عندما يسير الإنسان في مناكب الأرض ويلج دروب المعرفة

جولة في ضاحية شلترن

صورة

كان المنظر ندياً رائعاً، وقد بدت فيه الأراضي المفلوحة تنزلق باتجاه دارة رِجْووُد (REGWOO)، سافرة عن تشكيلات متقاطعة ينبعث الجمال من ملامحها المتنوعة، موقظاً في قرارة النفس حب المعرفة واستجلاء خفايا الوجود بلا صخب ولا استئذان.

عندما يسير الإنسان في مناكب الأرض ويلج دروب المعرفة منقباً عن كنوزها، مستحضراً أطيافاً من روائعها، مستكشفاً لمحات من أسرارها، فإنه يستمتع بأكثر من حياة، وهو يحرص أن تكون متعة المعرفة تاجاً لمتعة الحياة ذاتها.

1- وصلنا دارة «رجوود» ومكثنا قرابة نصف ساعة، قبل أن أصطحب الصديقين صلاح الحيثاني وأنور سات، في جولة اعتدت القيام بها بين الفينة والفينة في المناطق التي تشرف عليها الدارة.

خرجنا من بوابة جانبيّة، إلى يمين مدخل الدّارة، حتى بلغنا بيتا أبيض يعود إلى القرن الـ،16 يكلل سطحه القرميد الأحمر، وتمتد أخشاب السقف بارزة من واجهته في هيئة معمارية أخّاذة.

تجاوزنا البيت وخلفناه ساكناً وراءنا، ثم دخلنا ممراً ضيقاً تحفّ به الأشجار من جانبيه، وتنتصب في أرضه أوتاد من الخشب مشدودة بشبكة من أسلاك معدنية لتعزل الممتلكات عن بعضها.

كان الممشى مفروشاً بالحصى، تنبثق منه عروق الأشجار وتتلوّى قبل أن تغور في الأرض ثانية، وكان بعض تلك العروق يخترق الممشى ويخرج من الجهة الأخرى منه، أما الحصى ذاته فكان ينتشر بكثافة لافتة، وقد جعلني أتذكّر أبا الطيب في قوله:

بلاد إذا زار الحسان بغيرها حصى تربها ثقبنه للمخانق

إنه حقاً يصلح أن تقوم الحسان بثقبه كاللآلئ لتزيين أعناقهن، وهذه الحصيات الدرية تذكرني بقول المنازي (أبي نصر أحمد بن يوسف):

يروع حصاه حالية العذارى فتلمس جانب العقد النظيم

في سطور

محمد أحمد خليفة السويدي شاعر وأديب إماراتي، ومن أبرز الشخصيات الثقافية العربية، يعرف بسعة اطلاعه. نهل من مدارس أدبية عدة، له إسهامات كثيرة في خدمة الثقافة. درس سيرة المتنبي وعصره، كما تحظى باهتمامه أيضاً الآداب والفنون كالرواية والسينما و الأوبرا و الموسيقى والفن التشكيلي والنحت. وهو شغوف كذلك بالحضارات وأحوال الأمم وثقافاتها ومقارنات الأديان وتاريخ الفن. كما يهتم كثيراً بالجغرافيا وأدب الرحلات ويحرص دوماً على اكتشاف الحكايات المرتبطة بالمكان.

بعض الروايات تشير إلى أن هذا البيت من قصيدة لحمدة بنت زياد، وأنا أسير في رحاب هذه الطبيعة الساحرة، أراني أميل إلى الأخذ بالرواية الثانية لأن هذه الرقة الشاعرية جديرة بشاعرة أندلسية، ولا عجب أن تتفوق فارسة الحب والجمال على أستاذها فارس السيف والقلم، ما دامت كوارث القرن الرابع الهجري لا تقارن بأجواء الأندلس، وحسبنا أن نتابع متعة الذكرى وبهجة المسير.

