نانسي .. عاصمة الفن الحديث في فرنسا

 تزخر فرنسا بتاريخ فني عريق يمتد لعصور طويلة، ويبرز الفن الحديث أو "الآرت نوفو" كحركة فنية ثورية أعادت تعريف العلاقة بين الفن والحياة اليومية. وتعد باريس بمثابة قلب الحداثة الأوروبية، واستطاعت مدينة نانسي، الواقعة في منطقة لورين، أن تتربع على عرش هذا الفن لتصبح عاصمته الحقيقية في فرنسا.

ولا يقتصر الفن الحديث على اللوحات والمنحوتات، بل يمتد ليشمل كل التفاصيل في العمارة والأثاث والزجاج؛ حيث تتناغم الخطوط المنحنية والأشكال المستوحاة من الطبيعة مع الألوان الزاهية والمواد الجديدة لتقدم تجربة حسية فريدة.

إن استكشاف مدينة نانسي هو رحلة عبر الزمن إلى حقبة "الزمن الجميل"؛ حيث كان الجمال والإبداع حاضرين في كل زاوية، وتقدم هذه المدينة لزوارها فرصة لا مثيل لها للتعمق في جوهر حركة فنية غيرت وجه التصميم الحديث إلى الأبد.

ساحة "ستانيسلاس"

وعند زيارة المدينة يشاهد السياح مظهرا رائعا في ساحة "ستانيسلاس"، حيث يجلس سكان المدينة وزوارها في الصباح في التراس المشمس لمقهى "فوي"، وعندما يحين وقت الغداء يجلسون أمام "براسيري جان لامور".ويغير الأشخاص مواقع جلوسهم حتى يتتبعون مسار الشمس، التي تعمل على إبراز جمال ساحة "ستانيسلاس" بشكل رائع، وتمتد هذه الساحة الرئيسية في مدينة نانسي بطول 124 مترا وعرض 106 أمتار، ويهيمن عليها تمثال الدوق "ستانيسلاس" الضخم، تخليدا لذكرى النبيل البولندي، الذي حكم مدينة نانسي لمدة 30 عاما تقريبا خلال القرن الثامن عشر.
وتعتبر ساحة "ستانيسلاس" نقطة انطلاق لاكتشاف كنوز مدينة نانسي، والتي تضم إبداعات الفن الحديث "الآرت نوفو" وعصر "الآرت ديكو"، في الفترة التالية له، ولا توجد مدينة فرنسية أخرى تزخر بهذا الكم الهائل من الأعمال الفنية والمباني، التي تعود إلى فترة الفن الحديث، والتي تمتد من عام 1891 إلى 1911 تقريبا.

 


وتشير التقديرات إلى ما يصل إلى 250 مبنى يعود تاريخ إنشائه إلى أكثر من 100 عام. وأوضحت المرشدة السياحية "إيلس هوبلر ديلكروا" قائلة: "ولكننا نتحدث اليوم عن 50 مبنى فقط، فقد تم تدمير العديد من المباني خلال الحرب العالمية الثانية وأثناء مرحلة التجديد الحضري خلال حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن المنصرم؛ حيث تظهر ناطحات السحاب الضخمة في محطة القطار بدلا من مباني الفن الحديث".
وعلى الرغم من وجود العديد من المباني، التي ترجع إلى فترة الفن الحديث في باريس، إلا أن مدينة نانسي تزخر بالكثير من الكنوز المعمارية في مكان واحد، وبالتالي فإنها تعتبر عاصمة الفن الحديث في فرنسا، علاوة على ذلك تمتاز مدينة نانسي بأنها هادئة وليست مزدحمة مثل العاصمة الواقعة على نهر السين.

كيف وصل الفن الحديث إلى نانسي؟
ودائما ما تصطحب هذه السيدة الألمانية الفرنسية، البالغة من العمر 77 عاما، عشاق الفن والعمارة من عصر الآرت نوفو والآرت ديكو بصورة منتظمة، ولكن كيف وصل الفن الحديث إلى مدينة نانسي الريفية النائية الواقعة في شرق فرنسا؟
تكمن الإجابة عن هذا السؤال في إلقاء نظرة على التاريخ المضطرب للقرن التاسع عشر، فبسبب الحرب الفرنسية البروسية بين عامي 1870 و1871، أصبحت منطقة الألزاس واللورين جزءا من الإمبراطورية الألمانية، ولكن مدينة نانسي ظلت كمدينة فرنسية حدودية. وأضافت المرشدة السياحية "إيلس هوبلر ديلكروا" قائلة: "انتقل المثقفون والصناعيون والمواطنون الأثرياء من المناطق المحتلة إلى مدينة نانسي".وقد شهدت المدينة الواقعة على نهر مورث ازدهارا كبيرا؛ حيث تضاعف عدد سكانها من 50 ألف إلى 100 ألف نسمة بين عامي 1871 و1900، وتأسست فيها مصانع للزجاج والصلب، بالإضافة إلى مصانع كيميائية، كما انتقل إليها فنانون، وأسس مصممو الزجاج والنجارون والمهندسون المعماريون ورشا ومصانع خاصة بهم.
وباعتباره فنان زجاج محلي شارك "إميل غاليه" في هذا المشهد الفني؛ حيث طور في ورشته تقنيات جديدة في فن نفخ الزجاج، مثل التمويج والانعكاسات والطبقات الملونة، التي أضافها إلى زخارف المزهريات والمصابيح والأوعية وأواني الشرب.
كل هذه التقنيات كانت جديدة ولا تزال فريدة من نوعها حتى الآن، وأخيرا أسس "إميل غاليه" في عام 1901 مع فنانين آخرين "مدرسة نانسي" كمركز فني، وبفضل الفن الحديث "الآرت نوفو" تحولت المدينة إلى مركز فني.
وأوضحت المرشدة السياحية "إيلس هوبلر ديلكروا" قائلة: "تمتاز فنون الآرت نوفو بالخطوط المنحنية الأنيقة والأنماط الزهرية الواضحة، وقد استلهم فنانو الزجاج ومصممو الأثاث والرسامون والنجارون والمهندسون المعماريون أعمالهم من خطوط الطبيعة".


