بسبب التغيّرات التقنية السريعة وطرح برمجيات لا تتوافق مع الوثائق القديمة

مخاوف من ضياع التراث البشري في عصر الإنترنت

صورة

يشهد العالم حالياً فيضاً من المعلومات يستهلكها البشر ويتبادلونها في حياتهم اليومية، وفي كل ثانية يلتقط آلاف الأشخاص صوراً، وغالباً بوساطة الهواتف أو الكاميرات الرقمية، وسرعان ما تجد الصور سبيلها إلى مواقع الإعلام الاجتماعي، من دون أن تتوافر منها نسخ مادية مطبوعة.

ويدفع ذلك إلى التفكير في خطر زوالها جميعاً بسبب التغيرات التقنية المتلاحقة، وظهور برمجيات ووسائط عرض قد لا تدعم عرض البيانات الحالية، كما يُثير تساؤلات تتعلق بعمل المؤرخين وكتاب السير في المستقبل، وسُبل تفهمهم لحياة الأشخاص والمجتمعات في غياب الخطابات الشخصية ودفاتر اليوميات والمراسلات الرسمية.

ولا يُهدد هذا الخطر فقط التراث الشخصي للأفراد في رسائل البريد الإلكتروني والصور العائلية، بل يطال التراث الجماعي الذي يُمثله جزئياً في الوقت الراهن التعليقات في «فيس بوك» و«تويتر» ومدونات الإنترنت، كما يمتد خطر الضياع للأدب غير التقليدي في التقارير الرسمية وأوراق العمل والاجتماعات والبيانات السياسية التي تُنشر فقط في مواقع الإنترنت، كما تضمن مقال في صحيفة «الغارديان» البريطانية، كتبه الباحث في جامعة «ليستر»، لويس دارتنل.

وفي منتصف فبراير الماضي، حذر أحد مُخترعي الإنترنت ونائب الرئيس التنفيذي لشركة «غوغل»، فينت سيرف، من احتمال ضياع جميع ما تحويه ذاكرة أجهزة الحواسيب من صور ووثائق بسبب سرعة التطور التقني، وطرح برمجيات جديدة قد لا تتوافق مع الوثائق القديمة، ما يجعل المعرفة الإنسانية خلال قرن كامل عرضة للخطر.

ولفتت هذه النقطة الأنظار من قبل، وبدا ذلك في بعض المحاولات الرامية للمحافظة على البيانات الرقمية. ومنها في عام 2010 توقيع «مكتبة الكونغرس» الأميركي اتفاقية مع موقع التدوين المُصغر «تويتر» لحفظ جميع التغريدات التي أتاحها أصحابها لعموم المستخدمين منذ مولد الموقع في عام 2006، على أن تُواصل المكتبة مهمة حفظ التغريدات وإتاحتها للبحث والتحليل.

واتخذت «المكتبة البريطانية» خطوات لإصلاح ما يُشار إليه باسم «الثقب الأسود الرقمي» الذي يُهدد بفقدان المعلومات بمجرد حذفها من صفحات «الويب» أو إغلاق موقع بأكمله. وتعمل المكتبة منذ عام 2004 على أرشفة المواقع لحفظها للأجيال المُقبلة، على غرار تسجيل الأدب المطبوع.

وحظيت هذه المجهودات بدفعة من المساعدة في عام 2013 مع سريان قوانين للإيداع القانوني للمواد غير المطبوعة في المملكة المتحدة، الأمر الذي سمح للمكتبة البريطانية وخمس مكتبات أخرى، منها مكتبات جامعات «أوكسفورد» و«كامبريدج» و«ترينتي كوليدج»، بأرشفة مختلف المواد المنشورة رقمياً.

وسيتم الاحتفاظ بنحو خمسة ملايين موقع على الإنترنت في المملكة المتحدة، وتسجيل لقطات للمواقع بانتظام، بحيث يُمكن للمؤرخين في المستقبل متابعة تطور «الويب» بمضي الوقت. وتتضمن المحاولات أيضاً عروضاً تجارية من خدمات مثل «ماي سوشيال بوك» MySocialBook و«بلورب» Blurb لطباعة منشورات الأشخاص والعائلات في «فيس بوك» في كتب ورقية.

ولا يُجازف البشر بفقدان الصور والنصوص وحدها، بل بضياع التسجيلات الصوتية أيضاً، كحالة تسجيلات الموسيقي الأميركي، هودي ويليام ليدبتر، الذي يُشار إليه باعتباره من أهم عازفي الغيتار ذي الـ12 وتراً، والأب الروحي للموسيقى المعاصرة. وفُقد الكثير من التسجيلات الأصلية لليدبتر، كما ساءت حالة شرائط لجلساته، نظراً إلى حفظ التسجيلات كبصمة مغناطيسية على شرائط رقيقة من أكسيد المعادن، وفي حال انفصلت هذه الطبقة الضعيفة تُفقد المواد من دون رجعة.

