روسيا طوّرت غازات سامة بسرّية مطلقة

عامل الأعصاب «نوفيتشوك» يُعيد العالم إلى الحرب الباردة

صورة

أثار طرد عشرات الدبلوماسيين الروس من الولايات المتحدة ودول عبر أوروبا وخارجها، مسألة ما إذا كان العالم يتراجع إلى ما كان عليه خلال الحرب الباردة. الجواب المثير للقلق من البعض في روسيا هو: لا، لكن الوضع في بعض الأحيان لا يمكن توقّعه بشكل أو بآخر.

وعلى الرغم من كل التوترات والصراعات بالوكالة، ومخاطر اندلاع حرب نووية، والتي ميزت العلاقات بين موسكو والغرب لعقود، كان كل طرف يعرف، لاسيّما في نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، ما يمكن توقّعه. كان لدى كل منهم قدر من الثقة بأن الآخر سيعمل بطريقة معقولة يمكن توقّعها.

ويقول الخبير في الشؤون الروسية، إيفان كوريلا، إن الوضع المتقلب لعلاقات روسيا مع العالم الخارجي، اليوم، والذي تفاقم بسبب الهجوم بعامل الأعصاب، على جاسوس سابق يعيش في بريطانيا، «يجعل المناخ الدبلوماسي للحرب الباردة قائماً»، ويذكّر الخبير بفترة من عدم الثقة تلت الثورة البلشفية عام 1917.

ويوضح كوريلا، وهو مؤرخ في الجامعة الأوروبية في سانت بطرسبرغ: «إذا كنا نبحث عن أوجه تشابه مع ما يحدث الآن، فليست الحرب الباردة هي التي يمكن أن تفسر الأحداث، ولكن أول نظام ثوري في روسيا، الذي اغتال المعارضين في الخارج بانتظام»، وقال إن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ليس لديه مصلحة في نشر أيديولوجية جديدة وإثارة ثورة عالمية، على عكس البلاشفة في الماضي «لكن روسيا تحت قيادة بوتين أصبحت نظاماً ثورياً في العلاقات الدولية».

معاهدة مهمة

معضلة التعامل مع روسيا

يرى الخبير في الشؤون الروسية، إيفان كوريلا، أنه في مواجهة تصرفات موسكو المدمرة في عشرينات القرن الماضي، لم تكن بريطانيا ودول أوروبية أخرى «تعرف كيف ترد، واستغرق الأمر 10 سنوات أو أكثر لمعرفة كيفية التعامل مع الاتحاد السوفييتي». وفي حالة بريطانيا، القوة العظمى في ذلك الوقت، وأول دولة غربية تعترف بالاتحاد السوفييتي، كان الوضع حينها صدى للحاضر. وقد اعترفت بالحكومة البلشفية الجديدة عام 1924، ثم طردت الدبلوماسيين السوفييت وأغلقت سفارتها، بعد ثلاث سنوات على اكتشاف الشرطة ما قالت إنها مجموعة تجسّس سوفييتية عازمة على نشر الفوضى في المملكة المتحدة.


• 40 ألف طن متري من الأسلحة الكيماوية، يُفترض أن تكون روسيا قد دمّرتها بحلول سبتمبر 2017.

من وجهة نظر الكرملين، فإن الولايات المتحدة هي التي غيّرت المعايير السابقة، عندما انسحبت، تحت رئاسة جورج بوش الابن، من اتفاقية القذائف المضادة للصواريخ، في عام 2002، وهي معاهدة مهمة في حقبة الحرب الباردة. ويعتقد كوريلا أن موسكو لا تحب قواعد النظام الذي يهيمن عليه الأميركيون، والذي ساد منذ ذلك الحين «وتريد تغييرها». ومع ذلك، هناك قاعدة واحدة تتبناها روسيا باستمرار، وهي مبدأ المعاملة بالمثل، وقد أوضح الكرملين، الأسبوع الماضي، بعد تقييم حجم الأضرار التي لحقت بسلاحه الدبلوماسي في الخارج، أنه سيرد بترحيل الدبلوماسيين الغربيين من روسيا.

وقرر البرلمان الروسي أيضاً، وفقاً لما قاله نائب رئيس لجنة الشؤون الخارجية، ألكسي تشبا، أن بلاده لن ترضخ للحرب الدبلوماسية الغربية. وقال إن روسيا «لن تسمح لنفسها بأن تكون الخاسر، وكلما حاولوا استفزازنا، سيكون ردنا أكثر صرامة».

