تشكيل كتل جديدة لم يشهدها العالم منذ الحرب الباردة

كيف غيرت الحرب في أوكرانيا الوضع الجيوسياسي في العالم

صورة

يصادف هذا الأسبوع ذكرى مرور عام على الحرب في أوكرانيا، التي كان يعتقد أنها لن تطول سوى أيام معدودة، بعد أن تنتهي بتسوية بين الطرفين المتحاربين، موسكو وكييف، لكن أمد الحرب طال، وآفاق التوصل إلى تسوية سُدت، ودخلت أطراف عدة في مجريات الحرب اليومية، وأصبحت أوروبا، ممثلة في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والولايات المتحدة، طرفاً في الحرب، ونشأت حالة من الاستقطاب لم يعهدها العالم حتى زمن الحرب الباردة.

وتحولت الحبوب ومصادر الطاقة إلى ورقة ضغط بين أطراف الصراع لتسجيل مكاسب سياسية، ما أدى إلى تعطيل سلاسل التوريد، وارتفاع أسعارها، وتعريض دول فقيرة في قارتي إفريقيا وآسيا لهزات عنيفة، وارتفاع معدلات التضخم والبطالة على مستوى دول العالم، وتعرض الاقتصادات الأوروبية لانكماش نجمت عنه اضطرابات اجتماعية وتظاهرات، دون قدرة حكومات هذه الدول على إيجاد حلول ناجعة لمشكلاتها، وطريقة للخروج من النفق المظلم تحفظ ماء وجه كل الأطراف.

كما أن الاقتصاد الروسي يعاني، نظراً لتعرض موسكو لحصار غير مسبوق، ومحاولة تجريدها من الأوراق التي تملكها، كورقة الدعم الصيني والهندي، وورقة تأثير مصادر الطاقة. ولا يبدو أن تصميم موسكو على أن تحقق الحرب أهدافها قد تراجع قيد أنملة حتى الآن.

سنحاول من خلال هذا الملف قراءة المشهد عن قرب، ومعرفة ما إذا كان ثمة وسيلة لتوقف هذه الحرب الطاحنة، التي حصدت في طريقها أرواح عشرات الآلاف من الأبرياء.

خارج حدود أوكرانيا، أدى هجوم روسيا على جارتها إلى إحداث تغييرات في أجزاء من النظام العالمي، بما في ذلك تشكيل كتل جديدة لم يشهدها العالم منذ الحرب الباردة.

فيما يلي بعض التغييرات الرئيسة بعد مرور سنة على الحرب.

تكتلات جديدة

زادت الحرب من حدة النزاعات والمواجهة، فضلاً عن الاتجاه العالمي الحالي للدول لتشكيل كتل تتمحور حول واشنطن وبكين.

وقال منسق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، في ديسمبر الماضي «لقد تحولنا إلى عالم غير منظم، متعدد الأقطاب، كل شيء فيه سلاح الطاقة والبيانات والبنية التحتية والهجرة.. الجغرافيا السياسية هي المصطلح الأساسي، كل شيء جيوسياسي».

تحولت آسيا الوسطى، والقوقاز والبلقان وإفريقيا، والمحيط الهندي والمحيط الهادئ، إلى ساحات معركة على النفوذ بين قوى مثل الصين والاتحاد الأوروبي وروسيا وتركيا، سواء من خلال تمويل مشروعات البنية التحتية أو إبرام صفقات في التجارة أو التعاون العسكري أو الدبلوماسي.

وجاءت الحرب في أوكرانيا لتمعن في زعزعة الأمور، فأضعفت قبضة روسيا على الجمهوريات السوفييتية السابقة في آسيا الوسطى، وفتحت الباب أمام تركيا للاضطلاع بدور جديد كوسيط.

وقال رئيس مركز أبحاث FMES في فرنسا، بيار رازو، إن «إعادة التنظيم الجارية في حالة من الفوضى حقيقية، لكنها مؤقتة على الأرجح». وأضاف «حتماً، ستؤدي الحرب في النهاية إلى إضعاف روسيا وأوروبا وإرهاقهما، في حين أن المنتصرَين الرئيسين من هذا الوضع هما الولايات المتحدة والصين».

روسيا في فلك الصين

كان على الصين أن تفكر في الحرب من منظور هدفها الاستراتيجي طويل الأمد، المتمثل في أن تصبح القوة الرائدة في العالم بحلول عام 2049.

على الرغم من أن بكين تدعم موسكو، إلا أنها تجنبت القيام بتحركات قد تنفر الغرب منها.

وقالت محللة شؤون آسيا في معهد الاتحاد الأوروبي للدراسات الأمنية، أليس إيكمان، إن «الصين لا تنأى بنفسها، ولكنها عززت علاقتها الوثيقة مع روسيا».

في تقريرها السنوي الذي نُشر هذا الشهر، قالت أجهزة الاستخبارات الإستونية، إن «من السابق لأوانه النظر إلى تأييد (الرئيس الصيني) شي جين بينغ، المتحفظ للحرب التي يشنها بوتين كعلامة على الابتعاد عن روسيا».

