رواية مطعمة بترانيم من قلب الوجع العراقي

«يا مريم» سنان أنــطون.. «ماكو أمل»

صورة

مواجع عراقية بالجملة تثيرها رواية «يا مريم» للكاتب سنان أنطون، فثمة ماضٍ هادئ مشتبك بحاضر مفخخ بالطائفية، وبين رحى الزمانين بطل عتيق طيب، يحلم بحياة بلا صخب، وجنازة صغيرة، بعدما تفرق الأحبة في بلاد الله، وبقي هو في بلده متمسكاً بخيار البقاء الصـعب، كـديدبان على المكان ونخيله، إلا أنه يقتل في تفجير إرهابي لإحدى الكنائس، كأن الأمل المتبقي يجهز عليه في النهاية من قبل أعداء الحياة والجـمال والتـسامح.

«يا مريم» الصادرة عن منشورات الجمل في ‬159 صفحة، يسيطر على عوالمها شخصيتان من زمانين مختلفين (يوسف ومها)، يحضر أولهما كشاهد على العصر، ثمانيني عايش أحداثاً عصيبة، ومر عليه رؤساء وزعماء وانقلابات وحروب، ورغم ذلك بقي متمسكاً بالأمل، وإمكانية العيش المشترك مع الآخر، حتى في عز الأزمات، واشتعال الطائفية، إذ يحاول وسط ذلك العبث أن يبدو موضوعيا، ويضع الأمور في نصابها، مبتعدا عن التصنيفات التي تقسم البشر الى شيع وطوائف.

في المقابل، تبرز وجهة نظر أخرى مغايرة ليوسف، مها الشخصية الأخرى التي تدير طرفاً من حكاية «يا مريم»، الشابة العشرينية التي فقدت أملها (جنينها) الذي لم ير النور، واقتطع منها إثر تفجير إرهابي هزّ أرجاء شارع غالبية ساكنيه من المسيحيين. وعلى النقيض من يوسف، تبدو مها، إذ تنتظر كما الآلاف فرصة للهروب من العراق، وترى أنه «ماكو أمل» في البقاء وسط أناس يرفضونها، هي ومن على شاكلتها، وبدا ذلك مبرراً في الرواية، سيما وأن المؤلف وضع جواً خاصاً مليئاً بأشياء لا ترى للمرء سبيلاً للنجاة الا بالهروب، خصوصا بعدما فقدت مها جنينها، وأصيبت بحـالة اكتـئاب تمنعها من استكمال الحياة في المكان الذي يذكرها بمأساتها كل يوم، ولذا تنطلق ثورتها حتى على أقرب الناس إليها، يوسف الذي يستضيفها هي وزوجها في بيته، حتى تتهيأ لهما فرصة الخروج من العراق، ولا يبدو يوسف حانقا عليها، حتى وهي تنعته بأنه يعيش في الماضي، إذ يقدر ظروفها، وبينه وبين نفسه يقول: «يجب أن أسامحها، فزمانها غير زماني، وشبابها غير شبابي، هي فتحت عينيها الخضراوين على الحروب والحصار، وذاقت طعم القحط والقتل والتشرد مبكراً، أما أنا فقد عشت أزمنة الخير، وماأزال أتذكرها، وأصدق بأنها حقيقة».

مشاهد

شاعر وروائي ومترجم

سنان أنطون، شاعر، وروائي، ومترجم عراقي، ولد في العاصمة بغداد عام ‬1967. له الى جانب «يا مريم» روايتا «إعجام»، و«وحدها شجرة الرمان»، وديوان شعر بعنوان «ليل وحيد في كل المدن»، والعديد من المقالات بالعربية والإنجليزية. ترجمت كتاباته الى الانجليزية والألمانية والإيطالية والنرويجية والبرتغالية.

عاد إلى العراق عام ‬2003 بعدما تركها سنوات طويلة ليشارك في إخراج فيلم وثائقي بعنوان «حول بغداد» عن العراق بعد الديكتاتورية والاحتلال. ترجم أشعار محمود درويش وسركون بولس وغيرهما من كبار الشعراء العرب المعاصرين الى الإنجليزية.

نشرت ترجمته لكتاب «في حضرة الغياب» لمحمود درويش بالإنجليزية عام ‬2011 عن دار ارشيبيلاغو. ويعمل سنان أنطون أستاذاً للأدب العربي في جامعة نيويورك منذ عام ‬2005، كما ورد في التعريف به في رواية «يا مريم».

