الاحتلال لم يكتفِ بتدمير القرية وإنما يعتزم مطالبة سكانها بدفع تكاليف عمليات الطرد والهدم. أ.ف.ب - أرشيفية

قرية العراقيب الفلسطينية تتمـسّك بالحياة

على الرغم من عزم سلطات الاحتلال الإسرائيلي على محو هويتهم، يبقى سكان قرية العراقيب متمسكين بأرضهم، في مواجهة المزاعم الإسرائيلية بأن القرية بُنيت بطريقة غير قانونية.

وتقع العراقيب في صحراء النقب على بعد كيلومترات من بئر السبع. وقامت سلطات الاحتلال بسبع حملات لتدمير القرية بالكامل ومحو كل أثر للفلسطينيين، وعملت الآليات على تجريف المنازل والحقول وسط حماية عسكرية مشددة. وكأن الاسرائيليين يريدون التأكد، من خلال تكرار عمليات التجريف، من أن الحياة لن تعود إلى المكان مستقبلاً. إلا أن أهالي القرية مصرون على البقاء، حيث يعود بعضهم بعد أن تنصرف الجرافات والدبابات ويشيدون مساكن مما تبقّى من الأنقاض. ويحكي السكان الذين تجمعوا مع شيخ القرية، أبوصياح التوري، قسوة الإسرائيليين والعنف المفرط الذي صاحب عمليات التدمير. ويعيش الأهالي حالياً في خيم بلاستيكية تحت أشعة الشمس اللافحة، وتبلغ درجة الحرارة صيفاً أكثر من 43 درجة مئوية.

من الصعب الوصول إلى قرية العراقيب حيث لا توجد على أي خريطة رسمية لصحراء النقب، ويتعين على من يقصدها الاستعانة بدليل. وتدخل العراقيب ضمن قائمة القرى «غير الشرعية» التي لا تعترف اسرائيل بوجودها، ويبلغ عددها 45 قرية يسكنها بدو الصحراء. ويوجد في مدخل القرية سياج تتخلله بوابة قديمة وأول ما يصادف الزائر مقبرة إسلامية تنتشر فيها قبور بيضاء. ولم تجرؤ القوات الإسرائيلية على الدخول إلى المقبرة لغاية الآن. وبعد أمتار تبدأ حقيقة العراقيب في التجلي، ولعل من زار قطاع غزة بعد الحملة العسكرية الإسرائيلية في شتاء ،2008 والتي أطلق عليها «الرصاص المصبوب»، يلاحظ التشابه بين المكانين، حيث قامت الآلة الحديدية الضخمة بهدم المنازل وتدمير الأعمدة الخرسانية، وكأن المكان قد تعرّض لقصف بالطائرات والمدفعية الثقيلة.

تجريف واعتقال

كانت العملية الأولى في يوليو الماضي، الأكثر إثارة، خصوصاً بالنسبة للأطفال، فقد حضر نحو 1500 جندي مدججين بالسلاح ترافقهم الجرافات العملاقة.

وفي ظرف ثلاث ساعات تم تدمير 30 منزلاً، وفي هذا السياق تقول مديرة ملتقى التعايش في النقب، هيا نواش: «لقد تم اقتلاع أكثر من 1000 شجرة زيتون». وفي يوم واحد فقد 300 فلسطيني مساكنهم وأغلب ممتلكاتهم، وتمكنوا من استرجاع بعض الأشياء التي لم تردم أثناء التجريف، مثل المولدات الكهربائية وغيرها. وقبل أيام من بداية شهر رمضان عاد الجنود مرة ثانية مصطحبين الجرافات، وفي الوقت الذي استمر فيه التجريف قام الجنود باعتقال المعتصمين في المكان، وتكرر السيناريو ثلاث مرات، كان آخرها أواسط أكتوبر الماضي.

يأتي هذا الإصرار على إزالة العراقيب من الوجود بعد تصريح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قبل يوم من بداية حملة التدمير، والذي اعتبر فيه ان ترك مناطق في الدولة العبرية لا تكون فيها الأغلبية لليهود، مشيراً إلى النقب، يشكل «تهديداً حقيقياً».

وكانت تل أبيب قد عبرت عن قلقها من وضع 180 ألف بدوي يعيشون في صحراء النقب. ويتكاثر عرب إسرائيل بنسبة تعتبر من النسب الأعلى عالمياً، بواقع 4.2٪ مقابل 2.6٪ لبقية الفلسطينيين. وبحسب هذه البيانات فإن عدد البدو سيصبح 300 ألف في غضون 10 سنوات. وبحسب نواش، فإن «المشكلة الحقيقية هي اعتقاد اسرائيل بأن الأرض يجب أن تكون لليهود وليس للعرب».

في المقابل، تقر تل أبيب بأنها أقامت سبع مدن، في الفترة ما بين 1968 و،1990 من أجل المساعدة في استقرار البدو الرحل، وتقول إسرائيل إنها تسعى الى مكافحة التخلف الاقتصادي الذي تعيشه هذه الشريحة من «المواطنين الإسرائيليين». وتشير الإحصاءات إلى أن 71٪ من البدو يعيشون تحت خط الفقر.

