الإماراتيون يبادلونها الوفاء ويعتدّون بسلالاتها النادرة

الإبل.. إرث لم تمحُه سيـارات الدفـع الرباعي

صورة

مع اعتدال حـرارة الجـو في مثل هـذا الوقت من كل عام، يشهد (بر الإمارات) ازدحاماً وحركة غير عادية، عندما تباري كل سيارة دفع رباعي مع شروق الشمس وإطلالة يوم جديد، مجموعة من الإبل، متجهة نحو مقصدها للوصول إلى الريس «ميدان سباق الهجن».

والمار بجوار هذه الأماكن يستغرب هذا المشهد، خصوصاً عندما يرى ضيوفاً أجانب كثر يفدون إلى الريس، ومن الوهلة الأولى يتوقع أنها مسيرات فرح وأعراس لا تخلو من مدعوّين أجانب، ولكن المتتبع لها وبوصولها إلى وجهتها يكتشف أنها مسيرات، من أجل الوصول إلى مضامير السباق والفوز بالناموس، والاحتفال بالجوائز، وإتمام صفقات بيع وشراء الإبل والهجن.

والعالمون ببواطن الأمور لا يستغربون هذا المشهد، إذ عُرفت الإمارات منذ قديم الزمان بأنها موطن الجمل العربي، إذ كانت الإبل، وعلى مدى آلاف السنين، جزءاً لا يتجزأ من نسيج الحياة بالنسبة إلى القبائل الإماراتية، بسبب قدرتها على الصبر والتحمل، في ظل الظروف الطبيعية والمناخية القاسية في الصحراء.

«عنايد والشديد»

يقف الطفل سلطان سعيد عبدالله، (ست سنوات)، بجوار «عنايد والشديد» في ميدان التلة بعجمان، قائلاً: «سبق وأن سجل والدي (عنايد والشديد) باسمي في السباق نوعاً من التفاؤل، ومن يومها شاركت بـ«عنايد» كفطيم و(الشديد) قعود، وقد فازت (عنايد)، وتأهل (الشديد)، ما زاد تعلقي بالإبل، وأصبحت أذهب مع والدي يومياً للعزبة واعتني كثيراً بالنوق الموجودة، وأصبحت على ارتباط وثيق معها، أقدم لها الغذاء وأقوم برعايتها، وتعلمت منها الصبر والقوة وقهر الصحراء وقساوتها».

واليوم وأمام زحف الحضارة الحديثة تراجع دور الإبل في حياة سكان الإمارات، إلا أن البعض لايزال متمسكاً بها جزءاً من التراث، ووفاءً لما درج عليه الأجداد، وباتت تربية الهجن تجد إقبالاً كبيراً من محبي هذه الرياضة، خصوصاً بعدما وجدت الدعم الكبير من الدولة، ما دفع بكثير من الشباب إلى ممارسة هذه الهواية.

يتذكر المواطن علي بن ضبيب العامري، في مجلسه المُقام على أحد الكثبان الرملية في «واحة ليوا»، الأيام الخوالي بحلوها ومرّها، ولكن عندما يأتي الحديث عن الإبل يستوي ويعتدل في جلسته ويمد بصره بعيداً فوق الكثبان الرملية، ويتذكر رحلة طويلة شاقة اعتاد أن يقوم بها فوق ظهور الإبل إلى مدينـة زايد، التي تبعد عن الواحة نحو 100 كيلومتر، فتستغرق الرحلة نحـو يومين ذهاباً ومثلها إياباً.

يقول العامري: «سكّنا في هذه الواحة الواقعة على تخوم الربع الخالي، وكانت تسكن معنا في هذه الواحة قبائل كثيرة، واعتدنا الذهاب إلى مدينة زايد وأبوظبي على ظهور الإبل، ولكن كانت رحلتنا تزداد صعوبتها عندما يكون معنا مريض نطلب له العلاج في أبوظبي فتأخذ الرحلة أسبوعاً لنصل وجهتنا».

وقصة هذه الرحلة ليست انتقال من مكان إلى مكان فحسب، إنما تختصر بتفاصيلها علاقة القبائل العربية الوثيقة مع الإبل، التي تشكل بالنسبة لها وسيلة نقل ورفيق درب في هجير الصحراء الموحشة، ومصدراً للحم واللبن والوبر، الذي يستخدم في نسج السجاد والخيام والملابس.

