لوانسك.. «جمهورية وهمية» تضـــم 17 وزارة وتخلو من أجهزة الصراف الآلي

الجسر المدمر الذي يمتد على نهر «دونتس» هو رمز لشرق أوكرانيا المنقسمة. ربما تكون الحرب قد انتهت، لكن السلام لم يبدأ بعد. لقد انهار الجزء الرئيس من الجسر، ليصبح صالحاً للسير على الأقدام بمساعدة درجين خشبيين. يصارع الآلاف من الناس، كل يوم، ويأتي المتقاعدون في المقام الأول. ويتم نقل المرضى والمعاقين، وكذلك عربات الأطفال، وأكياس مليئة بالخوخ والتفاح. إنه المعبر الوحيد عبر الحدود الذي يقسم العائلات، والصداقات، والشراكات التجارية.

شمال نهر «دونتس»، يرفرف العلم الوطني، الأزرق والأصفر، لأوكرانيا، ما يدل على أن الأراضي خاضعة لسيطرة كييف. جنوب النهر وعلى الجسر نفسه، يمكن رؤية الألوان الثلاثة الروسية، مع وجود شريط أزرق فاتح بدلاً من الأبيض. إنه علم «جمهورية لوانسك الشعبية» المعلنة ذاتياً، التي انفصلت عن أوكرانيا بمساعدة روسيا. إنها «كيان» غير معترف به ينتمي قانونًا إلى أوكرانيا، لكنه ملحق بحكم الأمر الواقع لروسيا، ويبلغ عدد سكانه 1.5 مليون نسمة. من النادر أن يُسمح للصحافيين الغربيين بالوصول إلى هناك. والمعايير المستخدمة من قبل وزارة الاتصالات في «الجمهورية الشعبية» لمنح التصاريح غير واضحة. لكن مثل هذه التصاريح موجودة، على ما يبدو.

تبدأ الرحلة عبر الجمهورية من «ستانتسيا لوانسكا» التي لعبت دوراً جديداً، كمدينة حدودية ومركز لإعادة الشحن والنقل. فيها الكثير من النشاطات والأكشاك، إضافة إلى بنك الادخار الذي يرتاده المتقاعدون. عند نقطة التفتيش على الجانب الأوكراني، يفحص مسؤولو الجمارك المسلحون كل حقيبة. يعمل الضباط الرسميون على أجهزة الكمبيوتر المحمولة التي تم التبرع بها والتي لم تظهر الأعلام الأميركية عليها.

مقاومة كبيرة

انسحبت أوكرانيا من هذا الشريط العريض في الصيف، كجزء من خطة للفصل بيت القوات، التي تم التفاوض عليها بين الجانبين. ويُعد الفصل بين القوات إحدى الخطوات المهمة القليلة جداً، إلى الأمام، منذ بروتوكول «مينسك» في فبراير 2015. وقد أكد هذا الاتفاق وقف إطلاق النار، وأضفى الطابع الرسمي على الخطوط الأمامية بين قوات الحكومة الأوكرانية والمتمردين الموالين لروسيا. لكن المناوشات استمرت رغم ذلك. في الواقع، فإن «ستانتسيا لوانسكا» هي المكان الوحيد على طول الجبهة، البالغ طولها 400 كيلومتر، والتي تفصل أوكرانيا عن الانفصاليين. إن التراجع عن أراضٍ ضحّى من أجلها الجنود بدمائهم يتطلب قدراً كبيراً من الشجاعة السياسية. وقد أظهر الرئيس الأوكراني المنتخب أخيراً، فولوديمير زيلينسكي، حماساً لإحلال السلام. إنها شجاعة لكن المقاومة كبيرة.

أي شيء يشبه التنازل لموسكو يكفي لإثارة الاحتجاجات في كييف. والوضع مشابه عندما يتعلق الأمر بـ«صيغة شتاينماير»، التي وافق عليها زيلينسكي. الصيغة حل دبلوماسي وسط حمل اسم فرانك فالتر شتاينماير، الذي كان وزيراً للخارجية الألمانية عندما تم إبرام بروتوكول مينسك، وأصبح الآن رئيس ألمانيا. وتحدد الصيغة متى وكيف ستسمح كييف للمناطق الانفصالية بوضع خاص داخل أراضي الدولة الأوكرانية. مثل هذا الوضع منصوص عليه في اتفاقية مينسك، لكن غير معتمد على نطاق واسع في كييف، وبالتالي فهذا يؤدي إلى الاحتجاجات.

نقطة التفتيش الانفصالية في الطرف الجنوبي من الجسر ليست أكثر من مقطورة. شاب يرتدي بدلة تدريب، يفحص جوازات السفر وهويات الصحافيين، يجب على الزوار ملء استمارة من «وزارة أمن الدولة»، وتشمل معلومات عن الزائر، بما فيها الانتماء الديني، والفندق الذي يقيم فيه، ولا يتم تفتيش الحقائب، ومن ثم تستمر الرحلة وسط مجموعة من التلال، لتنتهي إلى المدينة.

