مرض «قاتل» يزرعه الآباء «دون مبالاة» في أجساد الأبناء

الثلاسيميـــا.. «داء العــصـــر» في الخليج

في مركز الثلاسيميا، التابع لهيئة الصحة في دبي، أطفال بأعمار ما قبل المدرسة، يرقدون على الأسرّة الصحية، تحيط بهم أكياس الدم، وأجهزة طبية معقدة، لا يلهون مثل أقرانهم، ويعانون أجساداً هزيلة هزمها المرض.

لمشاهدة الموضوع بشكل كامل، يرجي الضغط علي هذا الرابط.


الثلاسيميا.. اسم لمرض خطر أو على الأدق «قاتل»، يولد به الطفل، ويعاني آلامه ومضاعفاته الصحية المزمنة مدى الحياة، ما يجعله ضيفاً أسبوعياً على أسرة المستشفيات، حتى تنتهي حياته في عمر مبكر.

وعلى الرغم من أن الثلاسيميا منتشر في مدن خليجية، بصورة يصفها أطباء وباحثون بأنها «أقرب إلى الوباء»، إلا أن الأغلبية الكبرى من المواطنين في الدول الخليجية يجهلونه، وحين يطرح اسمه أمام كثيرين، تعلو الوجوه علامات التعجب والاستفهام، مؤكدة أنها تسمع مصطلح «الثلاسيميا» للمرة الأولى.

أطباء وباحثون أثبتوا أن الثلاسيميا يسكن جينات نسبة كبيرة من الخليجيين، تزيد في بعض المناطق على 45% من السكان، لكن الأغلبية لا تقدر خطورته، ولا تعرف أنها، بجهلها له، تورثه للأبناء، وبعض الآباء يعلمون أنهم سينقلونه إلى الأبناء، لكنهم لا يبالون، ويتزوجون ليزرعوا في أجساد أطفالهم حياة قاسية، تبدأ بـ«آلام وعذاب، وتنتهي بموت مبكّر».

ويوماً تلو الآخر، تشهد المستشفيات مشاهد حزينة، أبطالها مرضى الثلاسيميا، فأقسام الولادة تسجل إنجاب اطفال مرضى بالثلاسيميا، وعلى بُعد خطوات، تودّع أقسام أخرى اطفالاً وشباباً قتلهم المرض نفسه.

«الإمارات اليوم» تواصل للعام الثالث على التوالي، حملتها الهادفة إلى التعريف بهذا «الوباء» أو «داء العصر»، كما يطلق عليه كثير من المختصين، أملاً في تنبيه المجتمع إلى خطورة هذا المرض، والمساهمة في نشر التوعية بكيفية الوقاية منه، للحدّ من إنجاب أطفال يعانون عذابه.

هؤلاء الصغار، يحتاجون إلى نقل دم بصورة شهرية منذ الأشهر الأولى لولادتهم حتى نهاية العمر، ولا يمكن لهم ان يستغنوا عنه نهائياً بأي علاج، فمريض الثلاسيميا اذا لم يحصل على وحدات الدم المقررة له، قد يصاب بمضاعفات صحية شديدة، خصوصاً الأطفال الذين قد يصابون بتأخر في النمو، وتراجع في وظائف الكبد والطحال والقلب، ثم الموت.

وإلى جوار هؤلاء الأطفال المرضى، كان يتابع علاجهم منسق عام المركز، الدكتور عصام ضهير، الذي يوصف بأنه «الأب الروحي لمرضى الثلاسيميا، فهو من أقدم الأطباء المتخصصين في علاج المرض في الإمارات ومنطقة الخليج، وينسب له الجهد الأكبر في تأسيس أول مركز لعلاج المرض في الدولة عام 1994.

الدكتور ضهير وصف الثلاسيميا بأنه «أحد أخطر الأمراض في المنطقة، والتصدي له أصبح أمراً حتمياً، للحد من إنجاب أطفال مصابين به».

وقال لـ«الإمارات اليوم»: ان الأطفال يصابون بالثلاسيميا وراثياً، اذ ينتقل إليهم من الأبوين، فالأب والأم يحملان المرض في جيناتهما، لكن لا تظهر عليهما علامات المرض، ولا يعانيان آلامه، ويعيشان حياتهما بصورة طبيعية، لكن للاسف يورثانه للأبناء.

وأضاف «اذا كان الأبوان حاملين للمرض في صفاتهما الوراثية، فإن نسبة اصابة الأبناء تكون: 25٪ جنين مصاب، و25٪ جنين سليم، و50٪ حامل للمرض في جيناته».

وبشكل أكثر تفصيلاً، قال ضهير: هذا المرض هو عبارة عن «خلل وراثي في تركيبة مادة الهيموغلوبين في الدم (خضاب الدم)، وتختلف شدة هذا الخلل ما بين بسيط غير مصحوب بأعراض، إلى خلل شديد أو خلل مميت».

وأضاف «لكل صفة من صفات جسم الإنسان هناك جين واحد تتم وراثته من الأب، وآخر تتم وراثته من الأم، يحددان هذه الصفة، وهناك جينان مسؤولان عن تحديد إنتاج الهيموغلوبين الذي ينقل مادة الأكسجين في الجسم، ويعطي الدم لونه الأحمر، وعند عطب هذين الجينين في الأبوين، وتوريثهما للأجنّة، يولد أطفال مصابون بمرض الثلاسيميا».