ويضيف العامري: «كانت مدينة زايد أرضاً جرداء تخلو من الحركة والحياة، لا نفرق بينها وبين الكثبان الرملية حولها، إلا ببعض آبار المياه، والتي منها (البابه والطوي وبدع ثلاب واليربوب)، ثم أمرنا المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، قبل الاتحاد، أن نحفر مزيداً من الطوايا فحفرنا «طوي» وسميناه (بدع زايد)، وفي ما بعد أصبحت (مدينة زايد) في المكان نفسه، والآن الإمارات في عصر الازدهار والتقـدم والحضارة، لكننا نهتم بإبلنا أكثر مـن اهتمامنا بسيارات الدفع الرباعي، لأن لها عشقاً خاصاً في نفوسنا، وهي موروث شعبي يهم الجميع».

ويلتقط الشاب عبيد بن ثعيليب العامري، أطراف الحديث قائلاً: «في عصر السرعة والتكنولوجيا المتقدمة والطائرات والسيارات لاتزال الإبل (سيدة الصحراء)، ومازالت تغري عشاقها بالرهان على سرعتها وجمالها واقتناء سلالاتها النادرة، وسكان البادية لا يستبدلون الجمل بوسائل الرفاهية الحديثة، لأنهم يعتبرونه جزءاً من تراثهم، وصديقاً وفياً لهم في أحلك الظروف». ويضيف: «تتحول البادية كل عام، خلال فترة الشتاء، إلى أشبه بإحدى المدن الرئيسة، لما تشهده من كثافة الزائرين الذين يفدون إليها من كل المدن، إضافة إلى دول الخليج العربي، للاشتراك ومتابعة السباقات، ما يخلق سوقاً رائجة للإبل في الدولة، فيما يحتفل أهل الإبل الفائزون بأهازيج وأشعار وقصائد بإبلهم».

ويتابع العامري: «ليس غريباً أن تهتم شريحة كبيرة في المجتمع الإماراتي بالإبل، فأينما ذهبت إلى صحراء واسعة، أو وادٍ سحيق، أو ساحل ممتد، أو هضبة مرتفعة، أو حتى جبل شاهق، في أرجاء الإمارات المختلفة، تجد الإبل العربية عالية القامة تتبختر في مشيتها تذكرك بالماضي وذكرياته والحاضر وإنجازاته والمستقبل وطموحاته». ويواصل: «الإبل تأصلت في أفئدة المهتمين بها، ونمت في وعيهم، واستأثرت بالمنزلة الكبيرة في كيانهم الاجتماعي والاقتصادي، حتى باتت شعراً رقيقاً ومثلاً شعبياً وقولاً مأثوراً، فضلاً عن الحكمة الصائبة والموعظة الحسنة».

ونوّه في هذا الإطار، باهتمام الدولة بالمحافظة على التراث الإماراتي، والذي تلعب فيه الإبل دوراً بارزاً، فقد تم تخصيص مناطق لإقامة عزب «حظائر» خاصة بالهجن، بأحدث المواصفات، وتم تجهيزها بمضامير سباق حديثة، مثل الوثبة، وسويحان، والسمحة، والخزنة بأبوظبي، وفي منطقة المقام بمدينة العين، وفي ند الشبا في دبي، وكذلك في مدينة زايد وغياثي وليوا والسلع بالمنطقة الغربية، والذيد بالشارقة، والتلة في عجمان، والسوان في رأس الخيمة، واللبسة في أم القيوين، إذ تشهد كل هذه الميادين منافسات قوية، من أجل الفوز بالجوائز المخصصة لكل سباق.

وأضاف العامري: «اليوم تطورت سباقات الهجن وأصبحت أكثر تنظيماً وتطويراً مع وجود اتحاد سباقات الهجن، ومع دخول الركبي الآلي، وهذا انعكس بالتالي على الهجن والعناية والاهتمام بها حتى أصبحت أسرع من قبل في السباقات».

وتابع: «أناشد المسؤولين إنشاء أكاديمية للهجن، على غرار الأكاديميات الأخـرى، لتعليم (التضمير والعلاج)، والتعامل مع الإبل والهجن عن قرب، ونقل الخبرات التي في الصدور إلى سطور الكتب، عبر الاستفادة من خبرة كبار السن، وبالتأكيد الأشخاص المبحرين مع هذه التقاليد العريقة التي تمتاز بها الإمارات للحفاظ عليها».

