لأنها تتعمد التعتيم على ما يجري حقيقة

تقارير الإعلام الأميركي مضللة حول العنف الفلسطيني الإسرائيلي

صورة

هاجمت الشرطة الإسرائيلية المشيعين الفلسطينيين الذين كانوا يحملون نعش الصحافية الفلسطينية المقتولة شيرين أبوعاقلة في 13 مايو الجاري، وقاموا بضرب حاملي النعش بالهراوات ورفسهم بالأرجل، حتى كاد النعش يسقط على الأرض. غير أن العديد من وسائل الإعلام الأميركية كان لديها انطباع مختلف عن ما حدث. وقال موقع تلفزيون «إم إس إن بي سي» في تقريره «اشتبكت الشرطة الإسرائيلية مع المشيعين في موكب الجنازة».

وقالت صحيفة وول ستريت جورنال، بصورة مشابهة في خبرها «اشتبكت القوات الإسرائيلية وفلسطينيون في الضفة الغربية قبل جنازة الصحافية».

وبدأ تلفزيون «فوكس نيوز» الخبر بالقول «اندلعت الاشتباكات يوم الجمعة في القدس عندما حضر المشيعون دفن الصحافية العاملة في تلفزيون الجزيرة، شيرين أبوعاقلة، التي تعرضت لإطلاق نار يوم الجمعة عندما كانت تغطي الأحداث في مدينة جنين في الضفة الغربية».

ولم يأت الخبر على ذكر من هو الذي أثار العنف، ولم يلمح إلى انعدام التكافؤ في القوة بين الشرطة الإسرائيلية المدججة بالأسلحة، والمدنيين الفلسطينيين العزل.

وتعتبر هذه اللغة وحذف المعلومات أمراً شائعاً في تغطية أعمال العنف التي تقوم بها الشرطة، أو الجيش الإسرائيلي.

المصطلحات الحيادية ليست حيادية دائماً

ربما يبدو استخدام كلمات مثل «اشتباكات» منطقياً في مواضيع مثل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، حيث يتم ارتكاب العنف من قبل الطرفين. ولكن كباحثة في التاريخ الفلسطيني، ومحللة في تغطية وسائل الإعلام الأميركية لهذا الموضوع، أعتقد أن استخدام كلمات حيادية مثل «اشتباكات» لوصف هجمات الشرطة والجيش الإسرائيليَّين على المدنيين الفلسطينيين، مضللة تماماً. وهي تتجاهل الحالات التي تقوم فيها القوات الإسرائيلية بإثارة العنف ضد الفلسطينيين الذين لا يشكلون عليها أي خطر.

لطالما جرى اتهام وسائل الإعلام الأميركية بالتضليل عندما يتعلق الأمر بأعمال العنف المرتكبة ضد الفلسطينيين. وكشفت دراسة أجريت عام 2021، في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا لـ50 عاماً من تغطية صحيفة نيويورك تايمز للصراع العربي الإسرائيلي أن «الاستخدام غير المتناسب مع صيغة المبني للمجهول للإشارة إلى الأعمال السلبية أو العنيفة التي ترتكب بحق الفلسطينيين» قد شجع قوات الاحتلال على الإمعان في استخدام مصطلحات مضللة في وصف ما يحدث في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

ويساعد استخدام صيغة المبني للمجهول كالقول على سبيل المثال «قُتل فلسطينيون خلال الاشتباكات» بدلاً من القول «القوات الإسرائيلية قتلت فلسطينيين» على حجب إسرائيل من الخبر، كما أنه يضفي نوعاً من الضبابية على أسباب غضب العديد من الفلسطينيين من الإسرائيليين.

وهذا الأمر لا يتعلق بنيويورك تايمز، ففي عام 2019 خلص تحليل أجراه باحثو البيانات في كندا لنحو 100 ألف عنوان رئيس خلال 50 عاماً لتغطية خمس صحف أميركية، إلى أن «تغطية وسائل الإعلام الأميركية الرئيسة للصراع تجعل الأفضلية لإسرائيل، من خلال الكمية الكبيرة للقصص التي تغطيها وتوفير مزيد من الفرص لتضخيم الرواية الإسرائيلية وتعزيزها».

الروايات المتنافسة

إحدى المشكلات المرافقة لاستخدام كلمة «اشتباك» هي إضفاء الضبابية على الأحداث التي تقوم خلالها الشرطة والجيش الإسرائيلي بالهجوم على الفلسطينيين الذين لا يشكلون تهديداً عليهم.

ووصفت منظمة العفو الدولية، ومجموعة مدافعة عن حقوق الإنسان، الأحداث التي وقعت أخيراً في الأقصى بأنها واحدة من الهجمات الوحشية التي قامت بها الشرطة الإسرائيلية ضد المصلين الفلسطينيين داخل المسجد الأقصى وحوله، والتي استخدمت خلالها العنف الذي يرقى إلى التعذيب وضروب المعاملة السيئة الأخرى، من أجل فض التجمعات» وبناء عليه فإن كلمة «اشتباكات» غير مناسبة لنقل حقيقة ما جرى.

وفي الحقيقة تعطي كلمة «اشتباكات» مزيداً من الصدقية للنسخة الإسرائيلية من القصة، أكثر من الرواية الفلسطينية. ويتهم المسؤولون الإسرائيليون الفلسطينيين بأنهم من يثيرون العنف، ويدّعون بأن الجنود والشرطة استخدموا القوة القاتلة لدرء الهجمات الفلسطينية. وهكذا يتم تغطية هذه الأحداث. ولكن قاعدة البيانات لدى منظمة «بتسليم» الإسرائيلية لحقوق الإنسان، والمتعلقة بالوفيات الفلسطينية والإسرائيلية تظهر أن معظم العشرة آلاف فلسطيني الذين قتلهم الإسرائيليون منذ عام 2000 «لم يشاركوا في الأعمال العدوانية» في الوقت الذي تم فيه قتلهم.

