5 دقائق


لايزال الهلال والفلك حديث الناس واضطرابهم كل عام، وكأن هذه المسألة في معزل عن الفقه الإسلامي، أو أن العلماء في عماية عنها، مع أنها من صميم تخصصهم، ومن المسائل المكررة عليهم، فلماذا لا يردّها الناس إليهم كما أمر الله تعالى؟! وفي اليوم التاسع والعشرين من شهر رمضان كنت في حديث ودّي تخلله بحث فقهي مع بعض أصحاب الفضيلة العلماء الفلكيين حول إمكان رؤية الهلال هذه الليلة، فقال لي: إن رؤية الهلال الليلة مستحيلة؛ لأنه يغيب قبل غروب الشمس بسبع دقائق، وغداً سيكون متمم الثلاثين، وهناك عوامل سياسية تؤيده، فلما كان المساء فتح تلفزيون الشارقة برنامجاً مباشراً مع لجنة تحري الهلال، وكانت اللجنة تنافح عن رأيها أنه لا يمكن أن يُرى الهلال الليلة ولو بواسطة الآلات المكبرة - التلسكوب - وإذا بنا نفاجأ بعد بضع دقائق بإعلان هلال شوال وحلول عيد الفطر، فقلت سبحان الله! ما أسرع ما تغيرت الحقائق العلمية، كيف رؤي الهلال مع عدم إمكان رؤيته علمياً؟

 

إن دعوى رؤيته إذا  لم تحتمل فلكياً، بأن كانت ولادة الهلال مستحيلة فلكياً، ودلّ الحساب القطعي على عدم إمكان ولادة الهلال في تلك الليلة، ففي هذه الحالة يتعين رفض دعوى الرؤية؛ لأن الرؤية ظنية إذا كانت من آحاد، والحساب قطعي إذا كان مبنياً على مقدمات يقينية لا يختلف عليها علماء الفلك، كما حصل في هذه الليلة التي أجمع الفلكيون على استحالة رؤيته هلالاً؛ لأن ولادته وغيابه على جميع الأقطار كانت قبل بضع دقائق من غروب الشمس، ولا يصير هلالاً يُرى إلا بعد نصف يوم على الأقل، فهذا الحساب القطعي لا يترك  للظنيات، وأخبار الآحاد، كما قرر ذلك العلامة تاج الدين السبكي في العلم المنشور في إثبات الشهور «صفحة 25»، حيث قال: «فإذا سلمت البينة من هذه الأمور - يعني قصد الشهادة من أجل التدين بتصويم الناس، أو بقصد إثبات تزكية نفسه بقبول شهادته - وسلم موضع الهلال من الموانع، وحاسة الشاهد من الآفات، فعندئذ نقبل شهادته إذا جوزنا الرؤية، فإن أحلناها بدليل قام عندنا، لم نقبل تلك الشهادة، وحملناها على الغلط أو الكذب، ولم نكن بذلك خارجين عن القانون الشرعي، قال: لأن دلالة الحساب القطعي أو القريب من القطعي على عدم الإمكان أقوى من الريبة، والريبة موجبة لرد الشهادة، فاعتقادنا عدم الإمكان كذلك أو أقوى. 

 

وقرر هذا أيضاً العلامة شهاب الدين القليوبي في حاشيته على شرح المحلي للمنهاج  2/49 نقلاً عن العلامة العبادي، فقال: إنه ظاهر جلي، ولا يجوز الصوم حينئذ، ومخالفة ذلك معاندة ومكابرة.  وقرره كذلك العلامة السيد محمد بن عبدالرحمن الأهدل في عمدة المفتي والمستفتي 1/210، وقال: إن السبكي لم يعتبر الحساب في إثبات الصوم، وإنما أبطلها؟ أي الشهادة - به؟ أي الحساب؛ لأنها  ــ أي الشهادة ــ مخالفة للحس والعقل، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «على مثل هذا فاشهد». كما أخرجه البيهقي في الشعب من حديث ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: وهذه قرائن تدل على أن الشاهد اعتمد الظن،  قال: فهو؟ أي السبكي؟

 

لم يعتبر الحساب في الصوم والفطر، وإنما رد به الشهادة لمخالفتها للحس. فهذا هو التحقيق العلمي الذي لا يجوز الاختلاف عليه في إثبات الأهلة، فلماذا يترك للظنون، ومع كل ما حدث - وكان الأجدر ألا يحدث، ولا يتكرر - فإن عيدنا كان صحيحاً شرعاً وإن لم يكن صحيحاً واقعاً، ولا نكلف بأكثر مما فعلنا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سنَّ لنا أن «الأضحى يوم يضحي الناس، والفطر يوم يفطرون»، والشهر يكون 29 ويكون 30، وإن كان من إثم فهو على أولئك المدعين، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

* كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء بدائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بدبي
تويتر