وصفه المقريزي بـ «الجامع الجامع لمحاسن البيان»

«المؤيد شيخ».. مسجد فخم بناه سلطان مملوكي فوق محبسه السابق في القاهرة

صورة

يحتل مسجد «المؤيد شيخ» في القاهرة القديمة بجوار باب زويلة في شارع المعز لدين الله الفاطمي، بمنطقة الدرب الأحمر بالقاهرة، مكانة مرموقة بين جوامع القاهرة العتيقة، وقد أنشأ الجامع السلطان المؤيد أبوالنصر سيف الدين شيخ المحمودي الجركسي بن عبدالله المحمود الظاهري، الشهير بـ«السلطان المؤيد شيخ»، وحكم مصر من 1415 إلى 1422، واتسم بالشجاعة وحب العلم، وقد اشتهر المسجد لجمعه بين القيمة المعمارية ووقوفه شاهداً على أحداث تاريخية مهمة، بحسب مؤرخين.

ويروي المؤرخ الأثري حسن عبدالوهاب في «تاريخ المساجد الأثرية»، أن «الملك المؤيد شيخ الجركسي الأصل ولد 1368 ميلادية، وبيع كمملوك وعمره 12 سنة، فاشتراه الخواجا محمود شاه اليزدي تاج المماليك، فعرف المؤيد بالمحمودي، ثم قدم إلى الزهير البرقوق وكان وقتها أتابكاً للعساكر، فأعتقه واعتنى به وبتربيته، فتعلم المؤيد الفروسية ورمي النشاب والرمح وضرب السيف والمصارعة وسباق الخيل».

وقد ولي المؤيد ملك مصر في 1412 ميلادية ومازال سلطاناً بها حتى 1421 ميلادية، بحسب إجماع عديد المؤرخين. ومع أن بعض مؤرخي عصره وصفوه بالبخل وبعض الهنات، إلا أن الكثير منهم أجمع على اشتغاله بالعلم، وحدبه على العلماء، وأنه كان يباشر الأحكام بنفسه، وينزل الناس منازلهم.

ويضرب المؤرخ بدرالدين العيني مثلاً يحسم فيه تمتع المؤيد بالأخلاق الرفيعة في كتابه «السيف المهند في سيرة الملك المؤيد» (ص278)، فيقول إنه «من جملة تواضعه أنه كان عند جملة من العلماء وزمرة من الفضلاء، وكانوا يتذاكرون في المسائل الفقهية واللوم الشريفة، إلى أن انتهى كلامهم إلى ذكر الخطبة وحال الخطباء، فعند ذلك أمر مولانا السلطان المؤيد خطيبين هما الشيخ زين الدين أبوهريرة بن النقاش، والشيخ شهاب الدين بن حجر، أنهما إذا كانا يخطبان على درجة من درجات السلم، أن ينزلا درجة أسفل عند وصولهما إلى ذكر اسمه، تعظيماً لاسم الله سبحانه وتعالى، وتوقيراً لاسم النبي صلى الله عليه وسلم، حتى لا يتساوى اسمه مع اسم الله واسم رسوله عند الذكر في مكان واحد».

لكن ابن إياس في طرف مقابل في كتابه «بدائع الزهور في وقائع الدهور» يقدم رواية لا نملك إلا إيرادها حيث يشير إلى أن حياة وسياسة المؤيد شيخ لم تكن في كل جوانبها وردية، وأنه في سبيل الحصول على الرخام لبناء جامعه، هاجم بيوت الناس وألحق بهم الأضرار. وطبقاً لابن إياس «صار المؤيد يكبس الحارات التي بها بيوت المباشرين وأعيان الناس بسبب الرخام، وكان التاج والي القاهرة يهجم على الناس في بيوتهم ومعهم المرخمون عمال الرخام، فيقلع رخام الناس طوعاً أو كرهاً، لذلك خرب دوراً كثيرة، وانتزع باب السلطان حسن الذي خلعه وجعله على باب جامعه، وأخذ التنور الكبير النحاس والنجفة منها أيضاً، ودفع في الباب والتنور 500 دينار»، كما يورد ابن إياس حكايات عن مصريين سموا مسجد المؤيد الجامع الحرام، رفضاً لسرقة مواد البناء منهم، وحين يتم القبض على أحدهم وهو يردد العبارة يزعم أنه يمتدحه ويعلي من شأنه، حيث يشبهه بالمسجد الحرام.

