معرض استيعادي للفنان الراحل في أيام غاليري بدبي

مصطفى فتــحي.. أعمال من رحم الحـضارات القديمة

صورة

لعل أول ما يلاحظه المتلقي لدى دخوله المعرض الاستيعادي للفنان مصطفى فتحي، الذي افتتح أخيراً في أيام غاليري بدبي، هو الصلة الوثيقة بالتاريخ، فتبدو أعمال فتحي كما لو أنها ولدت من رحم الحضارات القديمة، فأعماله غنية بالرموز التي تشبه الكتابات القديمة التي عرفت بالعصر الحجري وما قبل الحرف، ولكنها تبقى كتابات بلا كلام، تجعلنا على ارتباط وثيق بالماضي والحاضر في آن، وكذلك في تطلع نحو المستقبل، فلوحته عابرة للأزمان، وتتخطى الحضارات التي أتت منها.

سيرة

ولد الفنان مصطفى فتحي بدرعا في سورية عام 1942، درس فن الحفر بكلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق وتخرج فيها عام 1966، وفي عام 1978 نال الدبلوم في فن الحفر والطباعة من المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس، وعرض أعماله في المعرض الدولي للرسم في باريس، كما عرض أيضاً في صالة الفن الشبابي في العاصمة الفرنسية عام 1987، إلى أن حصل عام 1988 على بعثة دراسية حول الفنون التقليدية والشعبية السورية، فأنجز أعمالاً مستوحاة من تقنيات الطباعة على الأقمشة بوساطة ألواح خشبية.


معارض

على الرغم من كون الفنان الراحل لم يكن يولي أهمية لبيع الأعمال بقدر اهتمامه بالعملية الإنتاجية بحد ذاتها، إلا أنه أقام مجموعة من المعارض الفردية. بدأ أول معارضه في باريس حيث اتضحت مسيرة الفنان عبر معرضه الشخصي الأول الذي أقيم في نيل، وتبعته مجموعة من المعارض في فرنسا حتى أواخر الثمانينات. ثم قدم معرضاً في المركز الثقافي الفرنسي في عمان في عام 1990، وأقام أيضاً معرضاً في ألمانيا. انطلق فتحي بين 1995 و2007 باتجاه البحث والدراسة، وأقام المعرض الفردي الأخير له في متحف الفن المعاصر في اللاذقية عام 2008، وتوفي عام 2009.

 

تحمل أعمال فتحي، عبر المساحات اللونية التي يختارها الفنان بين درجات البني والبيج في أغلب الأوقات، رموزاً غير مفهومة، فتبدو كما لو كانت رسومات من العصر الحجر، أو أنها وجدت في الكهوف القديمة، حيث كان الرسم لغة التواصل وتجسيد الطبيعة المحيطة، أو أنها تعود للكتابات الأبجدية القديمة، فهناك تشابه بين الرموز التي يستخدمها وبعض الكتابات المسمارية أو الهيروغليفية. ينجز الفنان هذه اللوحات من خلال الأختام الخشبية التي يحفرها والتي تعد أساس اللوحة، وكذلك من بعض الأشكال التي يجدها في الطبيعة، ما يجعل العمل شديد الإخلاص لبيئته من جهة، وكذلك للتاريخ الذي يأسرنا من جهة أخرى. تحمل الأعمال في طياتها دعوة صريحة إلى توغل الرموز ومحاولة فهمها، فتبدو اللوحة حاملة لمفهوم التجريد أحياناً، ولاسيما في الأعمال التي يرسمها على شكل خطوط متقاطعة ومتعاكسة في العمل، كما أن المتلقي يكون أمام تحدي فهم كل ما اكتنزته الأعمال من خبرات وثقافات.

 يحتفي فتحي بالطبيعة، وهذا لا يتجلى من خلال المواد التي يستخدمها والخشب الذي يحفره فحسب، بل حتى الأشكال، فهي غالباً أشكال حيوانات أو نباتات، نرى من خلالها التغني بهما، وبجمالها، فالرموز المحفورة تعكس المحيط المحسوس من خلال الخطوط التي تبدو مستقيمة ومنحنية. يترجم الفنان المحيط الذي يعيش فيه من خلال أعماله، فهو يعمل في الريف وفي درعا تحديداً، ما يجعل أعماله غنية بأجواء المكان الذي تولدت فيه، فحتى ألوانه تعود وتنتمي إلى الرمل والتراب الذي يحيطه. ولعل هذا الارتباط الوثيق بالبيئة المحيطة هو الذي يفسر توجه الفنان إلى فئة لونية معينة، تجعل الأعمال متدرجة بألوان التراب، ثم تتقاطع بداخل هذه المساحة اللونية المتجانسة في العمل ألوان الأبيض والأسود، حيث يختارهما للأختام، أو أنه يضع الأختام بألوان مشتقة من اللوحة نفسها بأسلوب يعكس فيه الظل والنور في تدرجات اللون، في حين أنه يختار وضع الأختام على القماش الأبيض من دون أي لون في الخلفية ليتركها تحتل اللوحة بالتركيب والتمازج الغني.

