نجاح «أبل» في الابتكار وطرح منتجات متنافسة عززا تفوقها على «مايكروســــــوفت»

في عام 1999، سجل سهم شركة «مايكروسوفت» مستوى مرتفعاً، وقاربت قيمتها السوقية 620 مليار دولار، وحينها كانت فكرة أن تتخطاها شركة «أبل»، فضلاً عن أن تبلغ ضعفي قيمتها، تثير بالتأكيد كثيراً من الضحك أكثر مما تستدعي مناقشة جادة، ففي تلك الفترة كانت «أبل» تشهد تراجعاً واضحاً، مُقابل «مايكروسوفت» التي هيمن نظام تشغيلها «ويندوز» على سوق الحواسيب الشخصية، لدرجة دفعت الحكومة الأميركية لاعتبار أنها تمارس احتكاراً غير قانوني.

وخلال الأسبوع الماضي، كشفت كلٌ من «مايكروسوفت» و«أبل» عن أحدث أرباحهما، ليتبين أن ما كان مُستبعداً من قبل، صار واقعاً قائماً، إذ بلغت القيمة السوقية لشركة «أبل» 683 مليار دولار، وهو ما يزيد على ضعفي القيمة السوقية الحالية لنظيرتها الأميركية، «مايكروسوفت»، التي تبلغ 338 مليار دولار.

وخلال مؤتمر عقدته «أبل»، في الـ27 من يناير الماضي، وصف الرئيس التنفيذي للشركة، تيم كوك، الربع الأخير بأنه «تاريخي»، كما دعا مكاسب الشركة بـ«المذهلة»، مُشيراً إلى بيع «أبل» ما يزيد على 34 ألف هاتف «آي فون» في كل ساعة من ساعات اليوم الـ24 خلال الفترة المُمتدة بين أكتوبر إلى ديسمبر من عام 2014، وقال كوك إن «من الصعب فهم هذا الحجم الضخم من المبيعات».

وحققت «أبل» مكاسب بلغت 18 مليار دولار، ما يفوق ما حققته أي شركة أخرى خلال ربع عام واحد، وبلغ هامش ربحيتها 39.9%، كما وصلت عائداتها إلى 75 مليار دولار، إضافة إلى تدفق نقدي حر يبلغ 30 مليار دولار في ربعٍ واحد، وهو رقم يفوق ما تُحققه شركة «آي بي إم» في عام كامل، بعدما كانت يوماً ما إحدى الشركات المُسيطرة في مجال التكنولوجيا، حسب ما أشار المُحلل البارز في شركة «بيرنشتاين»، توني ساكونجي، كما ارتفع سهم «أبل» بنسبة تفوق 5%، على الرغم من التراجع العام في وضع السوق.

وفي مُقابل «الربع التاريخي» لشركة «أبل»، تحدث الرئيس التنفيذي لشركة «مايكروسوفت»، ساتيلا ناديلا، بطريقة أكثر هدوءاً، لافتاً إلى التحديات القائمة، ويُحاول ناديلا تغيير مسار الشركة ليحد من اعتمادها على نظام التشغيل «ويندوز».

وبالكاد، بلغت إيرادات «مايكروسوفت» ثلث ما حققته «أبل»، كما بلغ دخل التشغيل 7.8 مليارات دولار، وهو ما يقل عن ربع دخل «أبل»، في حين هبط سهمها بنسبة تفوق 9% بدافع من قلق المستثمرين من شيخوخة سوق برمجيات الحواسيب الشخصية.

ومما يُشير إلى التحول الكبير في أوضاع الشركتين الأميركيتين، ما قاله الصحافي المتخصص في التكنولوجيا، مارك ستيفنز، الذي ينشر مقالاته باسم روبرت إكس كرينجلي، عن مقابلة جمعته بالمؤسس المُشارك في «مايكروسوفت»، بيل جيتس، في عام 1998 لمصلحة مجلة «فاينتي فير».

وحينها لم يكن جيتس قادراً على تصور موقف قد تكون فيه «أبل» في أي وقت أكبر وأكثر تحقيقاً للأرباح من «مايكروسوفت»، وقال حينها، مُشيراً إلى أحد مُؤسسي شركة «أبل» ورئيسها التنفيذي الراحل، ستيف جوبز: «إنه يعلم أنه لا يستطيع الفوز».

