ظلت تبحث عنه في سجون بلادها بلا هوادة

ناشطة سورية تعرض على العالم قضية والدها والمختفين الآخرين

صورة

كان علي مصطفى يحلم بأن يرى بلده العزيز سورية حراً من قبضة نظام الرئيس بشار الأسد، لكنه اختفى عام 2013، وظلت ابنته، «وفاء» تنظم حملات في ألمانيا وفي مناطق أخرى من العالم، لدعم قضيته وقضيتها، وقضية اختفاء أكثر من 150 ألف شخص منذ اندلاع الاحتجاجات في سورية.

قبل ثماني سنوات، عندما اندلعت الاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية في شوارع سورية، اعتقل مسلحون والد وفاء مصطفى (علي)، من شقته في دمشق وحملوه على سيارة وذهبوا به بعيداً. كانت هذه آخر مرة تشاهد فيها «وفاء» والدها أو تسمع عنه. تقول: «خلال لحظات قليلة تحطمت عائلتنا، كانت تلك نهاية حياتنا الهادئة، وبداية نوع آخر من الوجود لم نعهده من قبل». كانت «وفاء» في الثالثة والعشرين من عمرها في ذلك الوقت، وتبلغ الآن 31 عاماً، ولم تتحدث إلى والدها منذ ما يقرب من 3000 يوم. تقول: «عندما فقدت والدي بدا لي وكأنني فقدت جزءاً من روحي»، وتسترسل «بعد انتزاعه منا، أدركت أن حياتي كلها ضاعت، كل شيء ضاع، أظل أبحث عنه في كل الوجوه، لقد كان بالنسبة لنا تلك القوة الجوهرية، ومن دونه لم أعرف لسنوات من أكون أنا». وتسترسل «لقد فعلنا كل ما في وسعنا للبحث عنه، كلفنا محامين، واستنفدنا جميع الاتصالات، ورشونا من يدلنا عليه، وطرقنا كل باب، لكن كل ذلك كان دون جدوى».

هيمنة

هيمن البحث عن والدها على كل حياتها. وأصبحت ناشطة تكافح من أجل إطلاق سراح جميع من لايزالون محتجزين في سورية، وتكافح من أجل عدم نسيان العائلات التي تعاني في بلادها. ومنذ اندلاع الثورة السورية في عام 2011، سيق أكثر من 150 ألف مدني إلى مراكز الاحتجاز، أو تعرضوا للتعذيب والقتل على يد الحكومة السورية، أو جماعات مسلحة أخرى في صراع شتت شمل ملايين العائلات.

تقول «وفاء»: «ما نمر به هو عبارة عن قصة مأساة جماعية في سورية، أشك في وجود عائلة واحدة لم يتعرض أحد أحبائها للاعتقال، أو الاختطاف، أو الإخفاء، سواء كان هذا الشخص مع أو ضد الثورة، لا يهمني ذلك، فأنا أدافع عن حرية الجميع». كان والدها منتقداً صريحاً للنظام ومؤيداً للثورة السورية، التي كانت تبدو، عندما اختفى عام 2013، وكأنها تمتلك الزخم للإطاحة بالنظام.

تقول: «كان والدي يعيش في حي يسيطر عليه النظام بشدة، ولكن كان يوجد فيه الكثير من الدعم للثورة، وحدث فيه العديد من الاعتقالات وعمليات الخطف من قبل القوات الحكومية»، وتواصل حديثها «اقتيد والدي مع صديقه المقرب، الذي قيل لعائلته إنه قُتل تحت التعذيب في مركز احتجاز حكومي».

تنحدر عائلة «وفاء» من مصياف، وهي مدينة متنوعة دينياً وسياسياً في شمال غرب سورية، على بعد ثلاث ساعات من دمشق. قبل اختفائه، كان (علي) قد تعرض بالفعل للاعتقال والاحتجاز والتعذيب، من قبل النظام، بسبب نشاطه في مجال حقوق الإنسان ومعتقداته السياسية.