وانتهى للقول: «هذه المنافسات تتعدى كونها مهرجانات يلتقي فيها المتنافسون لحصد الجوائز إلى دخول الإبل عصر التقنيات الحديثة»، لافتاً إلى أن «تكريس الاهتمام بها سيجعلها تنافس في صنع السياحة الصحراوية، والمشاركة في توفير الأمن الغذائي، من خلال طاقاتها الإنتاجية الكامنة، ودعمها في علاج الأمراض، من خلال مكنوناتها الطبيعية المخبأة».

من جانبه، يقول المواطن سالم بن المتفيج الكتبي، من منطقة المدام: «الهجن الإماراتية بصفة عامة يمكن تصنيفها كإبل متعددة الأغراض، فهي تصلح للركوب، أو السباق، كما يتم تربيتها للحمها أو حليبها، ويحرص الإماراتيون على هذه الحرفة بعد أن أصبحت تدر عليهم دخلاً عالياً، خصوصاً تربية إبل السباق، إذ يصل سعر الواحدة منها إلى ما يزيد على مليون درهم».

ويضيف: «تختلف تربية إبل السباق عن الإبل التي تعد للنقل والترحال، فالأولى تقدم إليها أغذية خاصة كعسل النحل والسمن وحليب البقر، وهي جميعها محلية وتحظى كذلك بعناية خاصة، من حيث نظافتها ومتابعة حالتها الصحية بشكل يومي، وهناك أربع مراحل مهمة لإعداد الناقة لتكون من إبل السباق وهي: الاختيار ومرحلة الترويض، ومرحلة التضمير، ومرحلة التأهيل للسباق».

وشدد على أن سباق الهجن والعناية بها وتربيتها لا تعد رياضة فحسب، بل واحدة من العادات والتقاليد القديمة التي لازمت العرب منذ القدم وخصصوا لها الجهد والوقت الكبيرين، إذ حظيت ميادين الهجن بدعم كبير لا ينسى من المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الذي أولى سباق الهجن الاهتمام البالغ وغير المسبوق، وكانت له إسطبلات تضم مشاهير النوق التي تُعرف بـ«الأصايل». ويتابع: «من السلالات التي تتميز بها الإمارات (مصيحان) و(صوغان) و(بن ضبيان)، فمن سلالات (مصيحان): هملول وخديدات وشاهين».

بدوره، يقول المواطن محمد سالم بن ثعلوب الكتبي، من مدينة العين: «الجمل بالنسبة للبدوي ليس مطية فقط، فمن الناقة يأتي الحليب الذي كان الأطباء الشعبيون يصفونه مصدراً للقوة والصحة، ويجلب البدوي ناقته في الصباح الباكر قبل أن تنشر (أي تذهب للرعي)، وعندما ترجع وقت الغروب يوضع الحليب في (قدر) ويجلس أفراد العائلة في دائرة، بينما يطوف القدر على كل فرد منهم».

ومضى يقول: «رغم أن البدو في البادية قد تحضروا في العقود الأخيرة، لكن مازال حليب النوق مفضلاً لديهم ولا يستغنون عنه». ويضيف: «مذاق حليب الناقة أشهى عندما يشرب بعد حلبه مباشرة، إذ يكون دافئاً في تلك الأثناء، وهو يختلف عن نظيره المحلوب من الأغنام أو الماعز أو الأبقار، لكونه حلو المذاق، لأن نسبة السكر فيه أعلى، إلا أن على من يشربه للمرة الأولى اتخاذ الحذر». ويتابع الكتبي: «يستفيد قاطنو الصحارى من الجمال في أشياء متعددة، فلحمها يقدم في الولائم الكبيرة، ومن صوف الجمل تصنع الخيام وبعض مشغولات الغزل، بل وحتى روث الجمل له فائدة إذ يحرق للتدفئة في ليالي الشتاء الباردة، أو حتى لعمليات الحساب والعد قديماً». ويقدر عدد الإبل في الإمارات بنحو نصف مليون رأس، حسب آخر إحصاء لوزارة البيئة والمياه.

تويتر