ويُعد أرشيف التسجيلات الصوتية في «المكتبة البريطانية» من بين أكبر المستودعات من نوعه في العالم، ويُقدر المختصون تعرض نحو مليوني تسجيل لخطر الضياع للأبد. وتوجد التسجيلات التاريخية في وسائط متنوعة منها الشرائط ذات البكرات الكبيرة وشرائط الكاسيت والأسطوانات الشمعية، وجميعها معرضة ليس فقط لخطر تدهور حالتها، وإنما أيضاً للتقادم واختفاء التقنية اللازمة لتشغيلها. وإذا ما عجز المختصون بالأرشفة عن معالجة هذه المسألة، فقد تنتهي محاولة نسخ تسجيل بتدميره تماماً. وعلاوة على صعوبة الحفاظ على التسجيلات القديمة، يبرز تحدٍّ آخر في اختيار الصيغة الأمثل لحفظ التسجيلات لمئات السنوات المُقبلة، وهو ما يعتمد على التوقعات بشأن أي التقنيات يُرجح توافرها في المستقبل. وفي حين تسمح الأقراص الصلبة للحواسيب بتخزين كميات ضخمة من المعلومات الرقمية، لكنها قد تُفقد جميعها إذا ما واجهت مشكلة أو جرى محو محتواها. وسبق أن واجهت وكالة «ناسا» للفضاء مشكلات كبيرة في مساعيها لاستعادة معلومات قديمة جمعتها مركباتها الفضائية، بسبب الصيغة القديمة التي حُفظت بها الصور والبيانات.

ولا ترجع أهمية السجلات الصوتية إلى حفظها للموسيقى والأغاني فقط، بل الأهم احتفاظها بالخطب المهمة والتاريخ الشفهي واللغات النادرة والأصوات المميزة في الحياة البرية لحيوانات تواجه خطر الانقراض. ويطرح ذلك تساؤلات حول معايير اختيار التراث الثقافي الجدير بالحفظ، وما إذا كان مثلاً لمقاطع الفيديو في «يوتيوب» عن القطط قيمة ثقافية كبيرة.

وتتجاوز القضية التراث الشخصي إلى فكرة الاحتفاظ بنواة للمعرفة البشرية يُمكن لسكان الأرض العودة إليها في حالات الكوارث المدمرة، وربما تكون حضارات العالم المعاصر معرضة أكثر من المجتمعات الأخرى عبر التاريخ لخطر شامل بالنظر إلى الترابط المعقد للإنتاج والاقتصاد في دول اليوم. وبالتالي، يبدو من المنطقي التفكير في وسيلة لحماية التراث البشري من المعرفة التي تراكمت على مدى قرون للمساعدة في التعافي عقب كوارث واسعة النطاق.

وفي الواقع، لا يعد التفكير في سبل حماية المعرفة البشرية في حالات الكوارث الكبرى أمراً جديداً، بل فطن إليه أوائل مُصنفي الموسوعات في منتصف القرن الـ18 لإدراكهم زوال الحضارات القديمة في مصر واليونان وروما وتركها القليل من التراث المكتوب. ومثلاً اعتبر الكاتب والفيلسوف الفرنسي، دينيس ديدرو، موسوعته مستودعاً آمناً للمعرفة عند وقوع النكبات، ولم يضم إليها المعرفة الواضحة فقط، بل أضاف مخططات مُفصلة للحرف اليدوية والمعرفة العملية.

وعلى الرغم من أن الكتب المطبوعة ليست بمأمن عن أخطار كالاحتراق والرطوبة، إلا أنها أثبتت حتى الآن قدرتها وسيطاً جيداً للاحتفاظ بالمعرفة البشرية لفترات طويلة مُقارنة بالنقوش على أحجار الغرانيت أو المواد المحفوظة على الأقراص الصلبة للحواسيب.

ويُمكن للكتب تخزين قدر كبير نسبياً من المعلومات من دون الحاجة إلى أماكن ضخمة أو معدات خاصة للوصول إلى محتواها، لكن العالم حالياً بصدد تقدم تقني جديد تماماً لم يطرأ بحسبان مؤلفي الموسوعات في القرن الـ18 الذين سعوا لتدوين كيفية تصنيع أهم الأدوات وطريقة استخدامها، وهو الطباعة ثلاثية الأبعاد.

وربما خلال المستقبل غير البعيد، سيكون كل ما يلزم لإعادة إطلاق الحضارة البشرية قبواً يضم طابعة ثلاثية الأبعاد وقاعدة بيانات تُخزن تصميمات وكتيبات التعليمات الأساسية وزراً كبيراً للطباعة، ما يُتيح تصنيع دليل سريع لتطوير الأدوات اللازمة لصنع مزيد من الأدوات، ويبقى الأمل في ألا يحتاج البشر إلى كل هذا.

 

تويتر