وقالت إيكمان إن الدعم قد لا يكون توافقاً كاملاً، والصين لا تقدم لروسيا مساعدات بحجم تلك التي توفرها واشنطن لأوكرانيا، لكن «علينا أن ننظر إلى الوقائع، لقد تعززت العلاقات الاقتصادية».

في الواقع، تعني الحرب أن موسكو تخاطر بأن تصبح مجرد تابع لبكين، وأن تدور في فلكها.

وقالت الخبيرة الاقتصادية وخبيرة العقوبات، أغات دوماريه، إن «روسيا ليست في وضع يسمح لها بالتفاوض مع الصين التي ستأخذ ما تشاء من روسيا، دون أن تعطي روسيا ما تريد»، مثل الأسلحة أو المكونات الإلكترونية المهمة. ومع ذلك، قالت إيكمان «يمكن للأيديولوجيا أن تتقدم على عدم التوازن الاقتصادي، ولا ينبغي تحليل العلاقة من منظور عقلاني فحسب».

وقال رازو «الكرملين يراهن على تنويع علاقاته الجيوسياسية والاقتصادية والاستراتيجية مع تركيا والشرق الأوسط وإيران وإفريقيا»، للحد من اعتماده على الصين.

كما أن ترسانة روسيا النووية الهائلة، وهي أكبر بكثير مما تملكه الصين، تجنبها أيضاً أن تصبح خاضعة تماماً.

الدور الأوروبي

بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، تمثل الحرب في الوقت نفسه فرصة لأن يظهر قدرته على التحرك كجهة فاعلة رئيسة، فضلاً عن خطر أن يؤدي دور تابع لواشنطن من جديد.

وقال مسؤول أوروبي رفيع المستوى، طالباً عدم الكشف عن اسمه «لم يكن أداء أوروبا سيئاً جداً، فقد أظهرت مرونتها وقدرتها على الاستجابة بسرعة كبيرة منذ بداية الحرب، من خلال تقديم الدعم العسكري، ومساعدة اللاجئين، وخفض اعتمادها في مجال الطاقة على روسيا». وأضاف أن الاتحاد الأوروبي «لبى الاحتياجات العاجلة. هل استعد للمستقبل ومكانته على الخريطة العالمية؟ مازال أمامه عمل يتعين القيام به».

وقالت الخبيرة الاقتصادية، دوماريه، إن «من الواضح أن هناك كتلتين، واحدة أميركية وأخرى صينية، مع حلفائها وروسيا، فهل ستصبح أوروبا كتلة ثالثة أم لا، أم ستتحالف مع الأميركيين؟».

وقال رازو إن القادة الأوروبيين، من خلال اتحادهم مع واشنطن في الوقت الحالي في دعم كييف، يريدون «تقوية العلاقة مع الولايات المتحدة، لكنهم يدركون أنهم قد يجدون أنفسهم بمفردهم خلال ولاية رئاسية أو اثنتين»، إذا وصل مرشح انعزالي إلى البيت الأبيض.

هناك مزيد من دول الاتحاد الأوروبي الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ترى ألا مستقبل خارج المظلة الأمنية للولايات المتحدة و«الناتو»، ومن ثم يبحث الاتحاد عن مزيد من المجالات لتقليل التبعيات الاستراتيجية أبعد من الوقود الأحفوري الروسي الذي استغنى عنه إلى حد كبير.

وأدرج إعلان في قمة في فرساي خارج باريس في مارس 2022 مجالات، مثل المواد الخام الرئيسة، وأشباه الموصلات، والمنتجات الغذائية كأولويات.

وقال برونو تيرتريه من مؤسسة الأبحاث الاستراتيجية (FRS)، ومقرها فرنسا، إن الأوروبيين يعانون من «المماطلة الاستراتيجية»، فهم يرفضون التحرك إلى أن يجدوا أنفسهم من دون خيار آخر.

ومع ذلك، سيتطلع الاتحاد الأوروبي إلى شق طريقه لشغل مقعد في أي مفاوضات تنهي الحرب. وكما يقول المثل «عليك أن تتغدى بهم قبل أن يتعشوا بك».

وقال الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، لصحيفة لوموند، في ديسمبر الماضي «لا أريد أن يكون الصينيون أو الأتراك فقط هم الذين يتفاوضون بشأن ما سيحدث لاحقاً».

تطلع الولايات المتحدة لآسيا

أشار الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في عام 2009 إلى أن «العلاقة بين الولايات المتحدة والصين ستشكل القرن الـ21»، متوقعاً تحول انتباه واشنطن من العالم الأطلسي إلى المحيط الهادئ.

يدل الهجوم الروسي على أوكرانيا على أن إهمال أوروبا قد لا يكون بتلك السهولة بالنسبة للرئيس الأميركي جو بايدن، نائب أوباما سابقاً.

