«فتى خورفكان» ارتحــــل طويلاً في دروب الحياة والقصيدة.. وغا ب

أحمد راشد ثاني..«المـوت لا يكفّ عن العـمل»

صورة

«الموت الذي لا يكف أبداً عن العمل» اختار أول من أمس، مبدعاً حقيقياً لا يشبه سواه، غيّب فتى خورفكان الجميل أحمد راشد ثاني، من ارتحل طويلا في دروب الحياة والقصيدة، حاملاً البحر في جيب، والجبل في آخر، وربما «قفص أمواج» في ثالث قريب من القلب.. ترك أحمد راشد ثاني أدباً غير رسمي، لغة وروحا، انتقل بين الشعر بفضاءاته المختلفة، إلى السرد ومروياته التراثية، وكذلك يومياته هو الخاصة شديدة الحميمية.

قديم يتجدّد

قال الشاعر والباحث الإماراتي أحمد راشد ثاني في حوار سابق مع «الإمارات اليوم»، إن الكتاب يعد أحد ملامح حياته اليومية، إذ صاحبه قارئاً أولاً، ثم مهموماً بإيصاله إلى سواه ثانياً، وكاشفاً عن نفائسه عبر عمله في عدد من المكتبات في إمارات الدولة، فقد أسس مع رفاق له مكتبة خورفكان، ثم مكتبة كلباء، وعمل في مكتبة الشارقة المركزية، ثم المجمع الثقافي في أبوظبي، لتستقر به الرحلة في النهاية بدار الكتب الوطنية. وروى بداياته مع الكتاب وهو لم يكمل الـعاشرة في فريج خورفكان القرية المدينة، قائلاً: «كان المدرسون عندما يهمون بالعودة إلى أوطانهم لقضاء الإجازة، أو انتهاء عقودهم، يرمون في زبالة العودة الصحف والمجلات والكتب التي لا يستطيعون حملها معهم، كانوا يرمونها هكذا ببساطة، أما أنا فكنت أسبح في تلك الزبالة، جامعاً كل ما توافر لي من تلك الأوراق، وعائداً بها ركضاً إلى البيت أكدسها». وكما أتى بحر خورفكان بأمواج أساطير ترسخت في وجدان أحمد راشد ثاني، منحته ذلك أيضاً بعض الكتب التي جلبها والده ـ من بومباي تحديداً ـ خلال أسفاره المتعددة. وقرأ أحمد راشد ثاني ديوان الشاعر الصوفي عبدالرحيم البرعي، وتعلق بسحر أشعاره، خصوصاً بعدما عاين وقعها على والده وأصحابه في حلقات الذكر، وكان ينشد تلك الأشعار للنساء اللاتي يجتمعن عند أمه في بعض الأماسي، يفصل ذلك قائلاً: «قرأت ببطء في الديوان، وسمعت ورأيت أبي وغيره يتمايلون على وقع هذه الأناشيد، مطلقين بين الفقرات صرخات لا تصدر إلا عن روح مشقوقة، وكنت أتلوه وأتدرب على مسرحته بيني وبين نفسي، إذ اكتشفت أن للتدريب نتائج، وكثيراً ما كانت تجتمع النسوة عند أمي وكنت أقرأ لهن، فيبكين بمرارة، كنت أتلذذ بالبكاء المنهمر في أثناء إنشادي، وكأنه نوع من التشجيع والإعجاب».

وكان أول إصدار للشاعر ديوانه «سبع قصائد من أحمد راشد ثاني إلى أمه التي لا تعرفه» عام ،1981 ويعتبره صاحبه تجربة عامية متقدمة على كثير مما يقدم حالياً في العامية الحديثة. وقال: «لا أحكي ذلك ترويجاً لتجربتي الأولى التي أقدرها بكل ما فيها، لكنني أرى في بعض الأشعار المطروحة حالياً دليلاً على التراجع، والارتداد الثقافي لدى بعض المبدعين»، مشيراً إلى أن التجربة العامية الإماراتية القديمة تميزت بحداثة أكثر مما يطرح حالياً، مدللاً بشكل خاص على نضوج التجربة القديمة بقصائد الشاعر راشد الخضر الذي وصفه بـ«الشاعر العظيم».

