نص المغربي يوسف الريحاني مع «دبي الثقافية»

«جنوب».. نوارس هاربة تتساقط على مسرح مارق

صورة

بحلم التغيير وتسوية نتوءات الجغرافيا والحدود بين جهات الأرض، يبدو مهموماً المسرحي المغربي، يوسف الريحاني، في نصه «جنوب»، الذي صدر مع العدد الجديد من مجلة «دبي الثقافية»، التي تبرز هذا الشهر وجهاً مسرحياً متمرداً، يلخص جانباً من مأساة نوارس بالجملة تتساقط من دون أن تبلغ الضفة الأخرى.

عوالم منفصلة

في شهادته التي تلي النص المسرحي، يقول المؤلف يوسف الريحاني: «في سبته، أعيش علاقة ملتبسة مع ذاتي ومع الآخرين، مع الحاضر كما مع الماضي، لكي ألج المدينة، فأنا ملزم بإبراز جواز سفري للأوروبيين، رغم أنني لم أغادر أرض إفريقيا بعد. في هذه المدينة الحدودية يتجاور عالمان منفصلان: واحد للمغاربة المسلمين في جنوب المدينة، والثاني للإسبان المسيحيين في الشمال. كلاهما على النقيض التام من الآخر، على شفا حفرة. وإذا أضفنا إليهما فيالق الزنوج المتسللة عبر الجبال أملاً في عبور المتوسط نحو أوروبا، نكون إزاء ثلاثة مجتمعات متجاورة، يراودها الحلم نفسه في العيش الكريم الآمن، لكن كيف السبيل إلى ذلك والعوالم الثلاثة منفصلة متباعدة ومتوازية، الكل يخاطب الآخر دون أن يراه، يطارده وفي الوقت نفسه يعيش مطارداً منه».

لا بهرجة على مسرح «جنوب»، ولا ادعاء لديكور جمالي، فالعيون الثماني التي تضمها المسرحية لا تعبأ بذلك، لا ترى في اليمّ الفاصل بين الجنوب والشمال سوى بحيرة زرقاء قاسية، لا ترحم مراكب المهاجرين.. قبر شاسع، يلفظ أجساداً بكل الألوان، ووجوهاً أكلت الأسماك عيونها، ولم تترك منها سوى العظم، لتلملم بقايا الحالمين بالهجرة في أكياس سوداء على ساحل إسبانيا.

في نص «جنوب» المسرحي، الذي يتجاوز الـ100 صفحة بقليل، يتخيّر الكاتب والفنان يوسف الريحاني «صراطاً» بين عالمين، بقعة حدودية يؤمّها الآلاف (آخر الممرات نحو أوروبا)، طمعاً في العبور من هنا إلى هناك، لكن يبدو المكان الحدودي بلا قلب، هضبة مسكونة بلعنة الأرواح المسفوحة، لذا لا يلوّن المؤلف مسرحه سوى بـ«شجرة ذابلة، نابتة من عمق صخرة في خلاء الجبل، ومنحدر صخري وعر يفضي إلى البحر، ومستنقع آسن، وقنطرة غير مكتملة البناء، وصخرة تتقاذف عندها الأمواج».

ليس ثمة زحمة شخوص في «جنوب»، ولا مجموعات تتصارع أصواتها، إذ يكتفي المؤلف الريحاني بأربع شخصيات، تبلّغ المراد، وترمز إلى كثيرين من ورائهم، سواء ذلك الآتي من قلب الصحراء الإفريقية (نوافيا)، أو حتى الفتاة القادمة من أعلى جبال الأطلس (يطو)، أو العجوز الثمانيني (عياش) وخادمه (سامي) الذي ينتظر كلمة القدر لتريحه من ذلك المعمّر الثري.

لا يخفف النص الشعري من كآبة المكان وناسه، ولا تجمّل الصور، المنتقاة بعناية من الكاتب، شيئاً من القسوة؛ فبين كل المفردات اتفاق على تكملة الأجواء الكابية، ودفع النوارس إلى حتفها، أو المهاجرين إلى نعشهم المائي، ما بين سبتة وإسبانيا، يستوي في ذلك شاب قطع الصحراء واختفى بين الغابات، يقتات على الجرذان أو على بقايا النفايات، وشابة «مرغمة على التعري واقتراف الخطيئة دون تقاضي الكثير»، وكل من حولها يرحل، وكأن ذلك مكتوب على الجميع؛ حتى إن الثمانيني الذي ينتظر عبور الحياة كلها، يبدو متلذذاً برؤية كل هؤلاء المسحوقين، يتابع عبر منظاره من يسعون إلى أنياب اليم، ويتمنى أن يمتد العمر طويلاً ليكمل مشاهدة فصول تلك التراجيديا، يصيح في سامي: «ابتعد عني.. مازالت هناك أشياء سأنهض لأقضيها.. مازالت هناك نوارس سأمتع عيني بمنظر هرسها بين أنياب اليم.. لا شيء أروع من الدم وهو يصبغ البحيرة الزرقاء.. لا أمجاد بلا دم.. لا بطولات بلا دم.. لا انتصارات بلا دم.... أعرف أنني سأموت.. حتى الأشجار الباسقة تجتث من أعماق جذورها.. لكنني لن أموت الآن».

ولكن حتى تلك الأمنية لا تتحقق، كما أغلب الأمنيات في المسرحية، فعياش هو الثالث ـ كما يطو ونوافيا ـ يموت في النهاية، ويدفنه سامي الذي خدمه طيلة عقد من الزمن.

«جنوب» قد يرى فيها البعض شكاية عالية النبرة، وقد يقرأها آخرون على أنها رسالة صريحة في الغالب لا تدعي همس الحكماء، أو تأمل ما وراء الظاهرة والجثث الطافية على بحر «المتوسط» كل يوم، من القادمين في الغالب من الجنوب البعيد (إفريقيا)، أو حتى القريب (المغرب وسواها من الأقطار المتاخمة لذلك الشمال المصمت إلا قليلاً).

ويلخص مصير بعض أولئك إحدى شخصيات المسرحية، وهو سامي الذي يقول: «أشاهد كل يوم مصير من يجرب.. مصير كل النوارس القادمة من الجنوب أن تنتهي إلى موت بطيء.. أن تتعفن وسط العباب.. غرقى.. منتفخة الجسد كالعجين المخمر.. بالأمس.. وجد حرس الحدود جسداً غريقاً متحللاً ومكان العينين وجدوا بيضتين استقرتا في مقلتيه.. دفنوه بهما.. دفعوه ليرحل وهم متأكدون أنه لن يصل إلا إلى الأديم.. تحت الأرض.. الرحيل محو للذات.. أنا أخشاه».

mismail@ey.ae

تويتر