كلما امتد بنا الطريق زاد الحصى، وكأني بأبي محسد زار المكان من قبل، أو كأنني بادلت زمنه بزمني فإذا بنا نشترك في لحظة واحدة، وإذا كان المتنبي قد ذكر الحصى مراراً في شعره لأنه من خصائص بيئته البدوية، فإن الحصى هنا يوحي وكأنه غُرس مع الأشجار في اللحظة ذاتها.

تقدمنا حتى نهاية الممر وأشرفنا على فسحة غابية مررنا بها قبل ثلاثة أعوام برفقة الصديقين مازن مصطفى ونوري الجراح، وتطلعنا إلى ذات المكان الذي انتصب فيه من قبل «عرزال» يتخذه في الغالب هواة مراقبة الطيور والحشرات كاليعاسيب والفراشات مأوى يضمن لهم القدرة على ألا يباغتوا هذه المخلوقات فتفرّ بعيداً، وهؤلاء ينتشرون في أماكن عديدة من ريف إنجلترا ويتواصلون في ما بينهم ولهم دراية واسعة بأنواع الطيور وأوقات تناسلها وهجراتها ومهاجرها البعيدة، وكذلك الأمر في الفئة التي ترقب الحشرات، فهم يعرفون الكثير عنها وعن كل ما يرتبط بها فيقتني كلّ منهم مرقاباً، وقد يكمنون في الأجمات لساعات من دون أن تصدر عنهم أي نأمة من شأنها إفزاع الحشرة.

تنتشر في المكان أجيال من الورق الرطب واليابس الذي قد تكون مرّت عليه مواسم عدة، قبل أن يتحلل ويمنح الأرض عناصره فيصبح سماداً يعمل على تغذيتها ومدّها بأسباب الحياة والتجدد، أما الأشجار في هذا الجزء من الغابة، إلى الغرب من ريجوود، فهي من النوع المعمّر دائم الخضرة غالباً، وتشخص بقاماتها وكأنها في محاولة لبلوغ الثريّا بعد أن تركت جذورها تحفر الثرى وتمتدّ فيه مسافات كبيرة.

رفعتُ آلة التصوير وغرست عينيّ في الجذوع التي تكسو أديمها الغضون، وكأنها تجاعيد عميقة في وجه عجوز مازال متصابياً شامخ القامة، ولم يسأم تكاليف الحياة مع زهير بن أبي سلمى.

لطالما منح أسلافنا الأشجار بعداً روحياً حتى جعلوا «عشتار» تتمثّل في النخلة، والعزّى بشجرة السمُر، وها أنذا ابن الصحراء أمنح الأشجار التي تشرف على «رجوود» طقوساً لا يعرفها إلا من جعل في المشي ضالته وأنيسه.

فالمشي له طقوسه التي جعلت منه ثقافة لا يحسنها إلا القلّة، وهناك العديد من المؤلفات تعمل على تكريسها والإشارة إلى أفضل ما يمكن للمتجوّل أن يقصده من أماكن سواء في الريف أو المدن، مع التأكيد على تاريخية بعض الأمكنة أو الخصوصيات التي تميّزها عن غيرها.

المشي ليس رياضة وحسب، إنه ثقافة لها أصولها وقوانينها، ولقد كان لي في هذا الأمر تجربة شخصية عشتها في لندن أثناء سنوات الدراسة، عندما حللت على عائلة إنجليزية لم تكن تعرف عن المشي إلا ما يجعل طريقهم سالكاً من البيت إلى بعض الأمكنة التي يحتاجون إليها.

أما في الإمارات، فلا أعرف من يتقنها، فالبيئة هناك متقشفة زاهدة، ولا تمنح الكثير ليكون مادة خصبة للاكتشاف، وحتى أولئك الذين يدركونها فهم في الغالب لا يمارسونها.

إنها تمنح مدارك واسعة ومعارف متنوعة.

2- لمحنا سنجاباً صغيراً يتسلق جذع شجرة، ثم يهبط سريعاً ويتابع طريقه على بعد أمتار قليلة منّا، وعلى الرغم من حواسه المتيقّظة، بدا أنه لم يكتــشف وجودنا بعد.

