83 ٪ من الشعب متخوّفون من مستقبل بلادهم
أزمات عدم الثقة تسقط الحلم الأمــيركي
69٪ من الأميركيين يعتقدون أن بلادهم «تتراجع» مع ازدياد الغبن الاجتماعي ووجود 14 مليون عاطل عن العمل. غيتي
بعد 20 عاما من انتهاء الحرب الباردة أصبحت تلك الدولة التي حققت كل الأيديولوجيات الضخمة والمعارك الحربية في القرن العشرين، خائفة من أن تفقد في القرن الـ21 كل ما كسبته من قبل.
وبالمقارنة مع العالم المتقدم ومقارنة مع نفسها قبل 30 عاما أصبحت أميركا متدنية في المجال التعليمي وارتفعت فيها معدلات البطالة وامتد نفوذها الى اقصى درجة ممكنة، إلى الحد الذي صارت تفقد معه السيطرة، وتفشى فيها انعدام المساواة في الدخل، وأصبحت عاجزة عن معالجة جميع مشكلاتها، ومن قبل قال الرئيس الأميركي السابق، بيل كلينتون «نحن في خضم نوع من الفوضى»، فما تلك الفوضى؟
يعتقد المؤرخ روبرت داليك أن بلاده تغوص في أزمات من عدم الثقة، مقارنة بتلك التي تمخضت من قبل جراء «الكساد العظيم»، و«الحرب الاهلية».
صورة
أصبحت أميركا لا تشعر بالسعادة، ففي طائرة تستعد للإقلاع الاسبوع الماضي في نورث كارولاينا انفجرت طفلة بالبكاء فجأة، فعلق احد الركاب قائلا «إنها تبكي من اجلنا جميعا». ويعتقد الاميركيون ان الضحك انعدم هذا العام، ولا يوجد سوى الوجوه العابسة.
يقول رجل الاعمال ستيف كوريلو البالغ من العمر 57 عاما، والذي كان جالسا على كرسي متحرك في احد احتجاجات «احتلوا واشنطن»، إنني «أمتلك شركة كمبيوتر خاصة بي، وسافرت حول العالم ولاأزال أؤمن بالولايات المتحدة». ويضيف «لكنني سئمت العيش هنا، إذ لم اعد اطيق التلفزيون الأميركي ولا حتى جلسات مقاهي ستاربكس، فهناك دول اقل خطورة يزدهر فيها الدولار، أود الذهاب الى السلفادور».
تشاؤم
وفقا لنتائج آخر استطلاع للرأي، يعتقد ثلاثة أرباع الشعب الاميركي أن بلادهم «على الطريق الخطأ»، فعلى المستوى الدولي تراجعت أميركا من المركز الاول الى الـ16 في جيل من الزمان في ما يتعلق بنوعية التعليم الجامعي، وانحدرت من المركز الـ15 الى الـ،30 في ما يتعلق بنتائج تعلم الطلبة ملكات القراءة واستيعاب دروس الرياضيات. وفي ما يتعلق بالتعبئة الشعبية فإنها تأتي في مرتبة اقل من معظم دول اوروبا. وبين الفترة من 1999 الى 2009 تدهور اجمالي الناتج المحلي ليبلغ 3٪ فقط واحتلت المرتبة الخامسة عالميا في هذا الشأن، وبالمقارنة ارتفع إجمالي الناتج المحلي الصيني خلال الفترة نفسها من 7 الى 13٪، وعلى هذه الوتيرة والمعدل نفسه فإن الصين من المتوقع ان تتجاوز الولايات المتحدة خلال خمسة أعوام من الان.
أيضا وفقا لآخر استطلاع نظمته صحيفة «هيل» الاميركية يعتقد 69٪ من الشعب الأميركي ان الولايات المتحدة «تتراجع»، إضافة الى 83٪ ممن شملهم الاستطلاع، يشيرون الى انهم متخوفون من مستقبل أميركا.
هل انتهت أميركا
ظهرت عناوين كبيرة في مجلة «فورين أفيرز» تتساءل عن صحة هذا الزعم، إذ يقول الكاتب، جورج باركر «تفشى انعدام المساواة الاقتصادية والغبن الاجتماعي في كل ركن من اركان أميركا مثله مثل الغاز عديم الرائحة، ممتصا قوة ديمقراطية البلاد»، ويتابع انه خلال العقود الثلاثة الماضية صارت واشنطن تتعاطف مع الاغنياء باستمرار، وتراكمت الثروة في ايدي أقلية تجلس في القمة وتملك النفوذ، وهذا النفوذ المتزايد والتعاطف اللذان يلقاهما الاغنياء جعل من السهل عليهم وعلى حلفائهم السياسيين إزالة جميع العقبات من دون ان يدفعوا أي ثمن اجتماعي.
