«موت صغير».. سيرة «عاشق» اختلف الناس في أمره

«بركة» ابن عربي تحلّ على محمد حسن علوان بـ«البوكر»

صورة

سيرة ممتدة، بحساب الزمن تتخطى الـ70 عاماً، وبحساب المكان ترتحل من أقصى المغرب إلى المشرق، على خطى صاحب أحوال اختلف الناس في أمره، لكن المبدع محمد حسن علوان لا يحار في شأن «الشيخ الأكبر» طويلاً، يجد مساحة مختلفة في روايته «موت صغير» التي فازت بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) أمس، متتبعاً ارتحالات وفتوحات محيي الدين ابن عربي، ومتنقلاً بين المحبة والتجليات. كما بحث محيي الدين عن «أوتاده» بين أركان الدنيا، استلهم محمد حسن علوان «أوتاد» السيرة من كلمات ذلك القطب ومؤلفاته، ليشيد عليها الحكاية، ويتخذها أعمدة، يكمل هو ما بينها، يروي محطات الحياة بكل ما فيها، كما تخيلها بصدق فني، ينطلق من أعتاب ابن عربي إلى المدى الواسع، حاملاً مفاتيح صاحب «ترجمان الأشواق» على رأس كل مقطع من الـ100 التي تسرد القصة كاملة، مطلقاً العنان لروحه وقلمه كي يكملا نواقص لم يروها مؤرخ عن محبّ رأى أن جميع البشر مرتبطون بسلسلة من القلوب، أو هكذا المراد.

أعمال

السعودي محمد حسن علوان من مواليد ‬1979. اختير ضمن أفضل ‬39 كاتباً عربياً تحت سن الأربعين في دورة بيروت ‬39. له روايات: «طوق الطهارة»، و«صوفيا»، و«سقف الكفاية»، و«القندس» التي نافست على جائزة «البوكر» في 2013، لتأتي «موت صغير» وتصعد بمحمد حسن علوان إلى منصة «البوكر» أمس بأبوظبي.

تأخير

هل تأخر المبدعون العرب على ابن عربي تحديداً؟ خاف البعض الاقتراب منه، وخشي آخرون السباحة في بحره العميق غير المتفق عليه، وربما أتت الجرأة من الطرف الآخر، فثمة احتفاء خاص بأشباه ابن عربي ونظائره في الغرب، فإليف شافاق قد شرعت الباب واسعاً، وسارت في بساتين جلال الدين الرومي وشمس الدين التبريزي وغيرهما من «الأقطاب».

591

صفحة تقع فيها رواية «موت صغير» التي صدرت عن دار الساقي اللبنانية.

عبر 12 سفراً تقع في 591 صفحة، يتتبع محمد حسن علوان أثر ابن عربي؛ من محل الميلاد في مرسية الأندلسية حتى خلوته في كوخ ناءٍ بأذربيجان، مروراً بإشبيلية وفاس ومراكش والقاهرة ومكة ودمشق وملطية، وسواها من الفضاءات والخلوات والزوايا الصوفية التي حل فيها ذلك السالك الباحث عن الصفاء، من يوم أن سحبته يد طيبة من رحم أمه وأشارت إلى قلبه قائلة: «طهّر هذا».

في مدينة مرسية فتح ابن عربي عينيه، وحينها كان يتهددها الكثير: و«من يولد في مدينة محاصرة تولد معه رغبة جامحة في الانطلاق خارج الأسوار»، لكن يبدو أن الأزمات كانت قدر ابن عربي والأمة كلها في تلك الفترة، إذ ارتحل من مدينته الأندلسية المأزومة ليصل إلى بلدان أخرى، إلا أن المفارقة أنها كانت تتعرّض هي الأخرى لأزمات وحصارات مختلفة، إذ لم تهدأ العواصف في تلك الآونة، حتى في مكة المكرمة التي نزل بها ابن عربي وعاش فيها حيناً من الدهر، حتى تركها بقلب مفطور، إثر حكاية عشق مؤثرة، بالإضافة إلى جيش من المرتزقة على مشارف المدينة التي تضم أشرف البقاع.