عندما طردت بريطانيا 23 دبلوماسياً روسياً هذا الشهر رداً على هجوم ساليسبري، لم تطرد موسكو عدداً متساوياً من الدبلوماسيين البريطانيين فقط، بل أمرت بإغلاق المجلس الثقافي البريطاني، وهو منظمة تروج للثقافة واللغة البريطانية. وفي الوقت الذي نفت فيه السلطات الروسية أي دور في تسمّم الجاسوس السابق سكريبال، وابنته يوليا، في الرابع من مارس، فهما لايزالان يعانيان أمراضاً خطرة في المستشفى. ويذكر أن روسيا خرقت العديد من الأعراف الدولية، لاسيما مع ضم شبه جزيرة القرم، وهي المرة الأولى منذ عام 1945، التي تتم فيها إعادة رسم الحدود الأوروبية بالقوة.

الهجوم على الجاسوس السابق، كان «أول استخدام لغاز الأعصاب في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية»، وفقاً لرئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي.

سلوك محيّر

يشعر زميل المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، كادري لييك، بالحيرة من الهجوم بغاز الأعصاب، ويقول إنه كان يتوقع من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي فاز بفترة رابعة في 18 مارس، أن يتراجع عن التشويش والاضطراب خلال السنوات الست الأخيرة، له في السلطة. ويقول الخبير إن زعيم الكرملين، ربما لا يمكن توقع تصرفاته، لكنه يتبع عادة ما يعتبره منطقاً واضحاً إلى حد ما، «إنه لا يخلط الأوراق من أجل المتعة فحسب، بل لأنه بوتين، ويمكنه فعل ذلك».

في كل مرة تتهم روسيا بأن لها يداً في أفعال مثل الاستيلاء على مباني الحكومة الأوكرانية في شبه جزيرة القرم، أو إسقاط طائرة ركاب ماليزية فوق شرق أوكرانيا عام 2014، حيث قتل ما يقرب من 300 شخص، ردت موسكو بمزيج من الشفقة على الذات والإنكار الشرس، ونظريات المؤامرة التي تضع اللوم في مكان آخر. وفي حالة التسمّم في بريطانيا، أصبح إنكار روسيا غير واقعي لدرجة أن وسائل الإعلام التي تديرها الدولة، واجهت صعوبة في مواكبة الأحداث.

وبعد أن نفى المسؤولون أي دور روسي، وأصروا على عدم تطوير «نوفيتشوك» (عامل الأعصاب الذي حددته بريطانيا باعتباره المادة المستخدمة ضد عائلة سكريبال)، نشرت وكالة أنباء حكومية مقابلة مع عالم روسي، قال إنه ساعد في تطوير نظام أسلحة كيماوي يدعى «نوفيتشوك-5»؛ ثم سارعت الوكالة وعدّلت الخبر لاحقاً لتنفي ما جاء في المقابلة.

قواعد متغيرة

وعلى النقيض من القادة السوفييت خلال الحرب الباردة، لا يتبع بوتين أي أيديولوجية أو قواعد ثابتة، لكنه مستعد لمتابعة أي «سياسات مفترسة»، مهما كانت محظورة، والتي قد تساعد في «تقويض النظام القائم في أوروبا»، مع الإصرار على أن روسيا هي الضحية، وليس المعتدي.

يقول الدبلوماسي البريطاني السابق، إيان بوند، إن إنكار روسيا غير القابل للتصديق، في كثير من الأحيان، جعلها «مثل الراعي الذي يحذر من الذئب»، مشيراً إلى فقدان الثقة. ويتابع: «إذا تواصل طرح نظريات المؤامرة المجنونة، فسيسأل الناس في نهاية المطاف عما إذا كان ما يقال هو مجرد إنكار روسي آخر مجنون».

تميل الدبلوماسية أثناء الحرب الباردة، حتى عندما تنطوي على أعمال عدائية، إلى اتباع نظام روتين هادئ نسبياً، وفقاً لبوند، الذي يرى أن الأمر لم يعد كذلك، مشيراً إلى أن السفارة الروسية في لندن، ووزارة الخارجية في موسكو، أصدرتا بيانات وتغريدات تسخر من بريطانيا باعتبارها قوة سابقة تتصف بالعجز، ومثيرة للسخرية بسبب طريقة تعاملها مع قضية تسمّم سكريبال». وفي حين أن روسيا قد تكون فوجئت بحجم عمليات طرد الدبلوماسيين المنسقة من قبل حلفاء بريطانيا، إلا أنها كانت تتوقع شيئاً واضحاً، وقبل ساعات من الإعلان، بادرت إلى الهجوم.

تويتر