بسبب انخفاض كلفتها وارتفاع كفاءتها وسهولة تشغيلها

«الحوسبة عالية الأداء» تتجه من الشركات العملاقة إلى مؤسسات الأعمال والخدمات

الـ«سوبر كمبيوتر» أجهزة فائقة السرعة وقادرة على تنفيذ عمليات حسابية معقدة جداً خلال وقت قصير. أرشيفية

الصورة الذهنية السائدة عن «الحوسبة عالية الأداء» أنها أجهزة كمبيوتر جبارة فائقة الأداء «سوبر كمبيوتر»، توضع في أماكن محدودة للغاية عالمياً، مثل مراكز البحث العلمي الأكاديمي الكبرى، أو لدى عدد قليل من الكيانات العملاقة، الحكومية أو شبه الحكومية، أو المؤسسات متعددة الجنسيات، لتقوم بمهام غاية في الصعوبة والتعقيد، وكثيراً ما جرى التعبير عنها في أفلام السينما بصورة لا تخلو من إثارة وخيال، محاطة بقدر كبير من الغموض والسرية، بعيدة عن المجال العام المفتوح لتقنية المعلومات، لكن العديد من الشواهد تدل على أن «الحوسبة عالية الأداء» المعتمدة على الـ«سوبر كمبيوتر» تعيش حالياً أكبر نقطة تحول في تاريخها على الإطلاق، بعد أن بدأت رحلة الهبوط من عليائها وفضائها الغامض المثير، لتنتشر في «المجال العام»، بل وتصبح التيار الرئيس لدى الآلاف من مؤسسات التجارة والأعمال والخدمات.

وخلال فترة قصيرة، فإننا لن نستغرب أن تتفاخر شركة تعمل في تجارة السلع الاستهلاكية السريعة مثل صناعة الشيبس والمقرمشات، بأنها تدير علاقاتها مع زبائنها عبر «الحوسبة الفائقة الأداء»، المعتمدة على «سوبر كمبيوتر» فعلاً لا قولاً.

حوسبة عالية الأداء

الحوسبة عالية أو فائقة الأداء هي نوع من الحوسبة يتم تشغيلها بواسطة حاسبات فائقة الأداء «سوبر كمبيوتر»، يتم تنصيبها وتشغيلها في بيئة عمل خاصة في تجهيزاتها وإمكاناتها، واصطلح اليوم على تسميتها «مراكز البيانات».

وتتصف هذه الأجهزة بالسرعة الفائقة، والقدرة على تنفيذ مهام وعمليات حسابية معقدة جداً خلال وقت قصير للغاية، وتستخدم فيها تقنيات متنوعة، مثل الحوسبة الموزعة، والحوسبة على التوازي، وغيرها.

هذا التغيير الكبير في طبيعة وبيئة عمل وانتشار الحوسبة فائقة الأداء، تناولته دراسة كتبها المدير التنفيذي لمركز تكساس لأجهزة الكمبيوتر المتقدمة بجامعة تكساس، الدكتور دان ستانزيوني، ونشرها موقع «بيزنس إنسايدر» تحت عنوان «الحوسبة فائقة الأداء.. نظرة على الخطوة التالية».

وقد بلور ستانزيوني التغيير الكبير الحاصل حالياً في مجال الحوسبة عالية الإداء، في انخفاض كلفتها، وارتفاع كفاءتها، في ما أصبح تشغيلها أكثر سهولة ويسراً، وهذه العوامل الثلاثة فتحت أمامها الطريق لتنتقل، بصورة متسارعة واسعة النطاق، من مؤسسات وكيانات عملاقة محدودة العدد جداً، إلى عشرات وربما مئات الآلاف من المؤسسات التجارية الكبيرة والمتوسطة الحجم، وهذا تغيير على صعيد الانتشار.

كما تنتقل كذلك من مجرد كونها بيئة للمحاكاة وإنجاز المهام المتعلقة بالتحليلات الفيزيائية والعلمية، إلى بيئة لإنجاز الاعمال والمهام المتعلقة بالأهداف اليومية ومتوسطة الأجل لدى مختلف المؤسسات، وهذا تغيير على صعيد الأداء.