نتاج

«سبع قصائد من أحمد راشد ثاني إلى أمه التي لا تعرفه» عام .1981

«أغاني البحر والعشق والنخيل» إعداد، .1982

«دم الشمعة» شعر .1991

«يالماكل خنيزي ويا الخارف ذهب» شعر عامي، .1996

«قفص مدغشقر» نص مسرحي .1996

«ابن ظاهر» بحث توثيقي .1999

«خافة الغرف» شعر، .1999

«العب وقول الستر» نص مسرحي، .2002

«حصاة الصبر»، إعداد، .2002

«دردميس» إعداد، .2003

«جلوس الصباح على البحر» شعر، .2003

«إلا جمل حمدان في الظل بارك» إعداد، .2005

«يأتي الليل ويأخذني»، شعر،.2007

«رحلة إلى الصير»، بحث، .2007

«أرض الفجر الحائرة»، مقالات، .2009

«على البحر موجة»، نصوص، .2009

«ورقة السرير»، .2010

الأعمال الشعرية الكاملة لأحمد راشد ثاني، .2010

عاش أحمد راشد ثاني حياة الفنان، لكن من دون هالات أو قيود، من اقترب منه، ولو لمرة واحدة، تتغير نظريته عن المبدع (ذلك الكائن الاستثنائي الرقيق على الورق، المؤرق الضجر بالبشر في الواقع)، فالراحل كان بخلاف ذلك، نمطاً مختلفاً، لا تحتاج كزائر، إلى مقدمات طويلة كيما تلقاه، ولست مضطراً إلى تخير الأوقات كي لا تكسر عزلته، يكفيك أن ترفع سماعة الهاتف، ليزيل هو الباقي، فيشعرك بأنك صديق هللت عليه من سفر بعيد، يفتح لك قلبه وبيته ومكتبته، يلقاك بما تيسر من ثياب، ينسيك ما جئت من أجله، حوار صحافي مثلاً، يسألك بمودة عن الأهل وأحوالهم، ويفتح لك كنز حكاياه، وبصوته المشروخ الشجي يسمعك آخر ما كتب.

يستشعر تلك الروح والشخصية المختلفة قارئ نتاج أحمد راشد ثاني، خصوصا سيرته الذاتية، التي روى مقتطفات منها في مقالات عدة، ضمّنها كتابيه «على الباب موجة»، و«ورقة السرير»، ففي الأول ينثر الراحل الذي شيعت جنازته مساء أول من أمس، الطفولة، والتسكعات الطويلة بين الماء والحجر، البحر والجبل، في سكيك خورفكان القديمة، يروي يوميات الصبي ومشاهداته، ذلك الآتي من «مصادفة بحرية»، بعدما اقترن أب «نوخذة» من دبي بسيدة من خورفكان.

عاش الطفل الذي ولد في 1963 بدايات ذات مذاقات شديدة العذوبة والملوحة في آن واحد، عمل راعياً، يسرح بالأغنام باحثا عن العشب، ومتلمسا مواطن كلأ بين الصخور والجبال، لكنه كان يتخيل نفسه بحارا، كوالده كثير الغيابات، يرنو إلى الأمواج، ويستقبل رسائلها المختلفة، وعمل في صباه صياداً، أو بالأدق معاوناً للصيادين، وبائعاأ لما تجود به شباكهم من رزق.

مكان عزيز

كما يخلد أحمد راشد ثاني في «على الباب موجة» طفولته، يخلد المكان العزيز على قلبه، إذ كان الراحل يبدو مثل درويش مجذوب وهو يصف خورفكان القديمة، تحتفظ ذاكرته بمشاهد المدينة القديمة، بيوتها وجدرانها وناسها وأساطيرها ومينائها ونخلاتها وصياديها وقاموسها ومفرداتها و«الشريشة» التي كان يعاقب بالربط فيها الولد المشاكس أحمد راشد ثاني. امتلك صاحب «دم الشمعة» عيناً سينمائية، تطوف في مكان من زمن فات، تقبض عليه، ترصده في شريط خاص، وتأبى أن يغادر ذاكرة الصفحات على الأقل.