الشواهد المعمارية للآرت نوفو
ولكن أين تختبئ الشواهد المعمارية لأسلوب الآرت نوفو؟ وللإجابة عن هذا السؤال سارعت السيدة "إيلس هوبلر ديلكروا" مع ضيوفها بالصعود إلى بنك "كريدي ليونيه"، حيث ينظر السياح لأعلى ولا يصدقون ما يرونه؛ حيث يغطي السقف الزجاجي المهيب، الذي يمتد على مساحة 250 مترا مربعا، قاعة الصرّافين.
وقد تم إبداع هذا العمل الفني من قبل فنان الزجاج المعشق "جاك جروبر" في عام 1901، وهو أحد مؤسسي "مدرسة نانسي"، ويتكون هذا السقف من 264 قطعة، وتهيمن عليه الأنماط الزهرية، التي تميز هذا العمل الفني الملون، ويمكن مشاهدة أوراق نبات الياسمين بخطوطها المتمايلة، والتي تعتبر سمة مميزة للفن الحديث.
وتوقفت المجموعة السياحية لتناول الغداء في مطعم "براسيري إكسلسيور" في شارع هنري بوانكاريه، والذي تم افتتاحه في 1911 بعد عام من الإنشاءات، وتوجد هنا أيضا آثار واضحة للفن الحديث في كل مكان؛ حيث تظهر النوافذ الزجاجية من تصميم "جاك جروبر"، وقطع الأثاث من تصميم "لويس ماجوريل"، والمصابيح من مصنع "دوم".

ويعج مطعم "براسيري إكسلسيور" بالزبائن، وتضم قائمة الطعام أطباق الأسماك الفاخرة، وتتعالى أصوات فتح زجاجات الشمبانيا، وفي هذا المطعم يستمتع السياح والسكان المحليون بوقتهم، ومن الصعب أن يصدق المرء أن هذا المطعم كان من الممكن أن يقع ضحية جنون البناء أيضا، وأضافت المرشدة السياحية ذلك قائلة: "كانت هناك احتجاجات، ونتيجة لذلك تم وضع العديد من مباني الفن الحديث ضمن الحماية الأثرية والتاريخية".
وعلى بعد خطوات قليلة يصل السياح إلى أبرز معالم الفن الحديث؛ حيث تصطف الفيلات الأنيقة على طول الشوارع الهادئة في حي "سوروبت"، ويختفي بعض هذه الفيلات خلف الأشجار الكثيفة أو تحميها بوابات مزخرفة بشكل فني ومصنوعة من الحديد المطاوع، وقد استمر البناء في حي "سوروبت" من عام 1900 وحتى 1930 تقريبا.
وأضافت المرشدة السياحية "إيلس هوبلر ديلكروا" قائلة: "حلت الخطوط الواضحة لأسلوب "الآرت ديكو" محل أسلوب "الآرت نوفو" المرح في بعض المباني، ومع حلول عام 1920 أصبح أسلوب "الآرت ديكو" هو الأكثر شعبية"، ولفتت أنظار السياح أيضا إلى عناصر الواجهات أو الأحجار الزاوية، التي تحمل أسماء المهندسين المعماريين، مثل اسم "إميل أندريه" على "فيلا لي غليسين"؛ حيث كان المصممون يقدمون أنفسهم من خلال أعمالهم.
ومع اقتراب نهاية جولة الفن الحديث يستمتع الزوار بعمل فني شامل وفريد من نوعه؛ ألا وهو "فيلا ماجوريل" في شارع لويس ماجوريل، وقد تم بناء الفيلا بدءا من عام 1901 لتكون منزلا لمصمم الأثاث لويس ماجوريل، والآن يتجول السياح في الفيلا مرورا بالأثاث المزخرف في قاعة الجلوس وغرفة الطعام والدرابزين المنحني للدرج وغرفة النوم.
علاوة على أن واجهة المبنى المكون من ثلاثة طوابق تم تزيينها بتفاصيل دقيقة؛ حيث تم تثبيت أنابيب تصريف مياه الأمطار بدعامات تشبه النباتات المائية، وقد تمثل هذه الفيلا ذروة أسلوب الآرت نوفو.
وعندما يسترح الزوار في بيت الضيافة الخلاب "ميون" للسيدة "مارتينه كينو"، تظهر أمامهم على الطاولات الزجاجية والخزانات الجانبية عشرات من المزهريات المزينة بالزخارف الزهرية، التي تنتمي تحديدا لأسلوب الآرت نوفو.

الأكثر مشاركة