقول للعالم إنه يريد السلام في المنطقة، فقد كان وزير خارجيتها محمد جواد ظريف، نشطاً بشكل ملحوظـ بدعوة الأطراف المعنية إلى الدخول في حوار لتسوية خلافاتها. وسرعان ما كثفت الدبلوماسية الإيرانية من اتصالاتها مع دول عربية وغيرها، مقدمة نفسها وسيطاً إيجابياً في الأزمة. إلا أن الجهود لم تلق نجاحاً يذكر، لأن طهران لم تكن يوماً طرفاً موثوقاً، وهي من بين أسباب الأزمة، في نظر أطراف الأزمة.

وفي الـ25 من يونيو، تحدث الرئيس الإيراني حسن روحاني، مع نظيره القطري عبر الهاتف، قائلاً إن «مساعدة اقتصاد قطر، وتوسيع العلاقات، خصوصاً في القطاع الخاص بين قطر وإيران، يمكن أن يكون هدفاً مشتركاً». مضيفاً: «طهران تقف مع قطر وحكومتها، ونعتقد أنه إذا كان هناك صراع بين دول المنطقة، فإن الضغط أو العقوبات ليست هي الطريقة الصحيحة لحل الخلافات». وبعد يومين، أعلن أن «مقاطعة قطر أمر غير مقبول». في المقابل، نشطت الأزمة الراهنة الحركة التجارية، وتضاعفت صادرات إيران من المواد الغذائية، فكانت أزمة الخليج في مصلحة القطاع التجاري الإيراني.

إلى ذلك، وجهت اتهامات إلى الحكومة القطرية بأنها تساند ميليشيات شيعية تدعمها إيران في بلاد الشام واليمن. وتعتبر علاقة قطر مع إيران مصدراً للتوتر والقلق بالنسبة لدول مجلس التعاون الثلاث، التي اتخذت إجراءات صارمة ضد الدوحة. وتسعى القوى الإقليمية إلى ردع النفوذ الإيراني في سورية واليمن.

التقرب من العراق

كان وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني، قد زار العاصمة العراقية، أواخر شهر مايو الماضي، والتقى رئيس الوزراء حيدر العبادي، وناقش مسألة فتح سفارة قطر في بغداد، في وقت تزايدت التوترات بين الدوحة والعواصم العربية الأخرى. وقبل يوم واحد من قطع العلاقات مع دول مجلس التعاون الخليجي، توجه رئيس مجلس النواب العراقي سليم الجبوري، من «الحزب الإسلامي العراقي»، المنتسب إلى جماعة الإخوان المسلمين، إلى قطر، واجتمع مع أميرها، لمناقشة الفرص الاستثمارية المتبادلة.

وحافظ العراق رسمياً على موقف «محايد» في الخلاف القائم في مجلس التعاون الخليجي بشأن السياسة القطرية. إلا أن العديد من المسؤولين العراقيين على مختلف انتماءاتهم الطائفية، طالبوا بغداد بالوقوف إلى جانب الدوحة. وقال الجبوري إن دعم قطر ضد المملكة العربية السعودية، سيكون في سياق «تعزيز المصالح العراقية»، وهاجم المسؤول العراقي السعودية على خطة واضحة، تهدف إلى التقليل من الضغط على الحكومة القطرية. ومع ذلك، لقي الجبوري، الذي يثير الجدل دائماً بتصريحاته وتصرفاته، دعماً من نائب الرئيس العراقي نوري المالكي، المتهم أيضاً بقتل مئات العراقيين السنّة دون محاكمة. ويعرف المالكي أيضاً بميوله الطائفية المتشددة. وقد وجد بعض المسؤولين في بغداد الفرصة للانتقام من الدول الخليجية التي تعارض سياسة بغداد الطائفية.

ومن المؤكد أن بغداد تفتقر إلى موقف سياسي موحد بشأن أزمة قطر، فقد أنحى نائب الرئيس العراقي إياد علاوي، باللائمة على الدوحة، بسبب خلافها المستمر مع دول مجلس التعاون الأخرى. ومع ذلك، فقد توالت التصريحات المساندة لقطر من عدد من المسؤولين العراقيين، الذين كانوا يتهمون الدولة الصغيرة، قبل سنوات فقط، بأنها وراء صعود تنظيم «داعش» المتطرف. وتدل التصريحات المؤيدة للدوحة على عودة الدفء للعلاقات العراقية القطرية. وبطبيعة الحال، فإن التأثير الإيراني في السياسة الخارجية لبغداد، سيحدد أيضاً أبعاد التقارب بين العراق وقطر.

ضامن أمني

وفي نهاية المطاف، لايزال الضامن الأمني لدولة قطر هو الولايات المتحدة. ومع الرسائل المتضاربة من إدارة الرئيس دونالد ترامب، فإن المؤسسة العسكرية والدبلوماسية الأميركية اتخذت موقفاً لمصلحة التهدئة، على الرغم من الضغوط على البيت الأبيض من قبل السعودية وغيرها من الجهات الفاعلة، لتغيير التحالف بين واشنطن والدوحة. وقد وقعت الولايات المتحدة وقطر أخيراً صفقة دفاعية بقيمة 12 مليار دولار، ما يشير إلى أن العلاقات الثنائية مازالت مرنة. وذلك، مع احتمال تغيير ترامب لسياسته تجاه قطر في أي لحظة.

وحتى مع بقاء واشنطن ضامناً للدفاع عن الدولة، فإن الحملة السعودية - الإماراتية لتغيير سلوك قطر، تجبر الدوحة على البحث عن حلفاء وشركاء بديلين إقليمياً وعالمياً، نظراً لأن سيادتها الوطنية معرضة للخطر، إن لم ترجع إلى الصف الخليجي. وعلى الرغم من أن طهران قد تكون حريصة على مساعدة الدوحة، فإن قطر تعلم جيداً أن الاعتماد كثيراً على إيران يحمل مخاطر عديدة. وهكذا، فقد قبلت قطر المساعدات الإنسانية والأمنية من تركيا، بالإضافة إلى الدول الأوروبية والآسيوية.

تيودور كوراسيك  كبير المستشارين في معهد تحليلات دول الخليج.

تويتر