يتأنى أحمد راشد ثاني في تفصيل محطات الطفولة، يسترجع بحب ذكرياتها: كيف دخل الطفل إلى أول مدرسة في خورفكان، وحكاية الناظر الذي كان يحمم بنفسه الصغار، ويمنحهم ثياب المدرسة الجديدة. احتفظ الراحل بصور لتلك المدرسة، وناظرها «عبدالعاطي»، إذ زارت مجلة العربي الكويتية المكان، وخلدت تلك الأيام، لكن هل نجت تلك الصور من الحريق الذي التهم كثيرا من مقتنيات الشاعر وكتبه أخيرا، وتحسر عليها احمد راشد في مقال يقطر أسى نشر عقب الحريق؟

خلال تلك الطفولة المبكرة تعرَف الصبي إلى الحرف، افتتن بذلك الساحر الكتاب، فالأب كان يعرف القراءة والكتابة، وأتى خلال سفراته بدواوين وقصص وكتب مختلفة، من بينها «سيرة عنترة»، وٍ«فتوح الشام» للواقدي، و«ديوان عبدالرحيم البرعي» الشاعر اليمني المتصوف، وأسفار تراثية كثيرة جلس أحمد راشد ثاني تحت ظل «الشريشة» مستمتعا بقراءتها، وربما حاول كتابة شبيه لما يطالعه.

في تلك الفترة ايضا نمت بذور الشعر في روح الصغير، إذ كان يقرأ لأمه وجليساتها من دواوين الشعر، ويظل، كما فصّل في «على الباب موجة» الصادر عن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث عام ،2009 في 174 صفحة، يمسرح الأبيات، ويضفي عليها جوا خاصا، لاسيما حينما يجد تفاعلا من الحاضرات، ويشاهد دموعهن وهن متأثرات بالأبيات التي يلقيها الصبي.

كنوز

أول كنوز المعرفة أيضا، عثر عليها أحمد راشد ثاني بين المهملات، إذ وجد كتبا كثيرة بين المخلفات التي يتخلص منها المدرسون قبل عودتهم في الإجازات الصيفية، وانضمت تلك «الكنوز» إلى مكتبة الطفل. الصور الجميلة بلا حصر في «على الباب موجة» تجسد بعفوية ملامح من حياة الكاتب الإماراتي الأولى، وتعرف موجات الكتاب «المعترض، المديفي، باب الجبل، باب البحر، غربان وملائكة وأفلام، وفي ذمة النسيان»، القارئ أكثر بأحمد راشد ثاني، وتقوده إلى حكاء مرهف، يسرد بشاعرية مرهفة، ويروي تجربة حية، قاسى فيها صاحبها واستمتع، من دون ادعاء، أو محاولة لإخفاء تفاصيل قد يتحرج كثيرون من التطرق إليها، بينما يحكيها راشد ثاني بجسارة مبدع متميز.

يقول راشد ثاني في «على الباب موجة» عن دراجة أرسلها له والده «هدية من أبي لي.. دراجة انطلقت بها.. تنقلب علي وأنقلب عليها في دروب الحي المتربة، دراجة هدية من أبي الغائب الذي تذكرني، والتي جعلتني مميزاً لأول مرة في حياتي، مميزاً عني وعن أطفال الحي، أطفال الغبار أقراني مرتفعاً عنهم بدراجة.

دراجة جعلت من لم يكن يتودد لي يتودد. وتركب البنات أمامي، فتشتعل انعطافات السكيك في عيني ويركبن خلفي ويحضنني أحضاناً كنت أبحث عنها، يحضنني خشية من السقوط، أما أنا فأنطلق.. إذاً ما أجمل السقوط، ما أروعه بين أحضان البنات».

