مآلات الأزمة خطرة مع تحطم آمال الانتقال السلمي إلى الديمقراطية

الاقتتال العسكري يهدّد استقرار السودان بشكل غير مسبوق

صورة

طبقاً للمثل الإفريقي الشائع: «عندما تتصارع الأفيال، يُداس العشب تحت أقدامها». فإن الخاسر الأكبر في حرب الأطراف الفاعلة الكبرى التي تمتلك السلاح هو الشعب الذي يُصاب بالأذى. وينطبق ذلك تماماً على الحالة السودانية بعد أن تحطمت آمال الانتقال السلمي إلى الديمقراطية في وقت مبكر من يوم السبت 15 أبريل 2023، عندما تم الاحتكام إلى لغة السلاح للسيطرة على زمام الأمور في الخرطوم.

انخرطت قوات الدعم السريع بقيادة الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي)، والقوات المسلحة السودانية بقيادة الفريق عبدالفتاح البرهان، في اشتباكات عنيفة، ما أدى إلى مقتل وإصابة العديد من الأشخاص. واندلع العنف بسبب خلاف بشأن دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة السودانية، والذي كان جزءاً من اتفاق لتقاسم السلطة مع القادة المدنيين الذين قادوا الاحتجاجات ضد الرئيس السابق عمر البشير في عام 2019. وكان اتفاق تقاسم السلطة هذا قيد التنفيذ لمدة عامين قبل أن يقوم كل من البرهان وحميدتي بانقلاب عسكري في أكتوبر 2021. ومنذ ذلك الحين، اندلعت الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد، حيث قُتل أكثر من 100 شخص.

وفي غمرة تصاعد الأحداث أعلن قائد الجيش السوداني حل ميليشيات الدعم السريع وتبادل الجانبان الاتهامات من خلال حرب إعلامية حامية الوطيس. ومع ذلك فمن الواضح أن الجيش السوداني يفرض قبضته على النقاط الاستراتيجية في الخرطوم، لما لها من دلالة رمزية وسياسية غير خافية.

جذور الصراع الحالي

منذ استقلال السودان في عام 1956، أدى الجيش السوداني دوراً مهماً في المشهد السياسي، حيث وصل عمر البشير إلى السلطة من خلال انقلاب عسكري، وحكمه بشكل استبدادي لمدة 30 عاماً قبل أن تتم الإطاحة به في عام 2019 من خلال انقلاب عسكري آخر. بعد عزل البشير، دعا القادة المدنيون والقادة المؤيدون للديمقراطية إلى إصلاحات جذرية لقطاع الأمن، لكن هذه الجهود أفضت إلى صراعات مكتومة ومعلنة بين أطياف المكون العسكري.

وعليه فإن أحد الأسباب المركزية للتوتر العنيف بين عناصر هذا المكون العسكري منذ الانتفاضة هو المطلب المدني للسيطرة على الجيش ورؤية اندماج قوات الدعم السريع القوية في الجيش النظامي. كما دعا المدنيون إلى تسليم الأصول والشركات العسكرية المربحة في الزراعة والتجارة وغيرها من الصناعات، وهي مصدر أساسي للسلطة والثروة بالنسبة للجيش وقوات الدعم السريع على السواء.

حميدتي والطرح البديل

بدأت الخلافات بين كل من البرهان وحميدتي تظهر إلى العلن منذ أسابيع عدة خلت، وذلك من خلال تحشيد قوات الدعم السريع في الخرطوم، وقيام حميدتي بزيارات خارجية واستقبال مبعوثين دوليين بمعزل عن البرهان. ولعل ذلك يوضح طبيعة وإشكالية المشهد السياسي بالغ التعقيد والتشابك في سودان ما بعد البشير.

يُنظر إلى المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير «قحت» على أنهم أكبر تهديد للمسار الانتقالي السلمي. ويستند هذا الرأي إلى الأحداث الأخيرة والانقسامات السياسية والأيديولوجية التي حددت السياسة السودانية تقليدياً.

100 ألف جندي

وتشير التقديرات من بعض الجهات الأمنية والاستخباراتية الغربية إلى أن قوات الدعم السريع لديها ما يقرب من 100 ألف جندي وقواعد وانتشار في جميع أنحاء البلاد، في حين يُقدر عدد أفراد الجيش بنحو 124 ألف فرد. دفع هذا التحليل «قحت» نحو تحالف غير متوقع ومتناقض مع الطرف الثالث في معادلة القوة، وهو قوات الدعم السريع.

وعلى هذا أنشأت «قحت» تحالفاً سياسياً وثيقاً مع قوات الدعم السريع، التي يراها الإسلاميون عدوهم الرئيس. وقد تمت تهيئة هذا التحالف من قبل سماسرة سياسيين من المناطق المهمشة داخل قوى الحرية والتغيير، الذين لا يرون سيادة نظام الميليشيات السياسية إشكالية، طالما أنها تخدم مصالحهم السياسية. وخلال الفترة الانتقالية المجهضة، تبادل هؤلاء السماسرة الامتيازات والخدمات السياسية مع قوات الدعم السريع، مما عزز علاقاتهم. ولا يخفى أن العلاقة الوثيقة لهذا التحالف أدت إلى التوصل إلى الاتفاق السياسي الإطاري في 5 ديسمبر 2022.

