‏‏‏باحث سعودي استبعد أن تكون مدينة قوم ثمود

مدائن صالح.. تحفة الأنباط المنسيّة‏

المنطقة تعرضت لإهمال شديد لسنوات طويلة. أ.ف.ب - أرشيفية

‏‏يتكرر المشهد كل يوم في أرض عاش فيها الأنبياء وشهدت حضارة استمرت قروناً، وتغرب الشمس لتترك وراءها ظلاماً دامساً لاينجلي إلا بولادة قمر جديد يعطي للمكان سحراً خاصاً، وتترصع السماء بالنجوم ويعم الهدوء والسكون. وتبدو الجبال الصخرية في غاية الجمال وهي تعكس أشعة الشمس الحمراء عند الغروب، وتزيد أشكالها التي تكونت على مدى قرون من رونقها، وتبدو آثار الإنسان التي تعود إلى أكثر من 2000 عام دليلاً واضحاً على الموهبة والإبداع. زائر مدائن صالح التي تقع شمال المملكة العربية السعودية لابد أن يشعر بأنه في متحف طبيعي مفتوح، وهو يرى الكهوف الضخمة وقد نحتت في أعماق الصخور الصلبة، بطريقة فنية رائعة. وعلى الرغم من القيمة الأثرية والإنسانية الكبيرة التي تمثلها مدائن صالح، أو ما يعرف في المملكة باسم «الحجر»، إلا أنها ظلت حبيسة النسيان إلى وقت قريب، وأصبحت تبدو وكأنها ملاذاً للأشباح والحيوانات البرية ومزاراً لبعض الفضوليين.

كيف يسقط هذا المعلم الأثري من ذاكرة الإنسان الحديث لو لم يكن وراء قصة تهميشه من التراث الإنساني سبب قوي. لقد كان المكان موطناً لقوم النبي صالح (عليه السلام)، وكما يروي القرآن الكريم فإن الله عذب ثمود الذين يعتقد أنهم سكنوا المكان بعد أن عصوا أوامر نبيهم، وقتلوا الناقة التي كانت آية على صدق الرسالة. ومنذ ذلك الحين تلاحق اللعنة هذا المكان، كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه عندما مروا بمدائن صالح، بأن لا يشربوا من مائها وأن لا يتوضؤوا منه، وفي حال استخدموا الماء لعجن الخبز، أمرهم أن لا يأكلوا منه. هكذا كان مصير القوم وإلى هذا المصير آلت حضارتهم الفريدة، حيث كانوا أول البشر الذين سكنوا الجبال من خلال نحت الصخور وتشييد مساكن عملاقة تشبه القصور. واستبعد باحث سعودي أن تكون «مدائن صالح» هي الموقع الذي تعرض للعذاب والمقصود في القرآن الكريم، وقال الدكتور سليمان الذيب، وهو عضو في هيئة التدريس بكلية الآثار والسياحة بجامعة الملك سعود، منطقة «الخريبة»، التي تبعد عن مدائن صالح بنحو 10 كيلومترات، بأنها الموقع الذي تعرض للعذاب الإلهي، وهي منطقة تقع في الشمال الغربي من السعودية ايضاً. وكانت المدائن في العصر الإسلامي محطة من محطات طريق الحج الشامي أثناء ذهاب المسلمين إلى المدينة المنورة ثم مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، ولذلك تسمى الآن مدائن صالح وهو الاسم الذي أطلقه رحالة أندلسي عام .1336 وتضم المدائن أكثر من 135 قصراً استُخدمت مدافن.

ليل قصير

وقال مراسل صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية، بيير لوهير، الذي زار المنطقة إن «الليل قصير وسرعان ما تبزغ خيوط الفجر لتبدأ حلقة جديدة في قصة لاتنتهي»، ويقول ان علماء الآثار بدأوا يهتمون بمدائن صالح، منذ نحو 10 سنوات فقط، في محاولة لمسح الغبار على حقبة تاريخية مهمة. ونظراً لأهمية الموقع الأثري فقد تم تسجيله ضمن قائمة التراث الإنساني العالمي، في ،2008 من قبل منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة، ليكون بذلك أول موقع سعودي يوضع على هذه القائمة.

تنتشر الكهوف المنحوتة في الجبال بدقة وعناية كبيرة، لتدل على استخدام وسائل غير تقليدية وخبرة هندسية تضاهي ماتوصل إليه الإنسان الحديث في ما يخص فن العمارة، تنتشر على مساحة 15 كيلومتراً مربعاً، ويتخللها وادٍ صغير. وتعتبر الحجر من مواطن النبطيين الذين أسسوا حضارتهم شمال الجزيرة العربية واتخذوا البتراء، الموجودة في الأردن حالياً، عاصمة لهم.