طريق البوح

مستكملاً طريق البوح الذي بدأه في كتابه «على الباب موجة»، عرض أحمد راشد ثاني فصولاً مغايرة من سيرته الذاتية في كتاب ثانٍ بعنوان «ورقة السرير» صدر عن المركز الثقافي العربي، عام .2010 لماذا ورقة السرير، هذا التركيب اللافت كما حال كثير من صور أحمد راشد ثاني، يعود ذلك كما أوضح الراحل إلى البياض الجامع بين العالمين، عالم الصفحات والأوراق تحديدا قبل أن تمسه ألوان الأحبار بصورها المختلفة، وكذلك عالم الأسرّة البيضاء، المستشفيات وغرفها وممرضاتها، وذلك الجو المقبض بشكل عام. يحكي الراحل بدايات تعرفه إلى ذلك العالم «الأبيض» قائلا، حينما طلب منه الطبيب أن يعد نفسه للاحتجاز في مستشفى: «لم يسبق لي أن نمت في أي مستشفى من قبل. نمت في الشوارع، في المساجد، وفي القطارات، في القوارب وعلى السلالم وتحت الأشجار وعلى الرمل، ولكني لم أنم في مستشفى من قبل. طلبت منهم إخراج الإبر من يدي كي أذهب إلى البيت وأودع أهلي، ومن ثم أعود إليهم لأسلم نفسي. قبلوا. العادة لا يقبلون ولكنهم قبلوا هذه المرة فخرجت إلى البيت. أخذت ملابسي الضرورية وكتابين أو ثلاثة وأوراقاً. جمعت كل هذا في كيس. ذكرني ذلك بتلك اللحظة التي جمعت فيها دون علم أهلي أغراضي القليلة في كيس وأخذتها وهربت من خورفكان لأول مرة في حياتي. لكن في هذه المرة لا أستطيع مواصلة الهروب، ولست وحدي فقد تبعني إلى المستشفى حيث سلمت نفسي زوجة وطفلان».

ومنذ تلك اللحظة بدأت «ورقة السرير» تستقبل يوميات أحمد راشد ثاني مع ترويض المرض مرة، والتمرد عليه، والسخرية منه مرات، ومنذ ذلك التاريخ بقيت حقيبة الإقامة في المستشفى مشرعة، متأهبة للحمل في أوقات مختلفة من الليل أو النهار، حسب مفاجآت التعب.

يعد «ورقة السرير» مساحة جديدة من الصدق تمتد على 163 صفحة، تنثال فيها بعفوية حكايا المؤلف وذكرياته، وتفاصيل دقيقة من حياته. كأن أحمد راشد ثاني يعلن أن لا أسرار في حياة المبدع، ولا سوءات توارى عن المتلقي، إذ يفضي الشاعر في «ورقة السرير» بتداعياته، كأنه ينثر الروح في فضائها الأبيض، واللافت أن ذلك السرد «الموجع للقلب» لا يستدر به صاحبه تعاطفا مجانيا، ولا شفقة من القارئ الذي يستشعر أحيانا أن الكاتب يخاطبه «وفر تعاطفك لنفسك»، فأنا مشغول بالحكي أكثر، ولا أطلب منك ما فوق ذلك. ويسرد الأديب الراحل بعض تجاربه الحياتية، ومحاوراته مع أبناء وأحبة، وأناس عاديين، ثم مع أمّه في فصل يختلط فيه الألم بالسخرية، إذ يصف فيه الكاتب مكابداته ورحلاته ما بين خورفكان وأبوظبي كي ينقل أمه المريضة من مستشفى على الساحل الشرقي إلى آخر في العاصمة، بينما في الفصل الأخير يروي الشاعر تفاصيل سفرته إلى تايلاند للكشف الصحي. ويضم الكتاب أربعة فصول، هي «برودة في الصيف» و«الشقة الخامسة» و«فاطمة راشد عبود» و«بورخيس في بانكوك» مذيلة بدراسة للكاتبة ابتسام المعلا بعنوان «الذكريات وسوسة والكتابة فم»، تحلل فيها الناقدة تحديداً فصل «فاطمة راشد عبود» والدة الشاعر، ورحلتها مع الالم، وذكريات الابن معها.

تويتر