رغم أن المشاهد الأبرز في «يا مريم» هي التي يعلو فيها صوت التفجيرات ورصاص الميليشيات، لاسيما مشهد تفجير كنيسة النجاة، الذي لقي فيه يوسف مصرعه، ونجت منه مها بمعجزة، فإن الرواية حافلة بمشاهد انسانية اخرى، فثمة أناس يرغبون في الحياة معاً، يتناسون الطائفية، ويعلون القيم الإنسانية، بعيدا عن التمترس وراء أي شعارات أخرى، مثل علاقة يوسف بصديقه المسلم سعدون، ورحلتهما الطويلة معاً، ومشاركة كل منهما للآخر أحزانه وأفراحه الصغيرة وجلسات الود الصافية، فسعدون يحضر مع يوسف جنازة أخته حنة، ويضيء لروحها الشموع، ويحمل تابوتها، ويساعد رفيقه على إنزالها الى مقرها الأخير، وغيرها كثير من التفاصيل الحياتية التي تحفل أيضا بالنكات الساخرة من الواقع المر الذي يحياه الصديقان: «تذكرت النكتة التي حكاها لي لؤي قبل أسبوع عن الطائفية فقلت له: اسمع هاي راح تعجبك. يكلك أكو تلاتة عراقيين، سني وشيعي ومسيحي. وكع بيدهم مصباح علاء الدين السحري. طلع الجني، فسال الشيعي كاله: شتريد، أطلب وتمنى. فكاله: امحيلي السنة ما تبقي ولا واحد. الجني كاله: صار، تتدلل. اجا عالسني كاله: اطلب انت. فالسني كاله: اكتل الشيعة كلهم، لا تبقي ولا واحد منهم يتنفس. فكاله صار تتدلل. اجا عالمسيحي، كاله: انت شنو أمنيتك. المسيحي فكر شوية وبعدين كاله: شوف طلبات الجماعة بالأول وبعدين تعال علي».

بعيداً عن السخرية المرة، تبرز النكتة ملمحاً آخر في «يا مريم» حرص عليه مبدعها سان أنطون، وهو إثراء العمل بالروح العراقية شكلاً ومضموناً، إذ فرضت اللهجة المحلية نفسها على كثير من صفحات الرواية، فحضرت الحوارات الممتدة بتلك اللهجة، مضفية وقعاً وواقعية على العمل، حتى ولو احتاجت من قارئ ما الى معاودة المطالعة للحوار أكثر من مرة لكي يستطيع التواصل معه، خصوصاً لمن لم يعتد تلك اللهجة تحديدا.

وبجوار الإغراق في المحلية، توجد لغة أخرى سردية في «يا مريم»، لغة صافية تصور يوميات الوجع العراقي، وتجسد كثيرا من الألم، وقليلا من البهجة المرتبطة غالبا بزمان مضى، لغة شفيفة تستدعيها وجوه أحبة رحلوا، أو حتى نخلة عراقية سامقة، تقاوم رغم ما آلت اليه أحوال ألوف شبيهات بها، هجرها أهلها، وتركوها وحيدة.

وليس بعيداً عن مستويات اللغة أيضاً، تلك المقاطع التي طعّم بها سنان أنطون روايته، والتي تنوعت ما بين مقتطفات من الترانيم، أو الأشعار والأزجال العراقية قديمها وحديثها، وتضفير كل ذلك في بنية السرد بشكل عفوي متقن، لتتمازج حالات مختلفة من اللغة في فضاء واحد بلا أي نتوء أو تصنع.

صور

لا تغرق «يا مريم» التي تنافس على الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) في تفاصيل اللحظة الأخيرة فحسب، بل تضرب في سنوات بعيدة، تستجلب أزمنة مختلفة، يسرد عقوداً منها يوسف، إذ يستحضر عبر ألبوم صوره العائلي شخوصاً وأحداثاً بلا حصر، يخرج أناسا من الفوتوغرافيا الى الحياة، يتحدث عمن رحلوا، سواء الى المنافي، أو الى الحياة الأخرى.

أكثر الوجوه التي يستدعيها يوسف عائلية، الا أن هناك أخرى مغايرة، من بينها وجه حبيبة لم تكتمل قصته معها، إذ منعه فارق السن واختلاف الدين والمؤهل من الارتباط بها، رغم إعلانه أنه كان على استعداد لتغيير ديانته من أجل تلك الجميلة التي ارتبطت بسواه، وتركت جرحاً لم يندمل، وضحكة تتمرد على صورة قديمة يحتفظ بها يوسف في قلبه قبل ألبوم ذكرياته. من بين الوجوه أيضاً التي يسلط يوسف عليها الضوء أيضاً وجه أخته (حنة)، لكن ليس عبر مجرد صورة، بل من خلال ذكريات بالجملة، وعبر التأمل في غرفتها التي ظلت على حالتها حتى بعد موتها، فحنة عاشت بجوار يوسف فترة طويلة في منزله ببغداد، ورفضت هي الأخرى ترك المكان، وعاشت بعد أن تعبت على تربية أخوتها حياة مترهبنة كما تمنت منذ صغرها، حتى ماتت في غرفتها التي كانت أشبه بكنيسة صغيرة على حد تصوير الراوي. والمفارقة أن اليوم الذي كان يُحيي فيه يوسف قداس أخته حنة، هو اليوم الذي وقع فيه تفجير الكنيسة، وكأن الأخوين كانا على ميعاد في لحظة ما.

تويتر