عن أعماله الأخيرة في «آرت سوا» دبي

الرواس.. مـــــن اللوحة إلى التركيب الثلاثــي الأبعــــــاد

صورة

انتقل الفنان اللبناني محمد الرواس إلى منحى جديد في أعماله الفنية، فقد خرج عن إطار اللوحة، وبدأ بتقديم أعماله بشكل ثلاثي الأبعاد، حيث يقدم غاليري «آرت سوا» في دبي أعماله الأخيرة التي اختزل فيها تجربة قديمة مع المعادن والأسلاك والدمى التي كان يلصقها على اللوحات، ليبني منها اليوم مركبات تكاد تشبه الآلات الفضائية، مقدماً العنصر المادي والتركيبي على اللون. ويُخرج الرواس من خلال هذه الأعمال المواد التي لطالما رافقته في لوحاته الى حيز التركيب، ليجعلها قادرة على رواية حكاية متسلسلة عبر المرأة التي مازالت مفتاح العمل لديه والعنصر المحرك فيه.

سيرة فنية

ولد الفنان اللبناني محمد الرواس عام 1951، ودرس الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية. تخرج في الجامعة مع بداية الحرب الأهلية، الأمر الذي دفعه للمغادرة إلى المغرب، حيث استقر هناك عامين. بدأ بتدريس الفن عام 1981 في الجامعة اللبنانية، وفي الجامعة الأميركية في بيروت. أقام مجموعة من المعارض الشخصية، وشارك في أكثر من 40 معرضاً عالمياً. حصل على مجموعة من الجوائز العالمية، منها جائزة بينالي الإسكندرية عن أول عمل تركيبي له، وفيديو حمل عنوان «اجلس من فضلك».


مواد

تعد المواد العنصر الأساسي الذي ميز مسيرة الرواس، فخلال مسيرة فنية تجاوزت 20 عاماً، كانت المادة اللونية الأساس الذي يرتكز عليه ليقدم لوحاته المحسوسة أيضاً، والتي كان يحاول أن يكسبها الأبعاد الثلاثية وهي مثبتة على الجدار. هذا التوجه الفني الذي ميز أعمال الرواس جعله حتى اليوم يبدو فناناً شاباً، على الرغم من كونه من المخضرمين، لكنه شديد الابتعاد عن الكلاسيكية، ودائم التطلع الى الابتكار في توظيف المادة في العمل الفني.

لطالما اتخذ الرواس من اللوحة مكاناً صريحاً للتعبير عن رؤية لا تقف عند حدود اللون، فقد كانت لوحاته تحتمل الكثير من المواد، كالأسلاك والبراغي، والصحف، والكتابات والدمى الصغيرة. كل هذه العناصر كانت أساس لوحة الرواس التي تنحى عنها قليلاً اليوم، مسخراً اياها للعمل التركيبي الثلاثي الأبعاد، ليروي من خلال هذه العناصر الكثير من القصص عن متعة التقديم، فيبدو كأنه يسعى جاهداً الى رصد حالات بشرية، ولاسيما أنه يضع النساء في حالة تأهب كأنهن في معركة أو مغامرة، فيبني الأعمال عبر طبقات من القطع البيضاء التي ترتبط في ما بينها بالأسلاك المعدنية، تتشابك وتتدرج، فيبدو العمل في نهايته شبيهاً بمركبة فضائية. تقف على المركبة التي يشيدها الرواس امرأة قوية الملامح، تارة تبدو بنظراتها كأنها امرأة عاشقة، وتارة امرأة قوية تتحدى كل ما يواجهها، ما يجعلها الشخصية التي تفصح عن تداعيات أعمال الرواس عبر الأمكنة، تحمل أفكاره ومكنوناته الداخلية، فهي امرأة صريحة في التعبير عن ذاتها، ويتجلى ذلك من خلال الحركات الجسدية التي يمنحها إياها، حيث يتجنب الرواس السكون، كأنه يقتحم الهدوء القلق المجاور بحركة قوية تكسر الصمت. هذه الشخصية التي تسيطر على العمل، تبدو كما لو أنها مأخوذة من الأفلام العلمية والخيالية، أو حتى الأفلام اليابانية الخيالية، فهي امرأة تشبه النساء الخارقات.