دفن مؤقت

لم تكن لوانسك مدينة جذابة على الإطلاق، فهي تقع في منطقة مناجم الفحم في دونباس، كانت دائماً الشقيقة الأصغر والأفقر لمدينة دونيتسك. لكن الآن تبدو المدينة فارغة أيضاً، تتميز محطة القطار بالهدوء مثل المتحف، ولا يوجد سوى خطي مواصلات، أحدهما باتجاه دونيتسك والآخر عبارة إلى الجبال الداخلية. ويتميز فندق «لوانسك» بموقع مركزي مع 19 طابقاً، وبه عدد قليل من الضيوف، ولا يوجد فيه مقهى، ولكن به ثقوب الرصاص في النوافذ.

عانت لوانسك بشدة خلال القتال. في صيف 2014، أطلق الجيش الأوكراني نيران المدفعية الثقيلة على المدينة. لم يكن هناك ماء لفترة، ودُفن بعض القتلى مؤقتاً في الساحات الأمامية للمنازل بسبب الحرارة، وتم نقل العديد من الضحايا في وقت لاحق إلى ضواحي المدينة، حيث يعرض نصب تذكاري صغير أسماءهم.

ويقع مقر حكومة الجمهورية الشعبية في مبنى الإدارة الإقليمي السابق. التقاط الصور ممنوع منعاً باتاً. حتى بطاقة اعتماد الصحافة، الموقعة من قبل وزير الاتصالات، لا تتيح الوصول إلى كبار المسؤولين.

لكن غليب بوبروف سعيد بالتحدث، رجل ضخم وله لحية وعينان صغيرتان. إنه رئيس اتحاد الكتاب، وهو المفكر الأبرز بين المتمردين المحليين. قبل أكثر من عقد من الزمان، أي قبل بداية الحرب بفترة طويلة، توقع بنبرة قاسية أن الحرب الأهلية ستدار رحاها شرق أوكرانيا. ويقول بوبروف بفخر: «لقد توقعت بشكل صحيح نحو 70% مما حدث، وصولاً إلى موقع الخطوط الأمامية ومفاوضات مينسك».

خطة فاشلة

مثل معظم الانفصاليين، لم يكن بوبروف يريد دولة صغيرة مستقلة في لوانسك، ولهذا السبب يرفض بشدة مصطلح «انفصالي». يقول إنه يريد «العودة إلى روسيا»، وهذه هي «الفكرة الوطنية وراء الجمهورية الشعبية»، ويضيف أنه لسوء الحظ، لم تنجح الخطة كما كانت الحال في شبه جزيرة القرم.

بالنسبة لبوبروف، فإن الدولة الأوكرانية هي بقايا لا معنى لها بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، مدعومة بنخبة فاسدة، وأيديولوجية قومية اشتراكية وقمع وحشي.

بعد مناقشتنا، يدعونا بوبروف إلى المسرح الروسي في المدينة لحضور العرض الأول. للمرة الأولى، يتم عرض عمل عن الحرب، وهي قراءة مثيرة لشعر الحرب. واتضح أنها خالية من الأيديولوجيات بشكل مدهش، وخالية من الانتفاضات المعتادة التي تعتبر جميع القوات الحكومية من الفاشيين.

أليكسي كارياكين، المولود عام 1980، هو أحد آباء «جمهورية لوانسك الشعبية»، وكان أول رئيس لبرلمانها، رغم عدم وجود أحزاب سياسية في البرلمان، إذ تم حظرها جميعاً. لا يوجد سوى «حركات»، واحدة منها تسمى «الحرية للوانسك» وأخرى أطلق عليها «الاتحاد الاقتصادي».

هدوء الموقف

تتم إدارة الجمهورية الشعبية بأساليب المافيا. ويبدو أن أحد «رؤساء الوزراء» في لوانسك تعرض للتعذيب حتى الموت في السجن، بينما توفي العديد من القادة العسكريين في هجمات متعمدة. واضطر كارياكين، أيضاً، إلى الفرار من المدينة لبعض الوقت.

هدأ الموقف بشكل كبير منذ انقلاب عام 2017، بالإضافة إلى ذلك فإن ما يحدث في لوانسك يتم تحديده في النهاية من قِبل القيمين في الكرملين على أي حال. كارياكين هو الآن رئيس «الغرفة العامة لجمهورية لوانسك الشعبية»، وهو منصب فخري إلى حد كبير. صورة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين معلقة على الحائط فوق مكتبه.

حلم الانتماء إلى روسيا

يدعو بروتوكول مينسك، الذي يلتزم به الانفصاليون، إلى إعادة دمج أراضيهم في أوكرانيا، مع بعض الامتيازات الخاصة. ألا يمثل ذلك نهاية حلمهم بالانتماء إلى روسيا؟ «لا»، يقول أليكسي كارياكين. سيكون لديهم بعد ذلك وضع خاص داخل أوكرانيا، تماماً مثل القرم قبل عام 2014. وبعد ذلك، يمكن للناس أن يقرروا ما يريدون في الاستفتاء. وليس لدى كارياكين شك في أن شعب لوانسك سيقرر لمصلحة روسيا.

