تعددت أدواره كمجلس شورى وجامعة علمية ومركز تتحلق حوله مدينة الفسطاط

مسجد عمرو بن العاص.. أول بيت عبادة للمسلمين في إفريقيا

صورة

امتاز مسجد عمرو بن العاص في حي مصر القديمة بوسط القاهرة بكونه أول بيت عبادة بناه المسلمون في مصر وإفريقيا، وقد تم بناؤه عام 20 هجرية -642 ميلادية، بعد فتح مصر على يد عمرو بن العاص، وشهد المسجد حوادث كبرى منذ بدايات دخول المسلمين الفاتحين مصر عام 640 ميلادية، أبرزها حرق ضرغام للفسطاط التي تحتضن المسجد، أثناء الخلافة الفاطمية، خوفاً من وقوعها في يد الصليبيين عام 1168 الذي استمر لمدة 54 يوماً، وظل حريقها واضحاً للعيان من على بعد مسيرة ثلاثة أيام، بحسب روايات المؤرخين، وقد شهد المسجد تغيرات وزيادات عدة على مدى العصور الإسلامية، بلغت أكثر من خمس مرات في العصور الإسلامية الأولى، وكان المسجد النبوي بالمدينة المنورة هو النموذج الذي قيست عليه التغيرات الأولى، كما شهد المسجد تغييرات أخرى في الحقب الحديثة.

حمل مسجد عمرو بن العاص أسماء عديدة، من بينها «المسجد العتيق»، و«مسجد الفتح»، و«تاج الجوامع»، و«مسجد أهل الراية»، وقد سبق بناء المسجد بناء مدينة الفسطاط، كعاصمة إسلامية في مصر، واختلفت الآراء بشأن تسميتها، حيث يرجعها البعض نسبة إلى «فسطاط عمرو بن العاص»، أي خيمته، الذي تركه في مكان نزوله بعد توجهه إلى الاسكندرية، بعد فتح حصن نابليون، إذ وجد يماماً قد فرخ، فقال عمرو بن العاص «لقد تحرم منا بحرم»، وأقر ببقاء فسطاطه كما هو، ولما عاد المسلمون من الاسكندرية وسألوا أين ننزل؟ قال الفسطاط، أي الفسطاط الذي خلفه، بحسب القلقشندي في «صبح الأعشى». بينما ذهبت رواية أخرى إلى أن التسمية اشتقت من اللفظة اللاتينية «فوستاتيوم»، التي تعني العسكر، أو الخندق، أو الحصن، بحسب ألفريد بتلر في «فتح العرب لمصر»، وذهبت رواية ثالثة إلى دحض الرواية الثانية، مؤكدة أن كلمة فسطاط عربية فصيحة، مستندين إلى حديث نبوي يقول «يد الله مع الفسطاط»، بحسب حسن الباشا في كتاب «القاهرة تاريخها وفنونها».

ويرى ألفريد بتلر أن «عمرو بن العاص قد وفق في اختيار موقع المدينة أيما توفيق، سواء من الناحية الجغرافية أو الحربية، فمدينة الفسطاط تقع عند رأس الدلتا، وهو موقع له أهميته من الناحية الحربية والعمرانية، وبذلك تكون الفسطاط في مأمن من هجمات العدو، وفي الوقت نفسه قريبة من الأراضي الزراعية، الأمر الذي يسهل معه وصول المؤن والأقوات. ويحمي الفسطاط من جهة الشرق جبل المقطم، فهو درعها الواقي ضد العدو وضد فيضان النيل».

قبلة المسجد

ويقول الكندي في «الولاة والقضاة»، عن يزيد بن حبيب أنه «سمع من أشياخنا ممن حضر مسجد الفتح (يقصد مسجد عمرو بن العاص) يقولون وقف على إقامة قبلة المسجد الجامع 80 رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيهم الزبير بن العوام، والمقداد، وعبادة بن الصامت، وأبوالدرداء، وفضالة بن عبيد، وعقبة بن عامر، رضي الله عنهم». ويقول القلقشندي في «صبح الأعشى» إن «عمرو بن العاص اتخذ منبراً في المسجد، فكتب إليه عمر يأمره بكسره، قائلاً له: أما يكفيك أن تكون قائماً والمسلمون جلوس تحت عقبيك، فكسره، ويقال إنه أعاده بعد وفاة عمر رضي الله عنه».