احد المواطنين الاميركيين عبر عن هذا الوضع بقوله «أصبحنا كالحيوان الجريح»، فمن الصعب مسح هذه الصورة من الاذهان، إذ إن هذه القوة العظمى استغرقت 10 اعوام لكي تعثر على زعيم تنظيم «القاعدة» السابق، أسامة بن لادن، على الرغم من انها تنفق على جيشها اكثر من أي دولة اخرى في العالم، مات بن لادن إلا ان الحرب ضد حركة «طالبان» لاتزال تراوح مكانها، تحدث قادة البلاد أمام أكثر من 40 الف جريح في حرب افغانستان والعراق بأن تضحياتهم حفظت للبلاد أمنها، بيد ان هؤلاء الـ40 ألفا يجاهدون مع 14 مليون اخرين للحصول على عمل.
أميركا، على غرار صيغة المفكر والمؤرخ الاميركي، ريتشارد هوفستادتر، هي البلد الوحيد في العالم الذي يعتقد أنه ولد مكتملا لكنه لايزال يجاهد في ادخال التحسينات إلى جسده.
ويتطلع ناشطو «احتلوا وول ستريت» و«فريدوم بلازا» إلى اصلاحات بالجملة للطريقة التي تؤدي بها اميركا اعمالها الاقتصادية، لن يحصلوا على ذلك ولا ينبغي عليهم السعي نحو ذلك، لأن «وول ستريت» تحتاج الى قوانين ولوائح جديدة يتم فرضها بشكل سليم.
ويتساءل ستيف كوريلو بشيء من الجزع، قائلا «نحن الشعب تجاهلتنا الصفوة الانانية، التي تعيث في البلاد فسادا».
العهد المنكوث
في الوقت الراهن سيظل انعدام المساواة الاجتماعية في أميركا يؤثر في الحلم الاميركي بتوفير فرص للجميع، وسيعمل على خلق اقتصاد غير متوازن يضاعف من ثروة الاثرياء ويجعلهم يستخدمونها في المضاربات، وسيترك الطبقة الوسطى من دون اموال كافية لشراء المتطلبات التي يعتقدون ان من حقهم شراءها.
ومن شأن انعدام المساواة أيضا أن يفرق بين أبناء الشعب الأميركي في المدارس والجيرة والعمل وحتى داخل الطائرات والمستشفيات، وفي ما يأكلونه وما يفكرون فيه وفي مستقبل أبنائهم.
يقول باركر «إن الغبن الاجتماعي هو عبارة عن ردة عن مفهوم الحلم الأميركي، ويجعل من الصعب علينا ان نتخيل حياة الاخرين، وهو ما يحدث من تجاهل العواصم السياسية والاعلامية الأميركية مصير 14 مليون عاطل عن العمل»، ويضيف أن عدم المساواة «يعمل على تأكل الثقة بين ابناء الشعب الاميركي».
طيبة مفقودة
يقول باركر، قبل اعوام قليلة كنت أتناول الغداء مع صحافي آخر في المنطقة الخضراء في العاصمة العراقية بغداد، وعلى الطاولة المجاورة جلس اثنان من المقاولين الأميركيين يتناولان وجبتيهما من البيرغر والبطاطا المقلية، كانوا يرتدون زي المقاولين وعلى عنقيهما تتدلى شارات وزارة الدفاع الأميركية، الرجل الذي كان يخدمهما على الطاولة، ربما يكون العراقي الوحيد الذي تحدثا معه ذلك اليوم، إذ ان المنطقة الخضراء تم إنشاؤها لتجعلك تشعر بأن العراق بلد يموج بالهذيان وأنك تجلس مطمئنا في منطقة نورمال بولاية الينوي الاميركية.