هذا بالضبط تفسير بروتوكول مينسك الذي يخشاه المسؤولون في كييف: وضع خاص كنقطة انطلاق للانفصال النهائي، لا عجب أن كييف تشعر بالقلق إزاء تطبيق اتفاق مينسك.

وهكذا، لاتزال المواجهة مستمرة، تريد الحكومة في كييف استعادة السيطرة على الأراضي المفقودة، وهذا يعني أولاً وقبل كل شيء السيطرة على الحدود مع روسيا. في هذه الأثناء لا تريد موسكو التخلي عن سيطرتها، وتصرّ على اتباع النهج المعاكس. يجب إنشاء وضع خاص للمنطقة، بما في ذلك قوات الأمن الخاصة بها. عندها فقط تمكن إعادة السيطرة على الحدود إلى أوكرانيا.

من الصعب معرفة ما يفكر به سكان لوانسك، هم حذرون وغير واثقين، لايزال هناك أولئك الذين يرغبون في أن يكونوا جزءاً من أوكرانيا، أو على الأقل يجدون ذلك أفضل من أن يكونوا مواطنين في جمهورية وهمية بها 17 وزارة، ولكن لا توجد أجهزة صراف آلي. مكان لا توجد فيه انتخابات حرة، ولا فرص عمل، ولا مستقبل واضح، ومع لك يتجنبون التحدث بصوت عالٍ.

الأصغر سناً يغادرون لوانسك، بعضهم إلى روسيا والبعض الآخر إلى أوكرانيا. ويقول زوجان متزوجان لم يشاركا الحماس المؤيد لروسيا الذي شعر به الكثيرون في ذلك الوقت: «في عام 2014، اختلف العديد من الأصدقاء، لقد تلاشت النشوة منذ ذلك الحين، الأمر الذي يجعل الأمور أسهل بالنسبة لنا، ولكن الآن الجميع يتجنب الخوض في السياسة تماماً، في الأساس نحن ننتظر، لكننا لا نعرف ماذا ننتظر».

يقولان إنهما كانا سيغادران، منذ فترة طويلة، لو تمكنا من بيع شقتهما في لوانسك. في الوقت نفسه يؤلمهما أن يراهما الكثيرون في أوكرانيا خائنَين لمجرد بقائهما.

 

الانضمام إلى روسيا الاتحادية حلم يراود العديد من الانفصاليين. أرشيفية

• تريد الحكومة في كييف استعادة السيطرة على الأراضي المفقودة، وهذا يعني أولاً وقبل كل شيء السيطرة على الحدود مع روسيا.

مزايا قليلة

الدولة الأوكرانية، أيضاً، لا تسهّل الأمور بالنسبة لأولئك الذين لا يعيشون خارج سيطرتها. فمن أجل الحصول على معاشاتهم التقاعدية، يتعين على المتقاعدين في لوانسك إظهار عنوان دائم في الأراضي التي تسيطر عليها الحكومة، ثم التسجيل هناك كمشردين داخلياً. كان المقصود في الأصل من هذا الإجراء أن يكون نوعاً من العقوبات الاقتصادية ضد الانفصاليين. لكنه يجبر المتقاعدين في لوانسك على شق طريقهم عبر الجسر المدمر، مرة كل ثمانية أسابيع، أو نحو ذلك، للتحقق شخصياً من وضعهم كمشردين، وإثبات أنهم مازالوا على قيد الحياة.

بما يعادل نحو 110 يورو في الشهر، فإن المعاشات التقاعدية في أوكرانيا منخفضة، لكنها لاتزال أعلى بكثير من الدعم المالي (40 يورو) الذي يتلقاه المتقاعدون في «الجمهورية الشعبية». كثير من الناس يحصلون على كلا المعاشين، وهي واحدة من المزايا القليلة التي يتمتعون بها مقارنة بالمتقاعدين في الأراضي التي تسيطر عليها الحكومة، بالإضافة إلى أسعار الغاز المدعومة.

في ما يتعلق بالحكومة الأوكرانية، فإن مؤسسات «الجمهورية الشعبية» لا وجود لها، ما يعني أنه لا يوجد اتصال معهم على الإطلاق. القناة الوحيدة التي من خلالها يتواصل ممثلون عن الانفصاليين وكييف، هي فريق الاتصال الثلاثي، وهو منتدى أنشئ لتنفيذ بروتوكول مينسك. يشير المصطلح ثلاثي الأطراف إلى الأعضاء الثلاثة للمجموعة: أوكرانيا، وروسيا، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا.

 

 كييف أسهمت في تفاقم الأوضاع الصعبة في لوانسك. أرشيفية

الأكثر مشاركة