الفكرة تعتمد على بيئة ثلاثية الأبعاد مجهزة بإشارات بصرية وصوتية تحاكي تجربة المريض
تزايد الإقبال على استخدام «الواقع الافتراضي» في العلاج النفسي
ينجو كثيرون من أحداث مفجعة كالحروب وحوادث السيارات الخطرة والاعتداءات الجسدية والجنسية، لكنها تخلف في نفوسهم جروحاً لا تندمل بسهولة، وقد تصاحبهم مشاعر الصدمة والخوف طوال حياتهم. وقبل سنوات بدأت الاستعانة بتقنية الواقع الافتراضي التي تقدم محاكاة للبيئات الحقيقية على الحاسوب، في علاج بعض حالات المرض النفسي، مثل القلق والرهاب واضطرابات ما بعد الصدمة.
ويكتسب استخدام تقنية الواقع الافتراضي في العلاج شعبية متزايدة كأحد أنواع العلاج بالتعرض الذي يدخل المريض دون تعريضه للخطر إلى تجربة مشابهة لما يثير قلقه أو خوفه بهدف العلاج. ومثلاً خاض الجندي الأميركي السابق في العراق، كريس ميركيل، هذا الأسلوب العلاجي للتعافي مما يعرف باضطراب ما بعد الصدمة، المعروف اختصاراً بـ«PTSD»، وينجم عادة عن صدمات نفسية أو مادية أو تعرض حياة الشخص لتهديد بالغ.
وخلال العلاج استعاد ميركيل تجربته في العراق من خلال مشاهد الحرب وصوت إطلاق النار كما لو أنه عاد مرة أخرى إلى ساحة المعركة، لكن ذلك من خلال ارتداء نظارات الواقع الافتراضي في عيادة «نظام الرعاية الصحية لوزارة شؤون المحاربين القدماء» الأميركية في مدينة لونغ بيتش، وهو واحد من عشرات المراكز التي تستخدم العلاج بالتعرض بواسطة تقنية الواقع الافتراضي Virtual Reality Exposure Therapy.
وقال ميركيل، الذي بقيت لديه القليل من الأعراض ويتابع بقية الجلسات بشكل دوري «لقد كنت غاضباً، كنت متوتراً، جربت الكثير من الأشياء، لكن حين استخدمت الواقع الافتراضي كان شبيهاً بالتخلص من السم».
واستُخدم الأسلوب نفسه لعلاج مرضى «اضطراب ما بعد الصدمة» الناتج عن التعرض لاعتداءت جنسية أو حوادث السيارات، والناجين من هجمات 11 من سبتمبر عام 2001. ويقول باحثون إن هذه الطريقة أثبتت نجاحها أيضاً في علاج اضطرابات الطعام وإدمان المشروبات الكحولية وحالات الرهاب أو «فوبيا»، كالخوف المرضي من الطيران، أو التحدث أمام الآخرين.
وتعتمد الفكرة على الاستفادة من اندماج المرضى في بيئة افتراضية ثلاثية الأبعاد، تُحاكي تجربتهم السابقة في مكان آمن ومنظم، بما يساعدهم على مواجهة ما يثير قلقهم من أماكن وأشخاص على نحو أفضل.
وقال مدير الأبحاث الطبية للواقع الافتراضي في معهد التقنيات الإبداعية في جامعة «جنوبي كاليفورنيا»، الدكتور سكيب ريزو «حين نتحدث عن الحرب أو عن اعتداء جنسي أو شيء من هذا القبيل، فهذه تجارب ستُغير الشخص للأبد»، مشيراً إلى أن العلاج باستخدام تقنية الواقع الافتراضي لا يقدم تمثيلاً رقمياً للاغتصاب، وإنما يهدف إلى تقريب الشخص من مواجهة مشاعره الصعبة.
ويهدف العلاج بالتعرض باستخدام تقنية الواقع الافتراضي إلى نقل المريض إلى عالم افتراضي عبر سماعات الرأس واستديو ثلاثي الأبعاد، حيث يتفاعل مع بيئة تشبه ألعاب الفيديو مجهزة بإشارات بصرية وصوتية وحسية.