مناضل بطبيعته

شغف «وفاء» بالسياسة والحرية لسورية شكل طفولتها. تقول عن والدها: «لقد كان حقاً بطلاً بالنسبة لنا، فعندما كان شاباً خرج للنضال من أجل القضية الفلسطينية، كان مناضلاً فلسطينياً من أجل الحرية، ملأ منزلنا بالموسيقى والسياسة والناس». خلال نشأتها في مصياف كانت «وفاء» تتحدث دائماً عن رغبتها في أن تصبح مراسلة حربية «كنت أعرف أن ذلك سيثير إعجاب والدي، كل ما أردته هو أن أكون مثله تماماً».

شجع (علي) بناته الثلاث على التفكير في مستقبلهن، على الرغم من أنهم يعيشون في ظل نظام يقيد حرية التعبير. تقول: «نشأنا في مجتمع يعتقد أن الجدران لها آذان، كان الجميع خائفين من ذلك، لكن لم يكن هناك شيء محظور في منزلنا، لم يخفِ أيّ من أمي أو أبي وجهات نظرهما السياسية عنا، لقد أرادا أن نكون أحراراً».

حولت الثورة «وفاء» الى ناشطة سياسية. كانت تخرج في الشوارع للاحتجاج كل يوم. كانت والدتها مرعوبة من ذلك، وتم القبض عليها وقضت أسابيع في سجن حكومي سوري، حيث تعرضت للضرب والاستجواب، وواصل والدها دعم مشاركتها في الانتفاضة.

ظلت والدتها تدعمها بالكامل، لكنها كانت خائفة أن يحدث لها ما حدث أثناء الاحتجاجات من اعتقال وتعذيب، بينما كان والدها يقول لها دائماً: «عليك أن تفعلي ما تعتقدين أنه صحيح». تقول: «أعتقد أن الأمر يتطلب نوعاً خاصاً من القوة لرؤية أطفالك يعرضون أنفسهم للخطر بسبب ما يؤمنون به، ولكن يجب أن يدعمهم الأب بكل قلبه».

بحلول عام 2013، مع تصاعد الصراع، لقيت إحدى أعز صديقاتها حتفها في قصف لقوات النظام على حي مدني، تقول عن ذلك: «كنت أحتج كل يوم لمدة عامين، تعرضت للطرد من المدرسة بسبب معتقداتي السياسية، وتعرضت للاعتقال والإرهاب. وبعد ذلك عندما فقدت أعز صديقاتي شعرت بخسارة كبيرة».

هروب إلى الداخل

انتقل علي مصطفى مع ابنته ليعيشا في دمشق، حيث أصبح بقاؤهما في مصياف يشكل خطراً عليهما. تقول: «ظل والدي بجانبي وكان يرعاني في ذلك الوقت المظلم حقاً، كنا مجرد أنا وهو، ومن دونه لم أكن لأفعل ذلك، لكنه رحل عني بعد بضعة أشهر».

في يوليو 2013، كانت والدة «وفاء»، التي أقامت مع ابنتها الصغرى في مصياف، في طريقها إلى دمشق لزيارة زوجها بعد شهور من سفره مع ابنته. «أمي وأبي كانت لديهما قصة حب ملحمية، لاتزال تحتفظ برسائله اليها، ولا تسمح لنا بقراءتها، كان من الصعب عليها أن تبتعد عنه، وعلى الرغم من أن السفر كان شديد الخطورة في ذلك الوقت، قررت أمي زيارة والدي، وكانت على بعد 15 دقيقة فقط من شقته عندما اتصلت به لتخبره بذلك، لكنه تعرض للاعتقال عندما وصلت إلى الشقة».

كان اعتقال والدها بمثابة نهاية حياتها في وطنها. تقول: «لم أفكر مطلقاً في أنني سأغادر وطني، اعتقدت أنني سأبقى دائماً وأقاتل من أجل سورية العادلة، لكن والدي ظل يوصينا دائماً: «إذا تم اعتقالي، يجب أن تأخذي والدتك وأختك وترحلان بعيداً، لأنهم سيأتون ليعتقلوكن أيضاً، وهذا ما فعلناه».