وتقول الموسوعة الإسلامية إن «مساحة المسجد وقت إنشائه كانت 50 ذراعاً في 30 ذراعاً، وله ستة أبواب. وتوالت التوسعات حتى وصلت مساحته 24 ألف ذراع في نهايات العصر الإسلامي، وتصل مساحته اليوم إلى 120 متراً في 110 أمتار». شهد المسجد تغيرات عدة منذ إنشائه في العصور الإسلامية الأولى، عكست التطورات السياسية المحيطة به، كان أولها الزيادة التي أضافها للمسجد مسيلمة بن مخلد الأنصاري عام 53 هجرية، والذي شهد لأول مرة تشييد مئذنة، وأربع صوامع للمؤذنين، وفرش الأرض بالحصير بدل الحصباء، والثانية في عهد عبدالعزيز بن مروان عام 74 هجرية، والثالثة التي قام بها قرة بن شريك، وتضمنت هدماً وبناءً وزيادة عام 92 هجرية، والرابعة التي قام بها صالح بن علي في 175 هجرية، والخامسة التي قام بها عبدالله بن طاهر في 212 هجرية، كما شهد المسجد ترميماً شاملاً على يد صلاح الدين الأيوبي عام 568 هجرية، وشهد أيضاً عمل مئذنة مخروطية على يد الأمير المملوكي مراد بك، بحسب مصادر إسلامية متطابقة.

التغييرات الأولى

وتهتم مصادر التاريخ الإسلامي بشكل خاص بالتغييرات الأولى التي أجراها مسيلمة بن مخلد الأنصاري بتوجيه من الخليفة معاوية بن أبي سفيان، وتروي د. سعاد ماهر محمد في موسوعتها «مساجد مصر وأولياءها الصالحين»، أنه جاء في كتاب أخبار مسجد أهل الراية أنه «لما ضاق المسجد بأهله، شكوا ذلك إلى مسلمة بن مخلد، وهو الأمير يومئذ، فكتب إلى معاوية بن أبي سفيان، فكتب إليه يأمره بالزيادة فيه من شرقيه، مما يلي دار عمرو بن العاص، ومن بحريه، ولم يحدث فيه حدثاً من القبلي ولا من الغربي، وجعل له رحبه كان الناس يصيفون فيها»، كما يضيف المقريزي، نقلاً عن الكندي «كما لاطه، أي دهنه بالطلاء، وزخرف جدرانه وسقوفه، ولم يكن المسجد الذي لعمرو فيه نوره أو زخرف»، كما يقول المقريزي إن «معاوية أمر بابتناء منار المسجد وأمر أن يؤذنوا في وقت واحد».

اقترنت مهام المسجد باحتياجات المسلمين الأوائل لدى دخولهم مصر، حيث شملت تأدية الفرائض الدينية، وعقد مجالس القضاء، وعقد مجالس القصص، وعقد حلقات العلم التي وصلت إلى 120 حلقة، وخصصت بعضها للنساء، التي تألقت فيها الواعظة أم الخير الحجازية، وقد احتل المسجد مكان الجامع الأزهر الذي لم يكن قد أنشأ بعد، بحسب الباحث أحمد عبدالرازق في كتابه «تاريخ مصر الإسلامية»، كما يضيف المقريزي لهذه الوظائف وظيفة مهمة أهملها المؤرخون، وهو اشتماله على «بيت المال»، وينقل المقريزي عن ابن رسته قوله إنه رأى بيت المال أمام المنبر، وكان شبه قبة عليها أبواب من حديد، كما ينقل المقريزي إن «المسجد كان مقراً للصفقات التجارية الكبرى، وأن متولي خراج مصر كان يجلس في المسجد في الوقت الذي تتهيأ فيه قبالة الأراضي، وقد اجتمع الناس من القرى والمدن، فيقوم رجل ينادي، صفقات، وكتّاب الخراج ومتولو الخراج يكتبون ما تنتهي إليه مبالغ الصفقات والكور على من يتقبلها».