ومع الحديث عن فوائد تقنية الواقع الافتراضي للعلاج، يُحذر نقاد من أنه قد يكون مجهداً ومكثفاً للمرضى الذين لايزالون حساسين تجاه تجربتهم الصادمة. كما ينتقد آخرون احتمال تسبب التقنية في إصابة البعض بدوار الحركة أو «داء السفر»، ويشتكون من الرسوم «الغرافيكية» المستخدمة والأقرب إلى ألعاب الفيديو منها إلى تمثيل سيناريو واقعي.
وأقرت أستاذة الطب النفسي والسلوك البشري في جامعة «براون» الأميركية، ترايسي شيا، بضعف بعض الأشخاص تجاه مواجهة محاكاة للبيئة التي ستُعيدهم مجدداً إلى صدمتهم. وقالت «ربما تكون ميزة لبعض المرضى، لكنها أيضاً قد تفوق ما يُمكن احتماله».
وتبني التقنية الافتراضية بيئةً تلائم المريض استناداً إلى ذكرياته، وتتضمن أصواتاً خاصة وإشارات بصرية تعتمد على وصف المريض للأحداث بهدف إضافة تأثير واقعي. ومثلاً بالنسبة لمرضى الخوف الزائد من الطيران، قد تتضمن التجربة صوت محرك الطائرة. وربما يرى ضحايا الاعتداءات الجنسية مشهداً يصور اقتراب رجل من محطة حافلات خالية من المارة.
ووفقاً لباحثين، فكلما زاد تفاعل المرضى مع البيئة الافتراضية، تحسنت قدرتهم على التذكر حتى يألفوا المشهد، وتبدأ مراحل الشفاء حين تنجح هذه الألفة في نهاية المطاف في تثبيط العصبونات التي تترجم الشعور بالخوف في اللوزة الدماغية، وهي جزء في الدماغ مسؤول عن معالجة العواطف والشعور بالخوف.
ويرجع ابتكار العلاج بالتعرض بواسطة تقنية الواقع الافتراضي إلى بداية التسعينات من القرن العشرين، على يد فريق أشرفت عليه مديرة برنامج علاج الصدمة والقلق في كلية الطب في جامعة «إيموري» في ولاية أتلانتا الأميركية، الدكتورة باربرا روثبوم.
وبعد أول اختبار لفاعلية الأسلوب الجديد لعلاج الخوف من المرتفعات، أجرت روثبوم دراسة شملت 10 جنود أميركيين سابقين في فيتنام. وخاض كل مريض عدداً يراوح بين ثماني جلسات و16 جلسة. وفي نهاية الدراسة تبين تراجع أعراض اضطراب ما بعد الصدمة لدى جميع الجنود المشاركين بمعدل تفاوت بين 15% و67%.
وقالت الطبيبة النفسية ماريا شولت، التي أجرت دراسة بتمويل من وزارة الدفاع الأميركية واستخدمت الواقع الافتراضي لمعالجة الجنود السابقين في أفغانستان والعراق، إن الهدف من العلاج ليس إخافة المرضى أو إفقادهم صوابهم، معتبرة أن الأصوات تُشجعهم وتدفعهم قدماً بطريقة علاجية.
من جهتها، أشارت مديرة برنامج دراسات القلق والصدمة في «مركز وايل كورنيل الطبي» في نيويورك، جوان ديفدي، إلى حالات ملحوظة لشفاء المرضى بعد استخدامهم للعلاج بالتعرض بواسطة تقنية الواقع الافتراضي. وقالت إنها خلال إعادة البحث في فاعلية العلاج مع الناجين من أحداث 11 من سبتمبر، استخدمت التقنية مع امرأة واجهت اضطراباً وشعوراً باللامبالاة، ولم تستجب حالتها للعلاج التقليدي.
وأضافت ديفدي «نظرت إليّ وقالت: (يبدو هذا مثل الرسوم المتحركة)، لكنها حين وضعت الجهاز على رأسها، أجهشت بالبكاء، وبدأت في رواية قصتها بدرجة من العاطفة لم أرها على مدى ثمانية أسابيع من علاجها».
وقال الدكتور سكيب ريزو من جامعة «جنوبي كاليفورنيا»، إن عملهم يقتصر على العلاج بطريقة تستند إلى أدلة، وتقديمه بواسطة تقنية جديدة.