لم يكن الفزع بادياً عليه، بل توقف في منتصف المسافة وانتصب على قائمتيه الخلفيتين وحدّق فينا لبرهة وغادر إلى جهة دارة رِجْوُود.

رفعت آلة التصوير وتطلعت إلى الدارة، كانت تفصلني عنها عشرات السيقان والأماليد الدقيقة والأغصان التي قصفتها الرياح. ثم شرعت ألتقط صوراً لملامح المكان الذي كان يبدو كأنه معلّق بحبال غير مرئية تتدلى من السماء.

قلت لرفيقيّ: إنها شلترن، وهي منطقة تباغتك بجمالها، وعليكما أن تمتلكا أكثر من عينين لتتمكنا من الإحاطة بها.

غسلت أمطار الأمس أديم الأرض وكشفت حصويتها، وصار هسيس الأوراق تحت أقدامنا ملتحماً بالمكان، بل إن من يمنح مداركه وحواسه لوقع خطواته يشعر كأنه التحم بالمكان ذاته وصار جزءاً منه.

الأشجار هنا بأجيال وأنواع مختلفة وأسبغت الأنواع النفضيّة منها على الغابة بساطاً ورقيّا يمتدّ حتى الحقول المجاورة، وهي تشكّل في ذات الوقت قيمة تضاعف من خصوبة التربة لتنمو فيها أزهار ونباتات موسمية عديدة كالأقحوان وعشّ الغراب وبعض الطحالب وكثير من السرخسيات.

أما رائحة التربة الندية التي تنبعث من حولنا فتمنحك شعوراً كما لو كنت في يومك الأول على الأرض.

3- كانت الساعة تشير إلى 13 دقيقة بعد انتصاف النهار، عندما شرعنا بالجولة، شعرت أن الوقت لم يعد كائنا زلقاً يتعذّر الإمساك بأطرافه، فلقد فعلت ذلك بمجموعة من الصور في أرجاء الغابة وكأنني اسعى إلى تجميده والانقضاض عليه بجرعة كبيرة من الجمال.

كنت أقرفص أحياناً من أجل مشهد ما، قد يكون سلّما من الأغصان هجره الناس منذ زمن، أو طائراً لا يصلني سوى خفق جناحيه على الأشجار، أو فجوة مفتوحة.

تابعنا الطريق في ممرات تضيق أحيانا وتتّسع بغتة لتجد نفسك أمام مساحة تشرف على بعض الدارات القريبة.

4- ونواصل المشوار.. في اللغة المصرية القديمة «الهيروغليفية» علامة أو رمز لقدمين تسعيان، وتمنح هذه العلامة معنى المشي والسعي والفعل منها سعى، وها نحن نسعى في مناكبها.

قطعنا مسالك الغابة وممراتها الحصوية بعد 20 دقيقة من بدء الجولة، فدخلنا أرضا حرجيّةً وحقلا محروثاً لتوّه يشرف عليه منزل كبير، ترعى أمامه ثلاثة أحصنة، اثنان منهما بنيّان والآخر أبيض، على ظهره دثار سميك، فبدت بحجومها الكبيرة وكأنها هياكل جواد امرئ القيس دبّت فيها الحياة فجأة، وفكرت هل بمقدور أحصنة كهذه أن تعكف على فرسانها عندما يســقطون ولا تبرحهم إلى مكان آخر؟

مرت بنا الدقائق بطيئة، ونحن نقطع الأرض المحروثة في ممرّ زلقٍ، وعلى الرغم من أننا دفعنا عتلة باب جانبي ونفذنا منه إلى مزرعة أخرى، إلا أن الأحصنة كانت لاتزال تعكف على وليمتها من غير أن ترفع أعناقها عن الأرض.

منحتنا المزرعة الأخرى تصوراً واضحاً عن استعداد المزارعين لموسم جديد، فلقد كانت بدورها محروثة، وإلى اليمين منها أرض أخرى دُرِستْ للتوّ، ولاتزال الجرارات الزراعية ولفافات الحصيد الكبيرة تتوزّع أطرافها.