850 مريضاً في دبي

ولفت ضهير، وهو أخصائي أمراض الدم الوراثية، إلى أن عدد المرضى المسجلين في مركز دبي للثلاسيميا بلغ 850 مريضاً، منهم 450 يحتاجون إلى نقل دم بصورة دائمة، في حين يحتاج المتبقون إلى الدم على فترات متباعدة.

وأشار إلى أن بعض الأطفال المرضى في المركز، مازلوا رضّع تبلغ اعمارهم اربعة أشهر فقط، ويخضعون لعمليات نقل دم شهرية لحمايتهم من مخاطر المرض.

وشرح أن نقل الدم إلى مريض الثلاسيميا، هو أول وأهم إجراء ذي فعالية لبقاء المريض على قيد الحياة، وله فوائد كثيرة، بما فيها إيقاف مضاعفات فقر الدم، والسماح بالنمو والتطور بصورة طبيعية أو شبه طبيعية، لافتاً إلى أنه يجب البدء بنقل الدم في مرحلة عمرية مبكرة، عندما تظهر الأعراض على الطفل، وبعد فترة أولية من المراقبة، لتقدير ما إذا كان بمقدور الطفل المحافظة على مستوى مقبول من الدم دون الحاجة إلى عملية نقل دم متكرر.

زراعة النخاع.. حلم المرضى

لكن هل هناك علاج لهذا المرض؟ يجيب ضهير: للأسف هذا المرض يلازم المريض حتى نهاية حياته، لكن قبل سنوات قليلة ظهرت عمليات جراحية لزراعة النخاع، ونجحت هذه الجراحات في علاج بعض المرضى.

ويضيف: هذا النوع من الجراحات لا يناسب كل المرضى ولا يصلح لكل الأعمار، اضافة إلى أنه يجرى في مراكز محددة في العالم، وتزيد كلفة العملية والواحدة على مليون درهم، وهو مبلغ كبير جداً، لا يقدر على تحمله كثير من المرضى.

وينقل ضهير مطالب عدد كبير من المرضى بإنشاء مركز لزراعة النخاع في الدولة، باعتباره الأمل الوحيد لمئات المرضى في الدولة للشفاء من الثلاسيميا.

إذن، ما الحل الناجع لمنع إنجاب أطفال مرضى بالثلاسيميا؟ السؤال انتقلت به «الإمارات اليوم» إلى إمارة رأس الخيمة، وتحديداً إلى الدكتورة مريم درويش، وهي واحدة من الأطباء القلائل المتخصصين في علاج مرض الثلاسيميا في وزارة الصحة، وهي مسؤولة عن متابعة المرضى في رأس الخيمة. وتجيب درويش «الحل في منع زواج حاملي جينات الثلاسيميا»، موضحة أن هناك أشخاصاً حاملين للمرض في جيناتهم، وهؤلاء يعيشون بصورة طبيعية ولا يعدون مرضى، وهناك آخرون مرضى بالثلاسيميا، وهم ضيوف دائمون على المستشفيات.

وتضيف بشكل قاطع: اذا ما توقف زواج حاملي المرض، فلن تستقبل مستشفيات الدولة مواليد مصابين بالثلاسيميا، وهو أمر تحقق فعلاً في أكثر من دولة ومدينة أوروبية.

وتشير درويش إلى أن الإمارات طبقت منذ سنوات عدة نظام فحوص ما قبل الزواج، وهو اجراء إلزامي قبل عقد القران، يكشف حاملي جينات مرض الثلاسيميا.

وتضيف «يهدف هذا الإجراء إلى توعية حاملي المرض بأنهم سينجبون أطفال مرضى بالثلاسيميا، وهو أمر يستدعي عدم إتمام الزواج».

وتقول «رغم أهمية هذا الفحص إلا أنه لم يخفف من عدد المواليد المصابين بالمرض، فنسبة كبيرة من المقبلين على الزواج اذا ما علموا بأنهم حاملون لجينات المرض، يستمرون في اتمام الزواج، ثم ينجبون أطفالاً مرضى»، مضيفة «هناك حالات تراجعت عن فكرة الارتباط، وهؤلاء يستحقون كل التقدير، كونهم شعروا بخطورة زواجهم».

وترى دوريش أن الدولة بحاجة ماسّة لإطلاق حملات توعية وتثقيف واسعة، توضح للمجتمع خطورة مرض الثلاسيميا، وتسهم في تعزيز مبدأ عدم زواج حاملي المرض.

لجنة وطنية عليا

هناك حل آخر لمواجهة مرض الثلاسيميا، يطرحه الدكتور محمود طالب آل علي، وهو استشاري الأمراض الجينية وأمين عام جائزة «سلطان بن خليفة العالمية للثلاسيميا»، اذ يدعو إلى تشكيل لجنة وطنية عليا، تكون معنية بمرض الثلاسيميا والأمراض الوراثية، مشدداً على أن «تشكيل هذه اللجنة سيكون بمثابة الحل الجذري للحد من المرض».

ويوضح ان كل قطاع صحي حكومي في الدولة يواجه مرض الثلاسيميا وفق خطة تختلف عن خطة القطاع الآخر، لكن بإنشاء لجنة وطنية سيتم توحيد جهود التوعية والتثقيف بالمرض، وسيتم وضع برامج واحدة للعلاج، وإصدار قرارات هدفها تقليل حالات زواج حاملي جينات المرض.

ويقول «اذا ما تم تشكيل هذه اللجنة برئاسة متخصصين في مواجهة الثلاسيميا والأمراض الوراثية، فسيتم وضع استراتيجية واضحة المعالم، تنفذ على سنوات محددة، للوصول إلى الهدف الرئيس، وهو مجتمع خالٍ من الثلاسيميا».

تويتر