التوأم المحجوب

وقال الأستاذ في جامعة باريس، فرانسوا فيلنوف: «على الرغم من أن المدائن ليست بروعة ورونق البتراء إلا أن تشييدها بهذه الطريقة يدل على النمط الأصيل للحضارة النبطية، مثلها مثل البتراء، تأثرت بالإغريق والرومان». وفي الوقت الذي أصبحت فيه مدينة البتراء المحفورة في قلب الصخر الوردي من أبرز المعالم السياحية الأردنية، تبقى مدائن صالح الصخرية التوأم المحجوب عن الأنظار وسط الصحراء المترامية الأطراف، حسب ما جاء في تحقيق مصور على قناة «فرانس 24». ويتساءل الغربيون عن سبب شهرة الأولى في حين بقيت الثانية منسية. ويقول خبراء الآثار إن هذه المدينة لم يتم تشييدها من طرف الثموديين، حيث لم يجد العلماء حتى اليوم أي أثر لهم في المنطقة، بل شيّدها النبطيون وهم من الشعوب السامية اشتهروا في تجارة القوافل. وتشكّل مدائن صالح آخر موقع جنوبي لمملكة الأنباط التي ازدهرت بين القرن الثالث قبل الميلاد والرابع ميلادي وكانت تمتدّ من جنوب الأردن حتّى شمال شبه الجزيرة العربية، إلا أن البتراء تعد أكبر المدن النبطية وعاصمتهم السياسية.

ويضيف التحقيق أن الموقع الأثري تحت حراسة الشرطة بصورة مستمرة وليس مفتوحًا أمام السياح. لكن يمكن زيارته بعد الحصول على إذن من مديرية الآثار والمتاحف. وتزور الموقع بشكل خاص شخصيات أجنبية مقيمة في البلاد ونخبة المجتمع السعودي. ولعل الفنادق الراقية في وادي العلا المحاذي لمدائن صالح خير دليل على المستوى المعيشي لزوار هذه المنطقة الأثرية. ومن المعالم التي تجذب الاهتمام في الموقع، قصر فريد نحت ببراعة وإتقان لكي يصبح مقبرة. ويعتقد علماء الآثار أن جدران القصر كانت مطلية في ما مضى بألوان مختلفة.

مدينة مزدهرة

وقالت الباحثة في جامعة باريس، ليلي نهمي «لم تكن المدائن نقطة عبور للقوافل التي تحمل البضائع المختلفة من اليمن إلى ميناء غزة، والتي تشحن لاحقاً إلى اليونان وروما، وحسب، بل كانت مدينة حقيقية تزدهر فيها الزراعة، ويساعدها في ذلك امتلاكها لنظام متطور للسقي، ومن المؤكد أن النبطي الذي استطاع أن ينحت مساكن رائعة في الصخر كانت تتوافر لديه وسائل عمل وأدوات تساعده على العمل، على ارتفاع يصل إلى 20 متراً». وإضافة إلى العمارة امتلك النبطي ذوقا فنياً خاصاً يتجلى في زخرفة الواجهات وتشكيلها بطريقة رائعة. ومثل الفراعنة، قام النبطيون بتشييد مقابر عملاقة لدفن الموتى في توابيت عميقة. وقبل الدفن يتم وضع جسد الميت داخل طبقات عديدة من القماش بعد تحنيطه بمادة صمغية تساعد على تأخير التحلل العضوي. وتبين الآثار كذلك تمكّن الحضارة النبطية في الحجر من التحكم في عملية سقي الأراضي الزراعية وتخزين مياه الأمطار.

يقول علماء الآثار إن النبطيين كانوا تجاراً كباراً وبناةً مهرة استطاعوا أن يشيدوا مملكة ضمت إلى عرشها شمال السعودية والأردن وجنوب سورية. كما كان في المملكة نظام اجتماعي هرمي، وخبراء استراتيجية ورجال دين. إلا أن الباحثين يعتقدون أن المعتقد السائد آنذاك لم يكن ديانة توحيدية. في حين كانت الحروف المستخدمة في الكتابة من الآرامية التي تمخضت عنها اللغة العربية لاحقاً، إلا انه لم يتم التعرف الى اللغة التي يتحدثونها. وبعد أن تم إلحاق المملكة بالامبراطورية الرومانية في العام 106 بعد الميلاد، بدأت الحضارة النبطية في الاندثار شيئاً فشيئاً إلى أن اختفت. وعثر في المدائن أخيراً على 111 مقبرة منحوتة في الصخر على ارتفاع 20 متراً، وكذلك 130 بئراً كان يُحتفظ بمياه الأمطار فيها ما ساعدهم على زراعة القمح والشعير والبقوليات والقطن.‏

 

تويتر