يقودنا الرواس في أعماله الى تفكيك الرموز وتحليل المعنى، يملأ العمل بالمواد والتناقضات، ويدفع المتلقي الى البحث عن نقطة البداية والنهاية في رواية يختصرها بشكل بصري. لا حدود للعنصر المادي، يجمع المواد، والأساليب الفنية، ليقدم عملاً يرتكز على الفكر الإبداعي. يقيم بين عناصر العمل علاقة انسيابية متينة في إطار هندسي، يجعلها تتخطى حدود التركيب، فلا تعود الأعمال مجرد مركبات هندسية، بل تصبح مشكلة بأسلوب يفتح الأفق على أسئلة جديدة، فهي عملية بناء وإعادة بناء، والطبقات التي يتألف منها العمل تعلو فوق بعضها بعضاً، فتبدو كما لو أنها مفككة أيضاً. «مقدمي المتعة» هذا العنوان الذي أطلقه الرواس على مجموعته الأخيرة التي يستمر عرضها حتى 13 سبتمبرالمقبل، ليعبر عن الفكر الذي يحاول الفنان تجسيده من خلال العمل، فهو يحاكي الحرية في الانتاج، ويبتعد عن المألوف، ويجرد ذاتية الفنان من قيود الالتزام بتفسير أو تحليل للعمل، فهو يجعل عمله مفتوح الأفق على رؤية بصرية تهتم بالإبهار وطرح الأسئلة والامتاع، أكثر من اهتمامها بإيجاد أجوبة محددة ومعلبة يقدمها للملتقي. يصبح العمل لدى الرواس كما الظواهر الطبيعية، مسلم بوجوده، وبشكل طبيعي، ولا يخضع للتغيير أو التحليل بقدر ما يتم تقبله كما هو.

يمنح الرواس أعماله بعض العناوين التي تعزز عنصر الخيال في العمل، منها «المسبح الطائر»، «القائد في العاصفة»، «اللفظ»، «الحارس». كل هذه العناوين تعزز عنصر الخيال في الأعمال التركيبية، مقابل «إعادة ولادة اللوحة»، التي حرص فيها على تثبيت رؤيته في عالم الفن، فكانت متميزة بأسلوبه المعتاد في اللون، بحيث وضع في مجموعة من اللوحات التي شكلت سلسلة روائية لولادة اللوحة، المراحل التي ينتج فيها العمل، مستخدماً الوسائط اللونية الى جانب الصور والأشكال، فبدت كما لو أنها مدينة متكاملة. يحضر الجانب الشخصي في واحدة من اللوحات التي تعد الأبرز في مجموعة الرواس الاخيرة، لوحة يكاشف فيها الفنان جزءاً من تاريخ الحرب اللبنانية، لكن على مستوى ذكرى خاصة وحميمة بالنسبة اليه. يحضر في اللوحة دمار الأبنية في بيروت، بينما في أسفل اللوحة نجد السيارة المفخخة، وفي أعلاها صورة حبيبته التي فقدها في أحد الانفجارات في بيروت عام 1983. أما في أعلى اللوحة، فقد وضع بالقرب من صورة حبيبته صورة الأفلام التي كانت ذاهبة لتشتريها، بينما في أسفل اللوحة وجدت بعض البذار التي قدمتها له، مؤكدة أنه سيستخدمها بطريقة ما، فوضعها على اللوحة. هذا العمل يخرج من ذاكرة فنان قست عليه الحرب، فخسر حبيبته وقرر ألا يتزوج بعدها، فنجدها ذاكرة تطفو بالحزن، وملطخة بالدماء. هذا العمل الذي أطلق عليه عنوان «30 سنة»، هو لحظة تعبيرية صادقة جسدها عبر الوسائط الفنية، وهو قصة من بين آلاف القصص المشابهة التي تحدث في الحرب، كما نجح الرواس في تخطي المألوف في المادة التي يستخدم، لكنه أضاف الى تجربته قدرته المذهلة على تغذية الحيرة لدى المتلقي حول ماهية العمل الذي يشاهده.

تويتر