موقع سجن

بني مسجد المؤيد شيخ على موقع لسجن عرف باسم «خزانة شمائل»، حيث اعتقل فيه المؤيد شيخ على يد الملك الناصر فرج بن برقوق بعد خلافات على السلطة نشبت بين الأمير منطاش والمماليك الظاهرية، فنذر لله إن نجا من المحنة وتجاوزها أن يبنى مكانه مسجداً، فلما تحقق حلمه شرع في بناء مسجد، واشترى قيسارية الأمير سنقر الأشقر، وحارات مجاورة للسجن، كما اشترى البوابة النحاسية لمسجد السلطان حسن ودفع ثمنها 500 دينار، ومكتبة كبيرة بالقلعة، و500 مجلد كبير أهداها له كاتب السر ناصر الدين البارزي، ليتم افتتاح المسجد في سنة 1417 ميلادية، حيث قام المؤيد بإعداد سماط عظيم، وملأ فسقية الصحن بالسكر، بحسب «دليل موجز الآثار العربية»، وقد أشرف على بنائه المعماري بدر الدين محب الدين الاستادادار، وعين الأمير طرطر «شاد العمارة»، وبهاء الدين البرجي كناظر للعمارة، وشارك من البنائين محمد بن القزاز، بحسب فهمي عبدالعليم في كتابه «جامع المؤيد».

قصة أخرى

لم يكن بناء المسجد فوق الزنزانة ذاتها التي كان محبوساً فيها المؤيد شيخ هو الجزء الدرامي الوحيد في قصة بناء الجامع، بل كانت هناك قصة أخرى أكثر إيلاماً، وهي قتل المؤيد لابنه إبراهيم الصارمي بعد وشاية من أحد قادته بأن الابن الذي تولى قيادة الجيش، واقترب من قلوب الناس في أزمة الطاعون يعتزم الإطاحة بوالده، فقام الأخير بدس السم له، وحين اكتشف أنه غرر به وأن ما تم كان مؤامرة عليه وعلى ابنه، كان الوقت قد فات، وتوفي الابن بفعل السم، ليقضي المؤيد حياته جزعاً وحزيناً، وليدفن الابن بجواره في المسجد.

ويصف ابن تغري بردي في «النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة» هذا المشهد القاسي بأن «موت إبراهيم الصارمي جعل الناس يحزنون عليه، وندم السلطان على ذلك، وشهد الصلاة عليه، ثم دفن معه في المكان نفسه بعد عام واحد من قتله.

أما على المستوى المعماري فإن للجامع أربعة حدود: الحد الجنوبي الشرقي على شارع المعزوبة الواجهة الرئيسة، والحد الشمالي الشرقي على حارة الأشرقية التي كانت تؤدي إلى باب الفرج، والحد الشمالي الغربي وبه الحمام والميضأة ومساكن الطلبة، والحد الجنوبي الغربي يطل على شارع تحت الربع، والزاوية الجنوبية للمسجد متداخلة مع البرج الغربي لباب زويلة.

وتوضح المشاهدة العينية للمسجد وجود أربعة إيوانات به: منها ثلاثة تم تحديثها على طرزها القديمة، بينما تحتفظ الرابعة بتفاصيلها القديمة كما هي، وهي وجهة عالية حليت أعتاب شبابيكها بالرخام، وفي الطرف البحري منها المدخل العمومي الشاهق الذي له سلم مزدوج ومكسو بالرخام الملون وله مصطبتان طويلتان، ويحيطه إفريز رخامي مقسم إلى دوائر، وإلى مسدسات مطعمة بالفيروزي والأحمر، والملمح الأبرز فيه الباب النحاسي بارتفاعه البالغ ستة أمتار، والذي تم نقله من مسجد السلطان حسن بعد شرائه، وهو ما يصفه المؤرخ الأثري عادل غنيم في موقعه «عاشق ترابك يا مصر» بأنه «مدخل تذكاري كامل».