يحمل المعرض 12 لوحة وستة رسومات على ورق وبعض الأختام الخشبية إلى جانب بعض الصور التي تظهر جوانب من حياته. وتبرز الأختام العمل الشاق في الحفر، والفن العصي على التكرار، بينما تأخذنا صوره الشخصية إلى بيته ومرسمه، وتظهر لنا كيف يعمل ويجلس، وتبرز انفعالاته ومشاعره وعالمه. توضح الصور البيئة التي خرجت منها الأعمال، وكذلك عالم الفنان البسيط، والمحاط بالفن من كل جانب، فتبدو الصور منغمسة في الذكريات الحلوة التي تفيض منها المشاعر. ولعل أبرز الصور اللافتة هي التي في مرسمه، حيث تبرز كيف هو محاط بالأعمال، فالخشب المركب والكراسي تبدو معلقة في سقف الغرفة، أو حتى مرمية على الأرض، إلى جانب الأختام التي تملأ الرفوف، ثم نجد كيف يضع على الأرض تركيبة كولاجية لبقايا عظام الحيوانات.

الزخرفة لها مكانتها في اللوحات، فالفنان ليس بعيد عن إبراز بعض جوانبها في أعمالها، فالأشكال التي يبتكرها من خلال الأختام تبرز المراحل التي يعمل فيها على تكوين اللوحة، وكيف تبدو صياغة العمل وفق الزخرفة عملية شاقة وطويلة، الزخرفة تبدو ذات تراكيب نباتية وحيوانية فهي تحمل توجهاً هندسياً، كما تبرز التأثيرات الاسلامية لنقوشه.

 كل هذه التوليفة اللونية تجعل عمل فتحي خاصاً في ابتعاده عن بدائية الفن الذي يحاول ترجمته، فهو على الرغم من إصغائه لصوت الحضارات المنصرمة، إلا أنه يدرك كيف يمزجها ويترجمها في فن معاصر ما يجعل لوحته محاكية لزمنها. كما أن هذا الخليط المبهر للعين، يجعل لوحة فتحي عصية على التكرار، فالفنان لا يضع أختامه إلا وفق توزيع متساوٍ للأشكال المسطحة والمرصوفة وفق إيقاعات ودرجات متباينة، فيمزج في العمل الواحد كمية كبيرة من الأختام التي تجعل المتلقي يقف أمام لغز أو نص، فاللوحة أشبه برسالة غير معلنة وعلى المتلقي فك رموزها.

في الختام يمكن التأكيد على أن أعمال فتحي أشبه بالموسيقى التي تتجاوز عصبية الزمان والمكان، فهي مزيج من المفردات اللونية الخاصة، وكذلك الرموز والأشكال والزخارف التي تعبر عن أبجدية فنية شاملة.

وقال عيد سماوي، الشريك في أيام غاليري، حول اختيار الأعمال للمعرض «اخترنا أعمالاً محدودة، لأن كل أعمال الفنان تظهر رؤيته، وكانت الفكرة أن نبرز أعماله في الثمانينات لأنها كانت الأعمال المخبأة، إلى جانب أعمال من التسعينات بينما لم نعرض من آخر أعماله إلا عملاً واحداً وهو العمل الذي يعود لعام 2001».

ولفتسماوي إلى أن الفكرة من المعرض تكمن في إظهار رؤية خاصة، فعمل فتحي كان معاصراً وكان يحمل البصمة نفسها، والمتغير الوحيد هو الأدوات والألوان، ونحن هنا نبرز كيف طور عمله عبر السنوات. وأشار إلى وجود الأسلوب البدوي في عمله، وكذلك العودة للطبيعة، مشيراً إلى أنه كان يعيش حياة الفلاحين في القرية، وعلى الرغم من ذهابه للمدينة للتدريس إلا أنه كان يقدم ما هو متأثر بالقرية التي يعيش بها. ولفت سماوي إلى أن «أيام» يختار مجموعة من الفنانين الذين يعرض لهم وهذا يعود إلى أهمية عرض مسيرة بعض من نعمل معهم ولاسيما الفنانين الذين كانوا من أجيال قديمة ولم تعرض أعمالهم منذ مدة طويلة، وأشار إلى أن فتحي لم يكن يرتبط بصالات العرض، ولم يبع الكثير من لوحاته بهدف المال، وقد باع أعماله في فترة مرضه، كما أن تعامل «أيام» معه جاء في الفترة الأخيرة من حياته، وهذا يعد من حسن حظ الصالة، مشيراً إلى أن الغاليري لم يعرض كل أعماله في هذا المعرض.

تويتر