هذا وتعرض المسجد لحوادث جسيمة، كان من بينها الحريق الذي تعرض له في عهد الطولونية، إذ دمر أجزاء منه، من بينها الرواق الذي عليه اللوح الأخضر، فأمر خمارويه بن أحمد بن طولون بعمارته، فأعيد على ما كان عليه، وأنفق فيه 6400 دينار، وكتب اسم خمارويه في دائرة الرواق الذي كان عليه اللوح الأخضر، وأخيراً تأثر المسجد بالزلزال الذي شهدته مصر مطلع التسعينات، وأصيبت أعمدته بالشروخ، كما انهار 50 متراً من سور حرم المسجد عام 1994، بحسب شهود ومتابعات. من الأشياء اللطيفة أن جدران المسجد تحمل أبياتاً شعرية تمجد إصلاحاته، منها أبيات لمجهول يقول فيها:

انظر لمسجد عمرو بعد ما درست.. رسومه صار يحكي الكوكب الزاهي

نعم العزيز الذي لله جدده.. أمير اللوام مراد الأمير الناه

له ثواب جزيل غير منقطع.. على الدوام بانظار وأشباه

كما سجلت أبيات أخرى لمجهول أيضاً:

                مسجد ابن العاص أضحى.. بعد هدم أصابه

كعبة يسعى إليها.. يرتجى فيه الإجابة

                جمل التاريخ رجح.. قد بناها الصحابة

ويروي علي مبارك في «الخطط التوفيقة» أن «الحملة الفرنسية لما غزت مصر، جرى على مسجد عمرو ما جرى لغيره من الهدم والتخريب، فقد أخذت أخشابه حتى أصبح بلقعا أشوه مما كان».

ويقول خبير الآثار الإسلامية والمرشد السياحي، محمود الجزار، لـ«الإمارات اليوم» إن «زيارة مسجد عمرو بن العاص تمثل أهمية كبيرة، لأنها تجمع أشياء كثيرة، منها أنها توضح تاريخ النيل ذاته في القاهرة وتقدمه وانحساره، وتاريخ الفتح العربي الإسلامي لمصر، وأهمية مدينة الفسطاط، وتوضح الفترات التاريخية المختلفة، وشكل العلاقة بين الفاتحين والمصريين، وأدوار المسجد، خصوصاً المركزي منها في الحضارة الإسلامية». يذكر أن المسجد ارتبط بحكايات شعبية وأساطير كثيرة، من بينها أنه يوجد عمودان متجاوران على يسار الداخل، لا يمكن لمدنس بالذنوب والخطايا أن يمر من بينهما بسلام، أو وجود عمود رخام رفض الحضور جلبه مع بقية الأعمدة التي أحضرت مما يستوجب ضربه بالعصي، وقد دحض العلماء هذه الحكايات، مؤكدين عدم وجود أساس ديني لها.

مراجع

أحمد عبدالرزاق (1999)، تاريخ وآثار مصر الإسلامية، مصر: دار الفكر العربيالقاهرة، تاريخها وفنونها وآثارها، حسن الباشا، مؤسسة الأهرام الخطط التوفيقية، علي مبارك، المطبعة الأميرية.

اقترنت مهام المسجد باحتياجات المسلمين الأوائل لدى دخولهم مصر، حيث شملت تأدية الفرائض الدينية، وعقد مجالس القضاء، وعقد مجالس القصص، وعقد حلقات العلم التي وصلت إلى 120 حلقة، وخصصت بعضها للنساء، التي تألقت فيها الواعظة أم الخير الحجازية، وقد احتل المسجد مكان الجامع الأزهر الذي لم يكن قد أنشئ بعد.

تويتر