عاش بين «المعرفة» قارئاً وموظفاً ومبدعاً

خورخي بورخيس..كفيف يبصر نور المكتبة

صورة

أبصر العالم كتاباً، وتخيل «الفردوس هو الفضاء القابع تحت عنوان مكتبة»، والعالم مساحة من الورق المكتنز بالقصائد والأساطير والحكايات، وحلم منذ مطالعته في صباه «ألف ليلة وليلة» أن يتمكن من إبداع سحر مشابه، وبفضل عشرته الطويلة للكتاب، صار عبقرية أدبية، وأحد المؤسسين للإبداع اللاتيني، حتى وإن غاب دون أن يحظى بـ«نوبل».. إنه خورخي لويس بورخيس.

من مكتبة الوالد بدأت حكاية الشغف؛ واستمرت حتى بعد أن فقد صاحب «الألف» بصره مبكراً، إذ لم يفقد عشقه للكتاب، حتى إنه كتب قصائد لتلك الكتب التي لا تراه ولا يراها، وتولى حراسة 80 ألف كتاب في المكتبة الوطنية في بوينس آيرس، إذ كان مديراً لها في أواسط الخمسينات، يعرف دروبها، ويهتدي وحده إلى كل كتاب فيها، يمرر أصابعه عليه فيميزه ويعرفه، ويبصر ذلك الكفيف كل شيء في المكان المفضل بالنسبة إليه، عاش بين الكتب قارئاً وموظفاً، وحين أرادت سلطات بلاده في مرحلةٍ ما معاقبته نقلته إلى وظيفة أخرى بعيداً عن حيزه الأثير المكتبة الوطنية.


أتيحت لبورخيس المولود في عام 1899، كما قال «فرصة التعلم لا في المدرسة فحسب – فذلك أمر ثانوي – بل في مكتبة والدي.. عندما أعود بالذاكرة إلى طفولتي يتجه تفكيري إلى مكتبة أبي أكثر مما يتجه إلى أي شيء يقع في جوارنا، وأتذكر الكتب التي عرّفتني بالعالم».

 

وكانت لدى الأب مكتبة كبيرة، وكان مسموحاً للابن بقراءة أي كتاب منها «حتى تلك الكتب المحظورة على الأطفال في العادة، من ذلك كتاب (ألف ليلة وليلة) بترجمة كابتن بيرتن. قرأت الكتاب بأكمله.. ما كان يهمني منها حينئذ هو سحر ألف ليلة وليلة، لقد استولى علي ذلك السحر إلى حد أنني قرأت البقية جميعاً، دون أن أنتبه إلى أية دلالة أخرى، ولكن، مع مرور السنين، أدركت الآن، أنني في الحقيقة لم أغادر تلك المكتبة أبداً، ومازلت أواصل قراءة الكتب التي فيها».

أفق السعادة

عن بورخيس؛ يقول ألبرتو مانغويل: «هناك كتّاب يسعون لحشر العالم في كتاب. هناك الآخرون، أقل منهم، الذين يكون العالم كتاباً بالنسبة إليهم، كتاباً يسعون لقراءته على أسماعهم وأسماع الآخرين. كان بورخيس واحداً من هؤلاء الكتاب. لقد آمن، على عكس كل المهاترات، بأن واجبنا الأخلاقي يتمثل في أن نكون سعداء، وآمن بأنه يمكن العثور على السعادة في الكتب، ومع ذلك لم يتسن له أن يفسر لماذا كان الأمر هكذا».

