المرصد

«مهنتي – مزور صحافي»

ليس في العنوان أي خطأ مطبعي.

فبالفعل يفخر الأميركي كريستوفر بلير، الذي تجري معه كبريات الصحف الأميركية والبريطانية حوارات انفرادية بوصفه شخصاً مؤثراً في حياة الأميركيين وغيرهم، بأن مهنته التي يعيش عليها، واغتنى بسببها هي «فبركة الأخبار».

يملك كريستوفر بلير، فيما نعرف 25 بروفايلاً على «فيس بوك»، ويملك عشرات الأسماء والمهن الوهمية، من ادعائه بأنه غانية شقراء الى قيادي سابق في المخابرات الأميركية، وتطارد بلير عشرات الوكالات، ومنظمات تدقيق الاخبار المنتشرة الآن في أميركا مثل سنوبز وبزفيد، وفاكت شيكر، لكن هذا لا يهز بلير الذي يعرف جيداً كيف يحمي نفسه، ولا يعنيه من العالم الآن يستيقظ كل صباح فيروج الخبر الأكثر كذباً، وبالتالي الأكثر إثارة وجذباً للشير واللايك عن دونالد ترامب أو هيلاري كلينتون أو أهم شخصيات أو محاور اهتمام في العالم.

يفخر بلير الذي كان حتى سنوات على باب الله لا يملك عملاً ثابتاً، يتنقل من وظيفة عامل بناء الى عامل مطاعم الى متسكع في طابور البطالة، والذي كانت تعيش أسرته على طوابع الطعام، بأن لديه الآن 6 ملايين زائر على صفحة خط القاع الأخير عن أميركا، والتي لا تنشر ولا تذيع إلا كذباً، ومع ذلك لديها 6 ملايين زائر، ويديرها معه 100 أدمن مجهول، وهو يجني من وراء ذلك آلاف الدولارات دون عناء، سوى التنقل بين شاشات الكومبيوتر الثلاث الموجودة في غرفة معيشته، وهو لا يعاني في ما يفعله أي وخز ضمير أو إحساس بالتجني، حيث يقول في لهجة تحدي لمحرر «واشنطن بوست» لا يهم أن تكون عنصرياً، أو تنشر أخبار كراهية، أو عدوانياً، أو مزوراً، الناس ستعود إليك، ليس هناك نقطة نهاية يدرك عندها الناس أن ما يتعاطونه من أخبار مما أقدمه، هو محض هراء فيقررون العودة الى الحقيقة.

تمثل قصة بلير كارثة إضافية تتعرض لها حرية الاعلام في العالم، لا ترصدها حتى الآن رادارات المنظمات الحقوقية وتقاريرها، وهي ظاهرة الاغراق المتعمد للحقيقة، عبر بث سيول الاكاذيب، وهو بزنس، وإن كان لايزال ناشئاً، إلا أنه يتطور كل يوم، ويتحول من هواية الى صناعة احترافية، وتنتظر على أبوابه أجهزة ووكالات ودول تشتريه.

في قديم الزمن، أبهر جحا معجبيه حين قال للملك إنه سيعلم الحمار القراءة والكتابة خلال 20 عاماً، وكانت نظريته بسيطة، إما أنه سيموت هو، أو الحمار، أو الملك خلال تلك المدة، واثناء الحرب العالمية، وضع جوبلز قاعدة ذهبية للتضليل والكذب مفادها اختلق خبراً يقرؤه ألف، وحين يأتي تكذيبه سيقرؤه عشرة. وفي الحرب الباردة ارتكنت القاعدة الاميركية علي حيلة نشر الخبر في صحيفة محلية صغرى فتأتي لنشره صحيفة كبرى بعد غسيله، أما في زمن «فيس بوك»، فليس المطلوب من بلير ومن على شاكلته سوى صفحة وخيال وجمهور استبد به الجوع الخبري، فيستيقظ كل صباح يبحث عن وليمة.

صناعة بلير المحرمة ليست وقفاً عليه، ففي العالم الآن عشرات المواقع الاحترافية قد يكون المؤسس الحقيقي لها هو الهندي راهول روشان منذ 2008، كما ان هناك رائدا آخر لها في بلجيكا هو مارتن شيك، وهي للحقيقة صنعة مهدت لها ببراءة قبل ظهور «فيس بوك»، مجلات السخرية العالمية مثل مجلة أونيون الفكاهية الأميركية بهدف كسر الملل والرتابة وإثارة خيال القارئ.تبدو هذه القصة بلا نهاية قريبة، ويبدو أن قارئ اليوم عليه أن يدرب نفسه على اقتناص الحقيقة وسط سيل الأكاذيب، أو صناعة الحقيقة على يديه بين الروايات المتناقضة، كما يبدو أن كل محاولة للمواجهة يمكن ان تنقلب قيداً للاستبداد، وليس أدل على ذلك من اعلان مارك زوكربيرغ في ابريل 2018 عن إجراءات ولوغاريتمات جديدة لمواجهة صناعة الكذب.عالم اليوم، سيتطلب قارئاً ومشاهداً محترفاً لا هاوياً، انتهى زمن البطيخة والجورنال وقراءة الصحيفة للتسلية إلى غير رجعة.

تويتر