الفلسطينيون سبب العنف

وشهدنا هذه المحاولة لجعل الفلسطينيين هم سبب العنف الإسرائيلي في حالة قتل الصحافية شيرين أبوعاقلة. ووفق ما ذكره زملاؤها في مكان وفاتها، فقد قام قناص إسرائيلي بإطلاق النار عليها وقتلها متعمداً برصاص حي، على الرغم من أنها كانت ترتدي سترة واقية من الرصاص وكتب عليها كلمة «صحافة» إضافة إلى الخوذة. وأطلق قناص آخر النار على زملائها وهم يحاولون إنقاذها، وفق شهود من مكان الحدث.

وفي البداية قال رئيس الحكومة الإسرائيلي نفتالي بينيت «مسلحون فلسطينيون أطلقوا النار بصورة عشوائية وغير منضبطة» وقت مقتل الصحافية مشيراً إلى أن الفلسطينيين قتلوا أبوعاقلة. ولكن عندما ظهرت الأدلة التي تكذب هذا الادعاء، غيّر المسؤولون الإسرائيليون رأيهم، وقالوا إنه لم يتم تحديد مصدر إطلاق النار حتى الآن».

وقالت صحيفة نيويورك تايمز إن أبوعاقلة «قتلت خلال اشتباكات بين الجيش الإسرائيلي ومسلحين فلسطينيين وقعت في المدينة» ويقول الخبر ذاته إن الصحافي الفلسطيني علي السمودي، الذي أصيب بجراح في الحادث نفسه قال «ليس هناك مسلحون فلسطينيون، أو مقاومة، أو حتى مدنيون في المنطقة» ولكن وجهة النظر هذه غير موجودة في العنوان الرئيس، والفقرة الافتتاحية للخبر.

وبعد مرور بضعة أيام، خلُصت مجموعة «بلينغكات» الدولية للصحافة الاستقصائية بعد تحليل صور الفيديو المتوفرة من المكان إلى أن الدليل «يدعم» الشهود الذين قالوا إنه لم تحدث نشاطات مسلحين في المكان وإن إطلاق الرصاص جاء من قناص عسكري إسرائيلي. وحتى كتابة هذه السطور، لم تعمل صحيفة نيويورك تايمز على تحديث خبرها الأصلي لإظهار الدليل الجديد.

وهذا مثال جلي على أسباب انتقاد كلمة «اشتباك» من قبل الصحافيين الفلسطينيين والعرب. وأصدر اتحاد الصحافيين العرب والشرق الأوسط عام 2021 توصية إلى الصحافيين يحثهم على «تجنب كلمة اشتباكات من أجل الوصف الأكثر دقة».

صورة غير كاملة

هناك مشكلة أخرى مع كلمة «اشتباكات» إذ أن حصر اهتمام وسائل الإعلام بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي فقط عندما «تندلع الاشتباكات» يعطي القارئ والمشاهد الغربي صورة غير كاملة. لأنها تتجاهل ما تصفه منظمة بتسليم بأنه «الروتين اليومي للعنف الحكومي الصريح والضمني» الذي يواجهه الفلسطينيون في الأراضي المحتلة.

وبدون فهم العنف اليومي الذي يعانيه الفلسطينيون، كما وثقته مجموعات حقوق الإنسان، ومنظمة العفو الدولية، سيكون من الصعب على مستهلكي الأخبار، الفهم وبصورة شاملة أسباب حدوث هذه «الاشتباكات» في الأصل.

ولكن الوسائل التي يحصل عبرها الناس على الأخبار تتغير، وكذلك الأميركيون الذين يشاهدون الصراع الإسرائيلي الفلسطيني أيضاً. ويصح ذلك بصورة خاصة على الصغار من الأميركيين، الذين يتناقص احتمال تلقيهم للأخبار من وسائل الإعلام الرئيسة. وأشارت استطلاعات الرأي الأخيرة إلى أن الصغار من الأميركيين يتعاطفون مع الفلسطينيين أكثر من الكبار. وهذا يتغير بين صغار الأميركيين اليهود أيضاً، وكذلك صغار الإنجيليين، وهم مجتمعون كانوا يعبرون عن مشاعر دعم قوية لإسرائيل بصورة تقليدية. وكذلك الصحافيون الأميركيون فهم يعملون على تغيير الطريقة التي تعمل بها وسائل إعلامهم على تغطية العنف الإسرائيلي.

وفي العام الماضي، قام عدد من الصحافيين الأميركيين من منصات صحافية مثل بوستن غلوب، ولوس أنغلوس تايمز، وواشنطن بوست، وإيه بي نيوز، بإصدار رسالة تدعو زملاءهم الصحافيين «إلى إيصال الحقيقة كاملة دون خوف أو محاباة، للاعتراف بأن هذا التعتيم على قمع إسرائيل للفلسطينيين يخالف المعايير الصحافية التي يؤمنون بها» وحتى الآن وقع نحو 500 صحافي على الرسالة.

• بعد بضعة أيام، خلُصت مجموعة «بلينغكات» الدولية للصحافة الاستقصائية أن الدليل «يدعم» الشهود الذين قالوا إنه لم تحدث نشاطات مسلحين في مكان مقتل أبوعاقلة وإن إطلاق الرصاص جاء من قناص إسرائيلي.

مها نصار ■ أستاذة دراسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في جامعة أريزونا.

تويتر