عرض

 

حكايات الكاتب ألبرتو مانغويل مع بورخيس شهيرة، أتي عليها صاحب «فن القراءة» في أكثر من موضع، أبرزها كتابه «مع بورخيس» الذي ترجمه أحمد م أحمد، وصدر عن دار الساقي، إذ يقول مانغويل: «كنت محظوظاً حد الكفاية بأن أكون من بين العديدين الذين يقرأون لخورخي لويس بورخيس»، إذ كان مانغويل يعمل بائع كتب في مكتبة «بيغماليون» في العاصمة بوينس آيرس، وكان بورخيس وهو في طريق عودته من عمله مديراً للمكتبة الوطنية يتردد عليها، و«ذات يوم بعد اختياره عنوانين من الكتب» سأل مانغويل إن كان لديه شيء آخر يفعله، وإن كان باستطاعته الحضور والقراءة له في المساء «إذ إن والدته، وقد بلغت التسعين، أصبح التعب ينال منها بسهولة». وقبل مانغويل العرض، ليتردد على بورخيس ثلاث أو أربع مرات أسبوعياً. وتتسبب تلك الجلسات في تعديل مسار حياة مانغويل، إذ كانت الأمسيات مع بورخيس «شيئاً استثنائياً حقاً، شيئاً غريباً.. كانت هي ما يجب أن تكونه الأحاديث دائماً: حول دقة الكتب، وحول اكتشاف كتّاب لم أقرأهم من قبل، وحول أفكار لم تكن لتخطر لي من قبل».

 

كان بورخيس يعشق الموسوعات والقواميس، شرهاً للجديد منها، إذ كانت ترده ربما إلى طفولته، ومشهد أثير لديه حينما كان يصحبه والده إلى المكتبة الوطنية «وحيث إنه أكثر خجلاً من أن يطلب كتاباً، كان يتناول أحد مجلدات دائرة المعارف البريطانية من على الرفوف ويقرأ المادة التي ينفتح عليها المجلد أمام عينيه»، حسب مانغويل، الذي يضيف: «عماه اشتد عليه بالتدريج في عمر الثلاثين واستقر أبدياً بعد عيد ميلاده الثامن والخمسين. وكان متوقعاً منذ ولادته، لأنه ورث نظراً ضعيفاً من جده وجدته الإنجليزيين، اللذين ماتا أعميين، كذلك من والده الذي أصيب بالعمى في نفس عمر بورخيس. كان يتحدث بسخرية عن الحياة التي منحته الكتب والليل.. وجعلته سليل عائلة هوميروس».

 

لا نهوى التفاخر

 

حجم مكتبة بورخيس، يراه مانغويل «يبعث على خيبة أمل.. كان الزوار يتوقعون مكاناً مكسواً بالكتب برفوف تطفح حتى حافاتها، أكواماً من المطبوعات تسد الممرات وتبرز خارج كل فجوة، أدغالاً من حبر وورق، لكنهم كانوا يجدون بدلاً من ذلك شقة تحتل الكتب فيها الزوايا المهملة». ويستطرد حاكياً عن زيارة «الشاب (حينها) ماريو فارغاس يوسا في أواسط الخمسينات، علق على المحيط المفروش بروية وتساءل: لماذا لم يسكن المعلم في منزل أكثر اتساعاً وفخامة؟ أحس بورخيس بإهانة كبيرة جراء هذا التعليق، فرد على (أحمق) البيرو قائلاً: ربما كانت تلك هي الطريقة التي يتعاملون فيها مع الأمور في ليما (عاصمة بيرو موطن يوسا)، ثم أردف: لكننا هنا في بوينس آيرس لا نهوى التفاخر».

 

أمسيات بورخيس ومانغويل كانت ثرية؛ ليس بالقراءات فقط، وإنما بالتعليقات المذهلة أيضاً من قبل بورخيس على «الكتاب العظماء ليبين من خلال اقتطاع فقرات كيف كانوا يشتغلون، بتركيز شديد، كما صانع الساعات». وكان يقول عن نفسه إنه قبل كل شيء قارئ، وكانت كتب الآخرين هي ما يريد أن يحاط به. ويرى أن جوهر الحقيقة يكمن في الكتب، قراءة وتأليفاً وحديثاً حولها. الأعمى بورخيس كان لا يحفظ عناوين وأمكنة كتبه الخاصة في بيته فحسب، بل كان باستطاعته تمييز المؤلفات الأخرى، حينما يزور مكتبة «يرسل أصابعه فوق كتب لم يفتحها من قبل، شيء ما يشبه حدس الحرفي ينبئه عن الكتاب الذي يلمسه، وهو بارع بفك شيفرة الأسماء التي لا يستطيع قراءتها بالتأكيد».