تحالف واضح

وقد أصبح تحالف «قحت

» والدعم السريع الذي نما بسرعة، أكثر وضوحاً مع دعم حميدتي التلقائي لجميع الخطوات التي اتخذتها «قحت

»، مثل دعمه العام لمشروع دستور نقابة المحامين السودانيين (حتى قبل مراجعته)، وتصريحاته المتكررة حول التزامه بالاتفاق الإطاري كخيار وحيد للتسوية السياسية، بل وإعلانه الندم علناً على مشاركته في «انقلاب البرهان».

التداعيات الإقليمية والدولية

يقع السودان في منطقة مضطربة، على حدود البحر الأحمر والساحل والقرن الإفريقي. وهي بلا شك - بسبب موقعها الاستراتيجي وثروتها الزراعية - تُعدّ جاذبة للقوى الإقليمية والدولية، بما يؤدي إلى تعقيد فرص الانتقال الناجح.

وثمة حالة من الفوضى والاضطرابات السياسية والصراعات العنيفة تأثر بها العديد من جيران السودان، بما في ذلك إثيوبيا وتشاد وجنوب السودان. ومن المعروف أن علاقة السودان مع إثيوبيا توترت على وجه الخصوص بسبب الصراع على إقليم الفشقة الحدودي، وبسبب الصراع في منطقة تيغراي الذي دفع عشرات الآلاف من اللاجئين إلى السودان، إضافة إلى سد النهضة الإثيوبي الكبير.

كما أن مصر التي تربطها علاقات تاريخية عميقة بالسودان وعلاقة وثيقة مع جيشها، اتخذت مساراً محايداً ومتوازناً للحفاظ على أمنها القومي. كما تمارس كل من السعودية ودولة الإمارات، بما يتمتعان به من ثقل كبير، دوراً مهماً في عملية الانتقال السياسي في السودان، وهما يشكلان مع الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا «الرباعية الدولية»، التي رعت الوساطة في السودان، إلى جانب الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي.

ومن المرجح أن المواجهة الحالية لن تؤثر في التصديق على الاتفاق بين موسكو والخرطوم بشأن إنشاء مركز لوجستي للبحرية الروسية في السودان.


السيناريوهات والمآلات

من الواضح أن الجيش السوداني، رغم إعلانه السيطرة على معظم مقرات الدعم السريع، بما في ذلك قاعدة كرري المهمة، يواجه حرباً غير متماثلة مع ميليشيات الدعم السريع. وغالباً ما تتميز هذه الحروب بعدم وجود خطوط أمامية واضحة، حيث يندمج المقاتلون مع السكان المدنيين أو يستخدمون ساحات القتال غير التقليدية، مثل الحرب الإلكترونية أو حرب الشوارع والمدن.

ويمكن أن تكون هذه الأنواع من النزاعات معقدة للغاية ويصعب حلها، حيث قد لا تكون الاستراتيجيات العسكرية التقليدية ف

اعلة في هزيمة الجانب الأضعف. ومن المؤكد أنه في حال عودة منتسبي الجيش السوداني في الدعم السريع إلى مواقعهم العسكرية السابقة، فإن ذلك يعني إمكانية الانتقال إلى طور آخر من أطوار الصراع الذي يبدو فيه وضع لا غالب ولا مغلوب، الأمر الذي يعطل من مسيرة الانتقال إلى الحكم المدني.

وربما يجعل هذا السيناريو السودان عبئاً على الإقليم الذي يشهد حالات انهيار السلطة وتعدد الفواعل السياسية والعسكرية داخل الدولة الواحدة. ولعل السيناريو البديل يتمثل في تمكن الجيش من إحكام قبضته على العاصمة وطرد قوات الدعم السريع، وهو ما يفتح الطريق مرة أخرى أمام الجهود الدولية والإقليمية لاستكمال تنفيذ بنود الاتفاق الإطاري، بما في ذلك إصلاح قطاع الأمن، وإدماج قوات الدعم السريع في الجيش. أما السيناريو الأخير فإنه يمثل «حافة الهاوية»، حيث يكرر الحالة الليبية ويؤدي إلى تقسيم البلاد من الناحية الواقعية، وهو ما يطرح إشكالية وتداعيات وجود أجسام عسكرية غير نظامية بجوار الجيش الوطني.

أحد الأسباب المركزية للتوتر العنيف بين عناصر المكون العسكري، منذ الانتفاضة، هو المطلب المدني للسيطرة على الجيش، ورؤية اندماج قوات الدعم السريع القوية في الجيش النظامي.

ثمة حالة من الفوضى والاضطرابات السياسية والصراعات العنيفة تأثر بها العديد من جيران السودان، بما في ذلك إثيوبيا وتشاد وجنوب السودان.

يبدو من الواضح أن الجيش السوداني يفرض قبضته على النقاط الاستراتيجية في الخرطوم، لما لها من دلالة رمزية وسياسية غير خافية.

تويتر