هذا التأثير «الأفيوني» أصبح يتفشى في ضمير كل أميركي عمل خلف جدران المنطقة الخضراء، بما فيهم الجنود والمدنيون والدبلوماسيون والصحافيون والاشخاص المهمون والمغمورون، ولا يمكث الشخص هناك اكثر من عام وجميعهم رجعوا الى البلاد بروايات مبالغ فيها عن الحرب هناك، متناسين انهم تركوا مشروعات غير مكتملة وبلداً يغوص في فوضى الحرب الاهلية. وبعد ان اكمل المقاولان طعامهما وخرجا من ذلك المطعم، نظر الى بطاطتي المقلية وقال لي «لم نعد أولئك الاشخاص الطيبون».
حرب العراق هي عبارة عن اختبار ضغط للجسد السياسي الأميركي وفشل في ذلك الاختبار كل عضو ونظام اساسي أميركي: النظام التنفيذي والتشريعي، والعسكري والاستخباراتي والاعلامي، وبدأنا نشعر بأننا لسنا في حالة جيدة.
لم تختبر أميركا مثل هذه الحالة الصعبة قبل اكثر من نصف قرن، ومن السهل ومن المبرر ايضا ان نلوم أفراداً بعينهم عن مأساة العراق، ولكن مع مرور السنوات اصبحت احس بأن الفشل تجاوز الافراد وتجاوز العراق وأن الحالة سببها تصلب شرايين المؤسسات الأميركية، العراق لم يكن حالة استثنائية وإنما كان احد الاعراض بعيدة المدى والذي يتدهور عاما بعد عام.
انهيار منظومة القيم
|
كلينتون: الشعب ينظر بعداوة إلى الحكومة. غيتي. |
سجل معدل الفقر الرسمي في أميركا العام الماضي 15.1٪، وهو ما يعادل 46.2 مليون أميركي يعيشون في الفقر، في الوقت الذي ارتفعت فيه مستويات الفقر خلال السنوات الثلاث السابقة، وسجل متوسط الدخل الأميركي تراجعا عن مستويات ،1996 كما سجلت مستويات انعدام المساواة في الدخل ارتفاعا ملحوظا، وأصبح الكثير من الأميركيين يتساءلون ما إذا كان الحلم الأميركي يحتضر.
يعتقد الرئيس الأميركي السابق، بيل كلينتون، أن الحلم الأميركي يتعرض للهجوم منذ 30 عاما، ويرى كلينتون أن الشعب الأميركي أصبح ينظر الى الحكومة كأنها عدو، فبدلا من «التفكير في كيفية التعاون بين الحكومة والقطاع الخاص، فإن البعض يقول ان الحكومة هي سبب كل المشكلات، وإذا لم نتخلص منها فإن أي لوائح أو نظام ضريبي أو أي برنامج لا يعمل بشكل فعال».
يقول المعلق السياسي وكاتب العمود، بيل أو رايلي، إن أميركا تأسست على الاعتماد الذاتي لمواطنيها والانجازات الشخصية، وخلال السنوات الاولى للجمهورية نأت الحكومات الفيدرالية والمركزية عن الاشخاص الذين يريدون انشاء اعمال خاصة بهم، لهذا لم يكن لهؤلاء الاشخاص أي شبكة من الضمان العام تغطيهم عند الفشل او التعثر، «فإذا سقطت تسقط وحدك»، لهذا السبب اصبح المواطنون الاميركيون اقوياء، وعلى هذا الاساس تأسست اعظم وأقوى دولة في العالم، ليس عن طريق البيروقراطية ولكن بواسطة دماء العمل الدؤوب، ثم بدأ انهيار هذا التقليد في ستينات القرن الماضي عندما نشبت حرب فيتنام، فللمرة الاولى اصبح الاميركيون يشاهدون مناظر الحرب المرعبة في غرف معيشتهم، ولم يجد الشعب تبريرا لتلك الحرب خصوصا جيل الشباب، وصاروا يتساءلون «ماذا تفعل بلادهم في جنوب شرق اسيا؟»، و«لماذا يساق الشباب إلى حرب لا يفهم جدواها سوى القليلين»، لهذا السبب فشل الرئيس الاميركي السابق، ليندون جونسون.
ومن هنا دخلت المخدرات، الحب الحر، والتشكك في السلطة، لم تعد الولايات المتحدة تلك الدولة النبيلة في عيون الكثيرين من شعبها والذين صاروا ينظرون اليها كدولة اضطهادية، أصبحت أميركا دولة منقسمة، وتآكلت التقاليد بسرعة، وانعدمت لوائح السلوك التي يسيرون على هداها.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية والرياضية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news