لكن بعد أقل من عقدين، أمكن لشركة «أبل» الفوز فعلاً، ويُقدم البحث في أسباب ودوافع ما جرى دروساً مُهمة حتى لشركة «أبل» إذا ما رغبت في تجنب مصير «مايكروسوفت»، لأنها بعد كل شيء لاتزال تعتمد على خط إنتاجي واحد، وهو هاتف «آي فون»، كما كانت حال شركة «مايكروسوفت» مع نظام تشغيل «ويندوز»، حسب ما تناول المحرر جيمس ستيوارت في مقال نشرته صحيفة «ذا نيويورك تايمز» الأميركية، بحث في عوامل تفوق «أبل»، وقارن بين مسار الشركتين.

وتظل أنجح الشركات بحاجة إلى رؤية، وهو ما يُتوافر لدى الشركتين، لكن تبدو رؤية «أبل» أكثر ثورية وأبعد نظراً، وفي الماضي تنبأت «مايكروسوفت» بوجود حاسب على كل مكتب، وهو ما مثل فكرةً ثورية مُقارنةً مع الحواسيب الكبيرة أو «ماين فريم» التي أنتجتها «آي بي إم» وشغلت غرفاً بأكملها، ومضت «أبل» إلى مدى أبعد بتصور وجود حاسب في كل جيب في هيئة هاتف، وصارت الهواتف أكثر الأجهزة الاستهلاكية انتشاراً في العالم، وهزت «أبل» سوقين ضخمين، هما الحواسيب والهواتف.

وقال ساكونجي إن «أبل» كانت حالمة جداً بإبداعها لفئات جديدة مُهمة في مجال الإلكترونيات الاستهلاكية وتوسيع نطاقها، وأضاف أن تقديم ابتكارات فريدة ورائدة هو أمر صعب حقاً، وتزداد صعوبته عند القيام به مرات عدة كما فعلت «أبل»، واعتبره مُعادلاً لإنتاج شركة «بيكسار» فيلماً ناجحاً وشعبياً يتلوه آخر يتمتع بالنجاح ذاته، ويُوجب ذلك، وفقاً لساكونجي، الإشادة بشركة «أبل» وتقدير صنيعها.

وقال والتر إيزاكسون، الذي التقى بستيف جوبز كثيراً لكتابة سيرته الذاتية: «آمن ستيف بأن العالم يتجه إلى المحمول، وكان مُحقاً في ذلك، كما اعتقد بأهمية الجمال، وتأثر بعمق بالتصميم الجميل، فالأشياء التي تُنجز وظائف رائعة ينبغي أن تكون مرغوبة أيضاً».

وكغيرها من الشركات الناجحة، حرصت «مايكروسوفت» على حماية مكانتها الرائدة في سوق أنظمة تشغيل الحواسيب، لكن ذلك عرضها في الوقت نفسه لخطر إهمال ابتكارات مهمة.

وقال المُدير الإداري البارز ومُحلل التكنولوجيا في شركة «إيفركور»، روبرت سيهرا: «عليك الاعتراف بأن (مايكروسوفت) كانت ولاتزال ناجحة»، مضيفاً أنه «من الواضح مُواجهة (مايكروسوفت) صعوبات في حماية تفوق نظام تشغيل (ويندوز) دون أن يُعيقها ذلك عن التقدم في مجالات أخرى».

واستطرد: «أعتقد أنه حتى (مايكروسوفت) نفسها ستتفق على أنهم كانوا قلقين للغاية على مدار سنوات حيال حماية (ويندوز)، لحد ألحق الضرر بهم».

ويختلف ذلك عن مسار شركة «أبل»، وبحسب تعبير إيزاكسون، فقد غرس ستيف جوبز في الحمض النووي للشركة عدم الخوف من تفكيك نفسها أو تقديم مُنتجات جديدة تُزاحم ما تُوفره بالفعل.

وقال إيزاكسون إنه «في الوقت الذي كان مُشغل الموسيقى (آي بود) يُدر أرباحاً طائلةً، قال جوبز إنه في يوم ما سيتبين لصُناع الهواتف أن بإمكانهم تقديم الموسيقى من خلالها، وأن على (أبل) أن تُوفر هذا أولاً» من دون أن تخشى من المنافسة، مضيفاً أن «ما يجري حالياً أن هواتف (آي فون) ذات الحجم الأكبر، (آي فون 6 بلس)، قد تضر بمبيعات حواسيب (آي باد) اللوحية، لكنها الشيء الصحيح الذي ينبغي القيام به».

ويتفق معه سيهرا، لافتاً إلى أن «أبل» نفسها تسببت في تراجع مبيعات «آي بود»، لكن سعادتها الآن ببيع 74.5 مليون هاتف «آي فون» خلال الربع الماضي تفوق بالتأكيد حالها إذا ما واصلت بيع الكثير من أجهزة «آي بود»، وهو أمر لم يكن ليتحقق بأي شكل، نظراً لأن شركة أخرى كانت ستدخل السوق وتلتهم جانباً من حصتها.