ترحيل قسري

«العراقيب»

العراقيب قرية فلسطينية تقع في شمال مدينة بئر السبع في صحراء النقب جنوب فلسطين، وتعد واحدة من 45 قرية عربية في النقب لا تعترف إسرائيل بها، ويعيش في القرية قرابة 700 شخص، تشكل الأغنام والمواشي مصدر رزقهم الوحيد، نتيجة لطبيعة الأرض الصحراوية التي تفتقر إلى جميع الخدمات المختلفة، كما يعيش الفلسطينيون في بيوت من الصفيح، وأخرى عبارة عن خيام.

ويعيش في النقب نحو 100 ألف فلسطيني. وظهرت قرية العراقيب إلى الوجود على أرض النقب مع بدايات القرن الماضي، عندما قامت عشيرة التوري بشراء مساحة من الارض في عام ،1907 وأقامت بها بشكل دائم واستقرت فيها منذ ذلك الحين.

ثم قام بعد ذلك شيخ العشيرة آنذاك بزيادة مساحة قريتهم في عام ،1926 عندما اشترى 1000 دونم أخرى.

وفي تسعينات القرن الماضي رجع أبناء عشيرة التوري الى القرية بعد ان ابعدتهم سلطات الاحتلال مثلما أبعدت أهالي عشرات القرى البدوية في النقب الى منطقة عرفت بـ«السياج» لاسباب امنية، بحسب الادعاء الاسرائيلي.

ولكن اسرائيل لم تعترف بقرية العراقيب الموجودة أصلاً قبل الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية.

وترتب على عدم اعتراف الاحتلال بعدد من القرى البدوية حرمانها من البنية التحتية الضرورية، مثل الكهرباء والماء والصحة.

يرى الشيخ أبوصياح التوري أن سياسة «تجميع البدو» في مدن لم تنجح. ويقول: «لقد عاشت عائلتي في العراقيب على مدى ثمانية أجيال، ولم تكن لدينا مشكلات مع الأتراك أو الانجليز الذين لم يتدخلوا في شؤوننا»، ويتساءل: «لماذا لا يفعل الإسرائيليون مثلهم؟ فبالنسبة إلي لن أرحل من هنا حتى لو أعطي لي 100 دونم مقابل دونم واحد من أرضي».

وقدم الأهالي الى السلطات الإسرائيلية، وثائق تثبت ملكيتهم منازلهم وأراضيهم، في العراقيب، تعود إلى فترة الحكم العثماني والاستعمار البريطاني، إلا أن تل أبيب رفضت الاعتراف بحقوقهم، وكان رد المحاكم الإسرائيلية على الخط نفسه. ومن أجل تشتيت جهود البدو وبث الفرقة بينهم، أبرمت السلطات اتفاقات منفردة مع العائلات والقبائل. وعرضت على السكان منازل في المدن، تتوافر فيها الخدمات العصرية، مثل الماء والكهرباء والهاتف، لكن دون حق ملكية للأرض.

لم يعد عرب إسرائيل يثقون بالسلطات، وبدأوا حملة دولية في مساعٍ لايصال معاناتهم إلى العالم، وإلقاء الضوء على الأخطار المحدقة بهم. ولقيت هذه الجهود دعماً من منظمات إسرائيلية غير حكومية، والحركة الإسلامية في إسرائيل، المقربة من حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، الأمر الذي يعرقل التواصل مع تل أبيب. ويقول التوري إن البدو سيظلون مواطنين من الدرجة الثانية، ويتوقع عودة الجرافات مرة أخرى، إلى العراقيب. ولم يجد التوري مكانا مناسبا ليكون «ديوان القرية»، وهو مقر يجتمع فيه رجال البدو، إلا مستودعاً بالقرب من المقبرة، التي لم تصلها الجرافات بعد. وعلق على ذلك قائلاً: «لقد أصبح الأحياء في حماية الموتى».

تهويد منظّم

بإمكان سكان العراقيب الذهاب للسكن في مدينة «راحات»، الواقعة شمالا، لكن بشرط التنازل عن أرض أجدادهم. وهناك في المدينة يجب أن يتعودوا على نمط الحياة الجديد الذي تنعدم فيه الخصوصية، ومستوى الجريمة المرتفع. وإلى الغرب من القرية قامت جمعيات يهودية بزرع أشجار سميت «غابة السفراء»، والتي يرعاها الصندوق القومي اليهودي. وينوي الصندوق زرع آلاف الأشجار في أراضي البدو، والهدف من وراء المشروع جلب ربع مليون يهودي إلى المنطقة.

وتزعم المنظمات اليهودية أن إضفاء الشرعية على القرى البدوية سيرجح الكفة لمصلحة العرب في النقب، إلا أن نواش ترد على ذلك بالقول إن «البدو لا يشغلون إلا 6٪ من المنطقة الصحراوية جنوب إسرائيل».

ولم يتوقف الإسرائيليون عند هدم المنازل وإتلاف الممتلكات، حيث تعتزم السلطات مطالبة سكان العراقيب بدفع تكاليف عمليات الطرد والهدم، والتي قدرتها بنحو 500 ألف دولار. وتصبح قرية العراقيب بالتالي رمزاً للتمييز في الدولة العبرية، وتطال هذه السياسة عشرات القرى في النقب ومنطقة الأغوار.

الأكثر مشاركة