البناء والتشغيل

ركز ستانزيوني في دراسته على مجموعة من النقاط التي تعد تجسيداً عملياً لهذا التطور، أولها النقطة المتعلقة بطبيعة بناء وتشغيل مراكز البيانات، التي تعد البيئة أو الحاضنة التي تعمل من خلالها الحوسبة عالية الأداء، إذ يجري حالياً تغيير الطريقة المستخدمة في إمداد هذه المراكز بالطاقة، لتنتقل من التيار الكهربائي المتناوب أو المتغير «إيه سي»، إلى التيار الكهربائي المباشر المستمر «دي سي»، وهذه نقلة نوعية كبرى في تاريخ الحوسبة عالية الأداء، وهدفها الرئيس هو تقليل كمية الطاقة المستخدمة في مراكز البيانات بنسبة 15% على الأقل، مقارنة بما هو سائد حالياً، فضلاً عن أنها خطوة تتيح المزيد من الفرص في استخدام مصادر الطاقة المتجددة في تشغيل مراكز البيانات، مثل الطاقة الشمسية، والطاقة المخزنة في البطاريات الكبرى، التي تنتج تياراً مستمراً أصلاً. كما أن الانتقال إلى هذه الطريقة في تشغيل مراكز البيانات يعني خفضاً مهماً في تكاليف الإنشاء والتشغيل، ويجعل الوقت مناسباً لقرار التحول إلى العمل بالحوسبة عالية الأداء داخل المزيد من المؤسسات والشركات، ولذلك، يتوقع ستانزيوني أن تأخذ الشركات والمؤسسات في اعتبارها أن تتحول إلى التيار المستمر، عند بناء مراكز البيانات الجديدة.

السرعة والكفاءة

أما النقطة الثانية التي تدفع هذا التحول فتتمثل في مستوى التقدم الذي وصلت إليه الحوسبة عالية الأداء، والذي أصبح مذهلاً وكبيراً، مع التحسن المتواصل في صناعة أجهزة الكمبيوتر والمعالجات والشرائح الإلكترونية عموماً، حتى أن قياس ذروة الأداء لحاسبات فائقة الأداء لم يعد بالأمر السهل، وباتت الأمور تقاس بالقدرة، فعند الرغبة في بناء مركز بيانات يعمل بالحوسبة عالية الأداء يكون السؤال: ما المقدار الأكبر من السرعة والكفاءة في حل المشكلات وإنجاز المهام المطلوبة؟ وليس ما هي ذروة الأداء التي يمكن أن تحققها هذه الحوسبة.

تغيير المعادلة على هذا النحو يفتح المجال لدخول عشرات وربما مئات من المنتجين والموفرين لحلول وأنظمة الحوسبة عالية الأداء، بدلاً من الاقتصار حالياً على أطراف محدودة جداً، ما يعني بالتبعية قدرة المزيد من الشركات والمؤسسات على الاختيار من بين أنظمة ومنتجين متنوعين، وما دامت الخيارات تنوعت، فإن فرص التطبيق والانتشار العملي تكون أكبر وأوسع، وارتفع نطاق الاستخدام، ما يجعل الوقت مناسباً أكثر لاتخاذ مزيد من قرارات التحول نحو الحوسبة عالية الأداء.

التوقيت المناسب

أما النقطة الثالثة فهي مسألة التوقيت المناسب، التي أصبحت من الدوافع والمحركات الأساسية التي تقف وراء انتشار الحوسبة عالية الأداء، فتاريخياً كانت صناعات البترول والغاز والصناعات الجوية وشركات السيارات هي التي تحتاج أكثر إلى تشغيل عمليات محاكاة، ومن ثم تقبل على تشغيل مراكز بيانات تعمل بالحوسبة عالية الأداء.

وفي الفترات الأخيرة، بات هناك ما يدل على أن عمليات المحاكاة لم تعد حكراً على التحليلات الفيزيائية الكبرى، فعلوم الحياة والصحة والصيدلة كلها تستخدم الحوسبة عالية الأداء لتحلل بيانات المرضى، وبيانات الـ«جينوم»، وهناك أيضاً إدارات التحليل والمتابعة في المؤسسات الكبرى، التي أصبحت تستخدم الحوسبة عالية الأداء من أجل تحليل بيانات المستهلكين، واليوم نتحدث عن مشكلات في تحليلات البيانات فائقة الضخامة في «فيس بوك» والبنوك.

الحوسبة السحابية

النقطة الأخيرة التي تدعم انتشار الحوسبة عالية الأداء هي النجاح الباهر الذي حققه مفهوم الحوسبة السحابية خلال السنوات الأخيرة، فهذا المفهوم قدم طريقة فعالة من طرق تطبيق ونشر الحوسبة عالية الأداء، إذ أتاح للشركات والمؤسسات أن تحصل على الحوسبة عالية الأداء كخدمة سحابية، سواء من مراكز بيانات لدى آخرين، ومن ثم لا تحتاج إلى بناء مراكز بيانات خاصة بها، أو تبني مراكز بيانات داخلية في مقارها وفروعها، وتجعلها تعمل بمفهوم الحوسبة السحابية، ثم تشغل الحوسبة عالية الأداء من داخلها، فتحصل على مزايا الحوسبة السحابية والحوسبة عالية الأداء في وقت واحد، وهذه الحلول المتنوعة توفر خيارات متعددة أمام الشركات الكبيرة والمتوسطة لتنفذ ما يناسبها من الحوسبة عالية الأداء.

تويتر