ومن هذا المكان بدت دارة «رِجْووُد» تربض على مرتفع من الأرض، وتنحدر عنها مجموعة من الأجمات والأسيجة الشجرية الباسقة في أرض سهليّةً واسعة.

بدت زاوية جميلة لتصويرها ولتأبيد الزمن، فالصورة لا تسعى إلى تأبيد المصور بقدر ما تعمل على تأبيد ما يظهر فيها.

أما الدارة فلقد أطلقنا عليها في الأيام الأولى «بيت الزيتونة» قبل أن تموت.

كان ذلك قبل ثلاث سنوات، يوم قمنا بغرسها أمام الباب في طقس احتفاليّ، ونحن نتحدث عن ذاكرةٍ متوسطية ستجد طريقها إلى الشمال، كما فعل أسلافها الرومان من قبل، ولكنها لم تكن تمتلك جلد الأسلاف وماتت بعد فترة.

وأنا أحدّق في المكان وأجوبه ببصري وبصيرتي شعرت أني مشدود إليه وملتحم به في آنٍ واحد.

كنا نقف على هذه المشاهد في علب «الحلاوة ـ الشاكليت» لمّا كنّا أطفالاً نلعب فوق عراقيب العين ونرمقها مبهورين، وها نحن الآن ندخلها كالفاتحين.

لم أكفّ عن تصوير الـ«رجوود» ومحيطه، بينما أواصل المشي بحذرٍ على حافة الأرض المدروسة لتوّها.

5- خرجنا من الممشى الضيّق الذي تنتشر على جانيه شجيرات العلّيق الشوكي والكرز البرّي، وفكرنا في المكان وأطواره، وكم من الأيدي تعاقبت عليه حتى صار إلى هذه الهيئة التي تجدها نسيجاً محكماً من الإتقان المفرط من جانب ومن التلقائية التي لم تسع إلى التفريط بخصائص المكان الريفيّ من جانب آخر.

ولأن الجولة تسع الأفكار، وبوسعها أيضا أن تنتج الأفكار، لذا شعرت أن حديث الصديق صلاح عن اللهجات واللغات القديمة، وهل وصلتنا كما هي أم مرّت بأطوار مختلفة قبل أن تستقر على بنياتها الحالية، بدأ يصبح شبيها بالمكان ويمتلك تحولاته نفسها؛ فقلتُ، ونحن نسير على منبسط واسع، إن البادية مرّت بأطوار مختلفة منذ عصور قديمة، ولقد كانت في زمن ما مصدراً للغة العربية، وكتبنا تحفل بحكايات العلماء إبان فترة التدوين المعجمي، وكيف كانوا ينتظرون أعراب البادية ليأخذوا عنهم اللغة وأبنيتها المختلفة. ولكن الأمر لم يدم طويلاً، وبدأت اللغة تتحلل بانحلال دولة بني العباس حتى فقدت الجزيرة العربية لسانها. وهناك دراسات تؤكد أن العربية ستكون لغة معزولة لا يتكلمها إلا قلة قليلة في الجزيرة والخليج بعد أعوام قليلة، وها نحن نشهد بوادر انحلالها منذ سنوات.

فكما لا يسعنا قراءة المعلقات وشطر كبير من الشعر العربي الموروث من غير مساعدة توفّرها المعاجم، كذلك الأمر نجده في لهجاتنا، سواء تلك التي تنتشر في الحواضر أو البوادي.

أحياناً يقودني التفكيرفي اللهجات العربية التي شاعت قبل الإسلام بين القبائل المختلفة إلى محاولة إدراك الفصل بين اللهجة المحلية التي تنتشر في القبيلة الواحدة، وما وصل إلينا من لغة موحدة للشعر والنثر، فمثلا: هل كان لبيد يتحدث بلهجته العامرية لقضاء شؤون يومه، أم بلغة نصوصه التي يكتبها؟ وهنا لابد أن ندرك أن الكتابة أمر لا يرجّح انتشاره علماء عديدون. إذن، سنكون بمواجهة لهجتين شفاهيتين: إحداهما للقبيلة وأخرى خارجها، وإذا ما سلّمنا بصحة هذا التعليل فسنكون بذلك أمام فصامٍ لغويّ لعلّه لم يتكرّس بمثل هذه الصورة إلا في اللغة العربية.