 

امتلك بورخيس ذاكرة مهولة، تحفظ أشعاره، ولا تخطئ فيها حتى لو كانت مكتوبة منذ زمن، وكان «يتذكر كلمات أغاني التانغو، قصائد رديئة لشعراء ماتوا منذ أزمنة قديمة، نتفاً من حوارات وصور، من كافة أنواع الروايات والقصص، أحجيات وذوات السطر الوحيد، مطولات قصائد بالإنجليزية أو الألمانية أو الإسبانية، وأيضاً بالبرتغالية والإيطالية، سخريات وتوريات وخماسيات فكاهية، أبياتاً من ملاحم الشمال، حكايا جارحة عن أناس التقاهم، مقاطع من فيرجيل».

ويقول الشاعر الأميركي ويليس بارنستون في كتابه «مع بورخيس.. مساء عادي في بوينس آيرس» ترجمة: عابد إسماعيل: «كانت المكتبة الوسط الطبيعي لبورخيس، مثلما كانت المكتبة العامة – مكتبة أيام الطفولة، ومن بعدها المكتبة الصغيرة العامة التي وجد فيها أول عمل رسمي، ولاحقاً المكتبة الوطنية.. كان بورخيس في ظلام المكتبة يجد طريقه بدقة الماشي على حبل مشدود».

ويذكر بورخيس في مقابلة: كانت القراءة ملجأ له، وعندما كان عليّ أن أذهب في رحلة لمدة نصف ساعة وليس بحوزتي كتاب، كنت أشعر بالحزن.

أقر معظم رواد الكتابة الإسبانية في القرن العشرين بأنهم مدينون لبورخيس، من غابرييل غارسيا ماركيز إلى خوليو كورتاثار، ومن كارلوس فوينتس إلى سيفيرو ساردوي، وبأن أصداء صوته الأدبي رددت بقوة في كتابات الأجيال الشابة.

يشار إلى أن بورخيس ولد في 14 أغسطس عام 1899 في العاصمة الأرجنتينة بوينس آيرس، واصطحبه أبوه حين كان صبياً إلى أوروبا، وبعد إكماله الدراسة الثانوية في جنيف انتقل إلى إسبانيا عام 1918، وكتب فيها أولى قصائده عام 1919، عاد إلى الأرجنتين عام 1921، وأسس جماعة طليعية شعرية، عمل مديراً للمكتبة الوطنية عام 1955، وأستاذاً للأدب الإنجليزي. ومن أعماله: «تاريخ عالمي للعار»، و«تخيلات». وحظي أدبه المتفرد باهتمام وتقدير عالمي، وتقاسم مع صمويل بيكيت جائزة الناشرين الدولية عام 1961، وفي 1980 حاز جائزة سرفانتس للآداب. ومن أعماله: «كتاب الرمل، الصانع، كتاب الكائنات الخيالية، تاريخ الأبجدية، الألف».

وفي جنيف توفي بورخيس، لتكتمل دورة حياته في المدينة التي عاش فيها أيام شبابه الأولى، وأوصى أن يدفن فيها، حسب مترجم كتاب «الصانع»، سعيد الغانمي.

ورحل بورخيس في 14 يونيو 1986، في جنيف، وآخر كتاب قُرئ له من قبل ممرضته على فراشه الأخير، كان «هاينزيش أوفتردنغن» لنوفاليس، وهو الكتاب الأول الذي قرأه في جنيف أيام مراهقته.

تويتر