القطب.. والمريدون

مع أن ابن عربي هو قطب الرواية ومرادها الأكبر، فإن ثمة شخصيات أخرى بالجملة تترك أثرها في «موت صغير» وكذلك في قارئها، من بين تلك الشخصيات مريدون ودراويش رافقوا ابن عربي، وتعلّقوا به، ومنهم آخرون كانوا بمثابة «أوتاد» بشكل أو بآخر لصاحب السيرة، وأحرار حقيقيون، كما حال المفكر ابن رشد الذي يطل في الرواية في مشاهد معدودة، ويحفر كلماته ومواقفه في ذات ابن عربي، إذ يسجن الإمام وتمنعه العامة من دخول المسجد وتتطاول عليه وتحرق كتبه، ويظل ثابتاً، كما تصوره الرواية حتى النهاية التي كان ابن عربي شاهداً عليها، ورافق جثمان ابن رشد من مراكش إلى قرطبة، كما أوصى أن يدفن.

وإذا كانت تلك حال العالم الشهير، فثمة شخصيات أقل حظاً من العلم والشهرة، لكنها نقشت حروف اسمها في الرواية، اعتنى بها محمد حسن علوان، وجعلها بمثابة شخصيات حقيقية، لعل أبرزها «بدر» الذي رافق ابن عربي سنوات طويلة، وطاف به مدناً بلا حصر بين إفريقيا وآسيا: من مصر إلى الحجاز، حجّ وطاف معه، تنقل بصحبته بين شعاب مكة وشاهد تحولاته وارتحالاته النفسية، جاوره كظله، ونسخ ما نطق به ابن عربي ونسيه، وظل هكذا حتى اشتد عليه المرض، ونُقل بدر - رغماً عن ابن عربي - إلى حارة المجذومين: «بكيت على كل يوم قضيته مع بدر، نائمين تحت سقف أو سماء مكشوفة. ماشيين وراكبين. مقيمين وراحلين. طاعمين وجائعين. في حواري فاس وأزقة القاهرة وشعاب مكة وحارات حلب وأحياء بغداد. في كل بيت سكناه في مدن كثيرة، وكل خانقاه تدبرنا فيه أذكاراً جليلة، وكل خان نزلناه في طرق المسافرين. في كل صحراء قطعناها وقد ألهبت الشمس رأسينا، وكل جبل سلكناه وقد جمد البرد أطرافنا. على كل طعام اجتمعنا حوله فخصني بالطيب منه، وكل شراب بللنا به حلوقنا فلم يشرب إلا بعدي».

نساء

على الضفة الأخرى، ثمة نساء تركن بصماتهن، وكذلك جمالهن، في السيرة وصاحبها، منذ الاستهلال، فاليد الرحيمة التي تلقت الصبي كانت هي صاحبة النصيحة الأولى (القابلة والأم الروحية فاطمة) حول اتباع القلب بعد مرحلة تطهيره، والسعي في مدارج السالكين. وثمة أخريات بالجملة يحضرن، على رأسهن الزوجة الأولى مريم، وكذلك التي أطلقت اللسان بالأشعار «نظام»: «عندما عدت إلى البيت ولم أجدها فيه شعرت بنار حارقة توقد في جوفي. قبل أشهر كنت زوجاً وأباً والآن أنا عود وحيد لا زوجة لي ولا ذرية. كيف ودعتها عند هذا الباب دون أن أحزن ثم عدت لأجد الأحزان مكدسة في انتظاري؟ هرعت إلى الكعبة ورحت أطوف دون أن أعد. شعرت أن في قلبي أشيباً يحتضر وطفلاً يولد. سكرات وصرخات. لحد ومهد. شمس تشرق وأخرى تغرب. مريم تسترد حبها وترحل بعيداً ونظام تخاتل مشاعري دون أن تقدم. وبين المرأتين من أنا؟ أين شيوخي ودروسي وبقية أوتادي؟ ماذا سأفعل؟ وماذا سأكون؟ في داخلي عواصف لم تهدأ بعد حتى أعرف أين أتجه؟ عاصفة في روحي، وأخرى في عقلي، وهذه الثالثة الآن في قلبي. صوفي أنا أم عاشق؟ أم كلاهما معاً؟ عالم أم عارف؟ شيخ أم مريد؟ ولي أم شقي؟ يا رب لا أقطع طوافي هذا حتى أرسو على بر».

تويتر