يمكننا التسليم بأن اللغة الواحدة تنقلب على نفسها عدة مرات، تبعا للحقب التاريخية وما يترتّب عليها من غزو ودخول ألسنة جديدة وتطور داخل المعجم ذاته، فضلاً عن عوامل أخرى من شأنها أن تعزّز هذا الانقلاب والتطور كالعوامل الاقتصادية والاجتماعية المختلفة، وهو ما نراه شاخصاً بوضوح في اللغة العربية التي وفدت إليها أقوام في حقب تاريخية مختلفة، وشاع فيها المولّد والمعرب والأعجمي حتى عدّه العلماء جسماً من اللغة وليس غريباً عنها أو طارئاً عليها. وهو أمر حدث في مصر القديمة، فاللغة المصرية لا يمكننا أن نتعامل معها حزمةً ثابتةً، بل مرت بأدوار وتحولات عديدة، ويقسم علماء المصريات اللغة المصرية إلى أحقاب ولغات عدة، فهناك اللغة التي شاعت من بداية تأسيس الأسرات وحتى الأسرة السابعة، وتتعدد الأحقاب والانقلابات داخل اللغة ذاتها حتى نصل إلى الحقبة البطلمية.

ولابد من التأكيد على جمالية هذه اللغة التي تتكون من قرابة 2200 رمز ومجموعة من الحروف (24) التي تمنح أصواتاً بنفسها، فتكون الكتابة بطريقة الترميز التي لا يمكن أن تكون شاقة كما يخيّل إلينا لأول وهلة، بل إن في تفكيكها متعة كبيرة لا يعرفها إلا من حاول فعلا الاقتراب منها وتبيّن بنياتها المختلفة.

فمثلاً، ولتسهيل الأمر نرسم عيناً وخلفها قلب ونختمها بحرف، وستكون الدلالة التامة لهذا الخرطوش الرمزي هو: أحبك.

إنها جنس كتابة يختزل الكثير من الأفكار كلغة الإنترنت اليوم، وإنني أدعو إلى ضرورة تبنّي تدريسها منذ مراحل مبكرة في مدارسنا. لن يكون الأمر شاقاً ولا متعذّراً، فكما هو معروف هناك عشرات المفردات المصرية القديمة مازالت متداولة في لغتنا العربية كنتيجة حتمية للتواصل التاريخيّ بين الحضارتين على مستويات عدة ومنذ زمن بعيد.

إنها حضارة كانت من التقدم بحيث تركت تأثيرا عميقا وحاسما في كبرى حضارات العالم القديم.

نعرف الآن أن الحضارة اليونانية قامت بتبنّي اللاهوت المصري وحافظت عليه، بل نقلت قسما منه كآلهة وعبادات على حدّ سواء، وأشاعته في المناطق الخاضعة لها. فمن الثابت تاريخيا أن التأثير كان بالغا للدرجة التي اعتبر فيها هيرودت أن أصول كثير من أسماء آلهة الإغريق تعود إلى مصر، فـ«آمون» هو كبير آلهتهم زيوس، أما «ديمترا» فهي صورة عن إيزيس المصرية، وأوزيريس هو ديونيوس اليوناني، كما بيّن أن العديد من طقوس الإغريق ذات أصول مصرية. ولابد من الإشارة إلى تأثرهم بدعوة إخناتون (ت 1350 ق.م.) في دعوته إلى إله مركزيّ واحد، وهو أمر أصبح مقررا بصحته، واستمر التأثير قائما حتى بلغ أوجه عندما نُصّب الإسكندر فرعوناً عام 332 ق.م، وقصد واحة سيوة في عمق الصحراء لزيارة معبد الإله آمون ليخطف قرنيه.