وتعد الواجهة الجنوبية الشرقية للمسجد هي الواجهة الرئيسة، وتطل على شارع المعز لدين الله القبلي، وتشتمل على كتلة المدخل بالطرف الشرقي، يليها من جهة الجنوب واجهة القبلة.

ويصف المقريزي المسجد بأنه «الجامع الجامع لمحاسن البيان، الشاهد بفخامة أركانه وضخامة بنيانه، وإن منشئه سيد ملوك الزمان، ويحتقر عرش بلقيس وإيوان كسرى»، وقد أصاب السلطان التركي سليم الأول الذهول عندما زاره بعد دخوله مصر عام 1517، وقال «هذه عمارة الملوك».

ومن الوقائع التاريخية الخطيرة التي شهدها المسجد بعد حقبة المؤيد، اعتصام بعض المتمردين فيه عام 1665 خلال حقبة الوالي العثماني عمر باشا، واضطرار الوالي إلى مهاجمتهم وإجبارهم على الاستسلام، فأصاب الجامع الهرم وأصلحه لاحقاً الوالي أحمد باشا عام 1690. ويرى المؤرخ حسن عبدالوهاب أن هذه الواقعة أثرت على بنية الجامع وما وصلنا منه رغم بهائه، فيقول «ولقد دب التلف سريعاً إلى الجامع في الوقت الذي احتفظت فيه الجوامع المعاصرة له بتفاصيلها، ولعل هذا راجع إلى مهاجمة الجامع عام 1665 وضربه بالمدافع، على إثر تحصن بعض الطغاة المعروفين بالزرب فيه، وقد كثر فسادهم وقتئذٍ بمصر، فاستفتى عمر باشا حاكم مصر وقتها العلماء فأفتوه بأن يقابلهم بما يقابلونه به، فأمر العسكر بالزحف عليه ومعهم 12 مدفعاً وصوبوها عليهم إلى وقت العصر، فاستسسلموا وفتحوا أبواب الجامع، فقتلوهم واستولوا على أموالهم».

_________________

المراجع

1- تاريخ المساجد الأثرية التي صلى فيها فريضة الجمعة حضرة الملك الصالح فاروق الأول، حسن عبدالوهاب، مطبعة دار الكتب المصرية.

2- بدائع الزهور في وقائع الدهور، ابن إياس.

3- السيف المهند في سير الملك المؤيد، شيخ المحمودي، بدر الدين العيني، دار الكتب والوثائق القومية.

4- جامع المؤيد، فهمي عبدالعليم، مطابع هيئة الآثار المصرية.


• على المستوى المعماري للجامع أربعة حدود: الحد الجنوبي الشرقي على شارع المعزوبة الواجهة الرئيسة، والحد الشمالي الشرقي على حارة الأشرقية التي كانت تؤدي إلى باب الفرج، والحد الشمالي الغربي وبه الحمام والميضأة ومساكن الطلبة، والحد الجنوبي الغربي يطل على شارع تحت الربع، والزاوية الجنوبية للمسجد متداخلة مع البرج الغربي لباب زويلة.

• من الوقائع التاريخية الخطيرة التي شهدها المسجد بعد حقبة المؤيد، اعتصام بعض المتمردين فيه عام 1665 خلال حقبة الوالي العثماني عمر باشا، واضطرار الوالي إلى مهاجمتهم وإجبارهم على الاستسلام، فأصاب الجامع الهرم وأصلحه لاحقاً الوالي أحمد باشا عام 1690.

تويتر