وقالت الباحثة في جامعة واشنطن، جيوفانا دي مايو، إن على بايدن أن «يوازن الأمور»، مشيرة إلى «الدعوات المتزايدة لتسوية النزاع في أقرب وقت ممكن»، من جانب السياسيين الأميركيين، فضلاً عن تذمر الحزب الجمهوري بشأن تسليم بايدن أسلحة لأوكرانيا.

وقال القائد الأميركي في اليابان، جيمس بيرمان، لصحيفة فاينانشيال تايمز أخيراً إنه يمكن استخلاص الكثير من العبر من الحرب بشأن نزاع محتمل مع الصين حول تايوان.

وقال بيرمان «بعد العدوان الروسي في عامي 2014 و2015، استعددنا بجدية لنزاع في المستقبل: تدريب الأوكرانيين، والتخزين المسبق للإمدادات، وتحديد المواقع التي يمكننا من خلالها تقديم الدعم». مضيفاً «نحن نسمي ذلك إعداد المسرح. ونقوم بإعداد المسرح في اليابان، في الفلبين، وفي أماكن أخرى».

ضربة للعولمة

إضافة إلى إمداد كييف بالأسلحة، سعى حلفاء أوكرانيا، بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إلى خنق الاقتصاد الروسي بفرض عقوبات قاسية.

وتظهر تأثيرات الإجراءات التجارية على نظام التجارة الحرة العالمي، الذي كان السائد منذ نهاية الحرب الباردة، على الرغم من أنه كان يعاني.

وقال الرئيس التنفيذي لشركة توتال إنرجي Totalenergies، باتريك بويان، لوكالة فرانس برس، إن عقوبات مثل فرض مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي سقفاً على سعر برميل النفط الروسي المصدّر «أنهت السوق العالمية» في ما يتعلق بالوقود الأحفوري. وسأل «ما الذي ستعنيه فكرة سعر عالمي للنفط بمجرد أن نقرر فرض سقوف، بمجرد أن يتمكن المشتريان الرئيسان الصين والهند، اللذان لا يطبقان العقوبات، من الشراء من الروس بسعر مختلف؟ هذا شيء جديد حقاً وسنختبره في عام 2023».

كما تعمل القوى الكبرى على التخلص من مبادئ التجارة الحرة التي كانت تعتز بها في مجالات أخرى، مثل القيود التي تفرضها الولايات المتحدة على مبيعات بعض رقائق الكمبيوتر إلى الصين، أو تعليق الهند صادرات القمح.

جاءت كل هذه التأثيرات المتعمدة لتضاف إلى الضربة التي وجهتها جائحة «كوفيد-19» لسلاسل التوريد العالمية.

وقالت دوماريه إن «ميل العالم إلى الانقسام يعود إلى ما قبل الحرب، لكننا تلقينا صدمة مزدوجة، تمثلت في الجائحة، ثم الحرب، ما أدى إلى تسارعه».

أزمة غلاء المعيشة

كانت للحرب تداعيات على كلفة الغذاء والتدفئة والمأوى، وهي ثلاثة من أهم الاحتياجات الأساسية للبشرية في البلدان النامية في إفريقيا، وكذلك في أوروبا الغنية.

وقال المنتدى الاقتصادي العالمي في تقريره السنوي عن المخاطر العالمية لعام 2023 إن «أزمة غلاء المعيشة العالمية حاصلة بالفعل»، مشيراً إلى أن الضغوط كانت متصاعدة حتى قبل الجائحة. وكتب الباحثان، نعومي حسين، وجيفري هالوك، في دراسة لمؤسسة فريدريش إيبرت الألمانية «شهد عام 2022 موجة غير مسبوقة من الاحتجاجات، بسبب عدم القدرة على تحمل تكاليف الأساسيات اللازمة للحياة اليومية وتوفيرها». وأضافا أنه «في دول عدة، تصاعدت هذه الاحتجاجات إلى أزمات سياسية أكبر على المستوى الوطني، تخللتها أعمال عنف وسقوط ضحايا ومطالب بالتغيير السياسي». لقد عانت دول إفريقيا والشرق الأوسط بشكل خاص، لأنها تستورد كميات هائلة من المواد الغذائية، وكذلك البلدان الفقيرة في جميع أنحاء العالم.

باريس - أ.ف.ب

جاءت الحرب في أوكرانيا لتُمعن في زعزعة الأمور، فأضعفت قبضة روسيا على الجمهوريات السوفييتية السابقة في آسيا الوسطى، وفتحت الباب أمام تركيا للاضطلاع بدور جديد كوسيط.

مزيد من دول الاتحاد الأوروبي الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو) ترى ألا مستقبل خارج المظلة الأمنية للولايات المتحدة و«الناتو»، ومن ثم يبحث الاتحاد عن مزيد من المجالات لتقليل التبعيات الاستراتيجية أبعد من الوقود الأحفوري الروسي الذي استغنى عنه إلى حد كبير.

تويتر