وفي ما يتعلق بشركة «مايكروسوفت»، فقد تكررت محاولاتها لتنويع أعمالها، وتُواصل ذلك حالياً تحت قيادة ناديلا، ويرى ساكونجي أنها مع ذلك، تبدو أكثر كتابع للاتجاهات الجارية، في حين تقترب «أبل» أكثر من موقع الريادة، وتُحاول إعادة ابتكار المجال.

وأقدمت «مايكروسوفت» في خطوة متأخرة على شراء شركة «نوكيا»، وقدمت هاتفها الذكي الخاص بنظام «ويندوز» لتخوض مُنافسة مُباشرة مع «أبل»، وعلى الرغم من الإشادة بالجهاز، قال سيهرا: «لست متأكداً من حاجة المستهلكين إلى خيار ثالث»، يُضاف إلى نظاميّ «أندرويد» و«آي أو إس».

وفي الوقت الراهن، تتراجع حصة «مايكروسوفت» المحدودة أصلاً في سوق الهواتف الذكية.

ومع ذلك، يظل نجاح «أبل» في الاحتفاظ بمنزلتها المتقدمة في سوق الهواتف الذكية ومبيعاتها الكبيرة محل تساؤل، ويتخوف بعض المستثمرين من أن تُصبح الشركة أسيرة لنجاحها.

وأشار توني ساكونجي إلى اعتماد «أبل» بشكلٍ كبير على هاتف «آي فون»، إذ شكل 69% من إيراداتها، وكامل نمو أرباحها خلال الربع الماضي، وقال إنه «تُوجد مُخاطرة دائمة من حدوث تحول نوعي آخر، فلا يدري أحد بما قد يحمله المستقبل، لكن (أبل) تحيا وتموت بهاتف (آي فون)، وهو امتياز عظيم لحين توقفه».

واعتبر سيهرا أن «أبل» تخوض تحدياً يتعلق بأرقامها الكبيرة، فيُثير اقتراب قيمتها السوقية من 700 مليار دولار خوف البعض الذين يتساءلون: «كيف يُمكن أن تصير أكبر؟ كيف يكون هذا مُمكناً؟»، وبالفعل تُعد «أبل» أكبر شركة في العالم بهامش كبير.

وبحسب سيهرا، تبدو أسهم «أبل» حتى الآن صفقةً رابحة، وقال إن التقييم لايزال رخيصاً أقل من 13 ضعف أرباح العام المُقبل، وبـ10 مرات عن التدفق النقدي، وكل منهما يقل عن متوسط السوق.

وأضاف أن «لدى (أبل) 140 مليار دولار من السيولة النقدية في الميزانية، وتجني 60 مليار دولار من التدفقات النقدية كل عام، وجميعها أرقام هائلة يصعب استيعابها».

ولفت سيهرا إلى تميز نموذج العمل الخاص بشركة «أبل»، موضحاً أنه «بينما تُسيطر (مايكروسوفت) بالفعل على مجال عملها الرئيس، وهو ما يدع لها فرصةً محدودة للنمو، لا تحظى (أبل) بحصة سوقية كبيرة ومسيطرة في أي من مجالات عملها، بما في ذلك الهواتف الذكية، فنصيبها من السوق لا يتجاوز 20%، إذ اتبعت (أبل) استراتيجية السعي للحصول على حصة صغيرة من السوق، وهو ما يُتيح لها مجالاً واسعاً للنمو».

ويدفع ذلك كله إلى التساؤل عما إذا كانت «أبل» ستُكمل مسيرتها تحت رؤية ستيف جوبز بالابتكار الثوري الذي قد يتعارض مع جانب من أعمالها، بعدما حققت الشركة نجاحاً يُماثل مكانة «مايكروسوفت» السابقة، وفي ذلك، يرى سيهرا أن طرح «أبل» منتجات جديدة هزت مكانة «آي بود» وحواسيب «ماك»، يختلف تماماً عن التفكير في المخاطرة بقوتها الأهم، وهي هاتف «آي فون».

وقال: «يُصبح الأمر أصعب على (أبل)»، مشيراً إلى أن «السؤال الذي يطرحه المستثمرون يتعلق بشكل هاتف (آي فون) المُقبل، وهو ما يظل دون جواب واضح، فمن المستحيل التفكير في أي شيء يُمكنه أن يُثمر عملاً بقيمة 140 مليار دولار من لا شيء».

الأكثر مشاركة