المرصد

«رحيل محطة مرسي ابن المعلم الزناتي»

حزن الجمهور العربي لإغلاق خدمة «بي بي سي عربي»، المحطة الإذاعية التي ارتبطوا بها لمدة 84 عاماً، وكانت بالنسبة لهم المنفذ الأهم لسماع صوت آخر ومعلومة مختلفة، خصوصاً الأجيال القديمة التي لم تشهد تحوّل العالم إعلامياً ومعلوماتياً إلى قرية صغيرة.

جاء بيان هيئة الإذاعة البريطانية حول الإغلاق هادئاً رغم ضخامة الحدث، إذ ذكر في ايجاز أن الخطوة اتُّخذت بسبب «التكاليف المرتفعة، وتسوية رسوم التراخيص النقدية، واحتياج (بي بي سي) الدولية إلى توفير 28 مليون جنيه إسترليني»، وأن «الشبكة التي حظيت بخدمة الملايين من الاشخاص للحصول على أخبار عاجلة ونزيهة، لم تكن أكثر أهمية في أي وقت كما هي اليوم»، لكن «الطريقة التي يصل بها الجمهور إلى الأخبار والمحتوى تغيرت».

كان الفارق بين ردة الفعل البريطانية الهادئة، التحليلية، وباردة الأعصاب، وبين ردة الفعل العاطفية والانفعالية عند قطاعات عربية واضحة.

كان إغلاق المحطة الاذاعية عند المتلقي العربي مساحة لاستدعاء نوستالجيا يوميات الإذاعة القديمة، ذكرى إطلاق صيحة الإعلامي أحمد كمال سرور «هنا لندن» التاريخية في 3 يناير 1938، ثم إذاعته خبر إعدام السلطات الانجليزية لفلسطيني، وهو الخبر الذي احتجت عليه السلطات البريطانية وقتها، ودفع ثمنه سرور إيداعاً في مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية، ذكريات استماع الجماهير العربية إلى الوجه الآخر والحقيقي لما جرى في حرب 1967، واقعة الإعلامي السوداني، أيوب صديق، حين قال «هنا أم درمان» بدلاً من أن يقول «هنا لندن»، ثم تداركه للخطأ حيث عاد ليقول: «هنا لندن، عفواً، وطني لو شغلت بالخلد عنه ... نازعتني إليه في الخلد نفسي»، وليستأنف بعدها النشرة، صيحة الممثل الكوميدي الراحل سعيد صالح في مسرحية «مدرسة المشاغبين»، «هنا (بي بي سي)، مرسي ابن المعلم الزناتي اتهزم يارجاله بالإنجليزي»، والتي تلقفها المشاهد العربي بوصفها اعترافاً بأن المحطة هي صوت الإعلام الأهم في العالم وقتها.

كانت هذه النوستالجيا هي الغالبة في الشارع العربي، وكان طبيعياً أن تظهر بدرجة على السطح، فالشعوب ليست مجموعة روبوتات، لكن غلبتها، أي غلبة هذه النوستالجيا، حجبت نقاشاً أهم، أبرز أسئلته هل سبب الإغلاق هو خفض التكاليف، كما قالت الهيئة البريطانية، أم هناك سبب آخر؟، وهل كانت هناك بدائل؟ وهل كان على الاذاعة العجوز أن ترحل في زمن الملتي ميديا؟ هل كان تغيير المحتوى مثلاً سيمثل نوعاً من الإنقاذ؟ وهل هذا قدر كل الإذاعات الشبيهة في الفترة المقبلة، وكل منها الآن ينتظر أجله؟ أسئلة كثيرة غيبتها العاطفة لحظياً، لكنها لن تغيب أبداً عن العقل.

• جاء بيان هيئة الإذاعة البريطانية حول الإغلاق هادئاً، رغم ضخامة الحدث.

تويتر