هذه حقائق تاريخية، ناهيك عن تأثيرهم في الرياضيات والهندسة. ولقد كتب هيرودت في تاريخه بانتقال علم الهندسة إلى اليونان من مصر، وأكد أرسطو أن الرياضيات في أصولها العملية نشأت فيها أيضا، وصرنا نعرف كذلك أن فيثاغورس عاش ردحا من الزمن في مصر قبل عودته إلى اليونان.

من المؤسف أن نتحدث عن الحيف الذي لحق بهذه الحضارة العظيمة، وخصوصا مع شيوع الديانات التوحيدية في الشرق القديم، فلقد عمل الرومان عند تبنيهم الديانة المسيحية على طمس كثير من الشواهد المصرية القديمة التي تتعارض مع طبيعة الحياة الروحية واللاهوت الذي أشاعه الدين الجديد، فبعد قرابة أربعة قرون من الوجود الروماني في مصر يمكننا تلمس ما تركه من إتلاف ومحو وطمس رأيته بنفسي عند زيارتي للأقصر.

أما المسلمون فكانوا أقلّ قسوة من الرومان، حسبنا أنّهم لم يعتدوا على ديانة السكان الأصليين بل صالحوهم عليها وفق شروط معروفة.

6- الأفكار تنشط وتغتني بالحركة أيضا، ولاسيما في جولة كهذه ونحن في حوار لا شعوري مع الطبيعة من حولنا. وإذا كانت الأفكار قادتنا إلى حديث اللغات وما آلت إليه فإن الحركة بدورها قادتنا إلى دخول بضع مزارع مفتوحة على بعضها، حتى صرنا بموازاة مجموعة من المنازل التي تتاخمها أشجار الأجاص والتفاح في المجرى المحروث، وتنتشر على الأرض ثمار لم تلمسها يد بعد، وكأنها سقطت من فرط نضجها (إذ ناءت بحملها الأفنان)، وهنا تشترك الثمرة الناضجة مع الفكرة الناضــجة، أليس كذلك؟.

7- بدت إلى اليمين طاحونة قديمة، يبدو من معمارها أنها أصيلة في المنطقة، منذ قرن ربما، عندما كنا لانزال في ظهور جدودنا، كما يقول أبوالطيب. قلت ذلك وأنا أشخص ببصري إلى «رجوود» وأصغي إلى حديث الصديق صلاح عن البيوتات الصغيرة التي بدت كأن مصادفة ما وضعتها في طريقنا بمثل هذه الصورة.

8- لم يبقَ سوى أن نقطع درباً ضيّقاً يفضي بنا إلى «رجوود» حيث سيكون مسيمو «قيّم الدارة» قد انتهى من إعداد الغداء.

كان علينا أن ندخل من بوابة خشبية تتسع لشخص واحد، ويرعى قريباً منها ثلاثة خيول ضخمة أشاعت القلق في أنور، لأن عليه أن يمر بها ليتجنّب الطين الذي فاقمه مطر الأمس، وبعد محاولات عدة لمناورة قوائمها الخلفية تمكن من اللحاق بنا وبدا عليه كأنه تمكن أخيرا من الفوز مرة أخرى بجائزة غير متوقعة.

صرنا إلى جادة ضيّقة محصورة بين سياجين، أحدهما معدني والآخر خشبي وتنتشر على امتدادهما ثمار التوت البري ومتسلقات وأحراش شوكية كثيرة. ومنذ سنوات، وكلما مررت بها، لا يفوتني أن أقطف بعض الثمار الصغيرة وتأمل الفراشات التي تظهر فجأة أو النحل الذي يعكف على تويجاتها الكأسية، مرتشفاً بصبر نصيبه من رحيقها المختوم.

كانت الساعة تشير إلى الواحدة والنصف إلا دقائق معدودة، انعطفنا إلى اليمين وسرنا نحو 30 مترا، وعالجنا بوابة خشبية عالقة حتى انفتحت ودخلنا أرض الدارة.. إنها دارة «رِجْوُود».

تويتر