هروب إلى الخارج تحت جنح الظلام

خرجت «وفاء» ووالدتها وأختها الصغرى هرباً من البلاد عبر الحدود إلى تركيا تحت جنح الظلام، ولم يحملن سوى جوازات سفرهن، وعشن هناك لمدة ثلاث سنوات كلاجئات، وهي فترة تطلق عليها «وفاء» عبارة «أحلك الظروف». تقول: «لقد كنت مكتئبة ويائسة للغاية». كانت تشعر خلال اقامتها في تركيا وكأنها على شفير الحياة. شعرت بأن عليها البقاء في تركيا للاعتناء بوالدتها واختها. وبدأت تعمل مع فريق حملة نشطاء المجتمع المدني والإعلاميين من محافظة الرقة في حملة تحت شعار «الرقة تُذبح بصمت»، لتوثيق فظائع تنظيم «داعش» داخل سورية، حيث تناولت هذه الحملة انتهاكات حقوق الإنسان من قبل «داعش» والقوات الأخرى التي تحتل المدينة الشمالية السورية. إلا أن زملاءها تعرضوا للاغتيال واحداً تلو الآخر في تركيا على يد الجماعة الإرهابية. عملت لاحقاً في محطة إذاعية سورية ومراسلة صحافية.

شمل العائلة يتفرق

في عام 2016، حصلت «وفاء» على حق اللجوء في ألمانيا وسافرت الى هناك تاركة عائلتها في تركيا، وتفرق شمل الأسرة الصغيرة منذ ذلك الحين. والدتها وأختها الصغرى الآن في كندا، وأختها الأخرى في الولايات المتحدة. تقول: «الانفصال عن والدتي هو معاناة أخرى يصعب تحملها». ومنذ وصولها إلى برلين، استغرق البحث عن والدها جلّ حياتها اليومية. تقول: «لقد أصبحت أعيش هذه الأزمة الوجودية يومياً، أتحدث عنه طوال اليوم، وكل يوم، لكني لم أسمع صوته منذ ثماني سنوات، إنه أول شيء أفكر فيه في الصباح، يبدو لي كما لو أنه في كل مكان». وتسترسل «الاختفاء القسري والاختطاف والاحتجاز، كلها تكسر إرادة الناس الذين تخلفوا عن الركب، إنها شكل من أشكال السجن في حد ذاته، حيث تقضي حياتك معلقاً في الهواء، بلا حول ولا قوة ودون أي وسيلة للمضي قدماً». منذ عام 2016، خلال استكمال تعليمها والعمل كصحافية، عملت «وفاء» أيضاً مع «عائلات من أجل الحرية»، وهي مجموعة ناشطة تناضل من أجل إطلاق سراح ضحايا الاختفاء القسري.

«وفاء» تعرض قضيتها أمام الأمم المتحدة

أدى نشاط «وفاء» إلى مناقشة محنة عائلات المفقودين السوريين على أعلى المستويات السياسية والدبلوماسية. في يوليو 2020، طُلب منها إلقاء خطاب أمام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بشأن الاختفاء القسري، باعتباره جريمة حرب، حيث طالبت بالإفراج عمن لايزالون محتجزين في سورية. لقد كانت تجربة مثمرة لأن ممثل الأسد كان في الاجتماع نفسه في الأمم المتحدة. تقول: «اضطررت إلى البقاء أثناء حديثه، وبعد ذلك شعرت بأنني أرتجف، وفكرت: حسناً، إذا تمكنت من تجاوز ذلك، فأنا إذن قوية». وشهدت قضية الاعتقال التعسفي التي طرحتها في حملتها تغطية على نطاق واسع في وسائل الإعلام الدولية. في أبريل من العام الماضي، نظمت «وفاء» وقفة احتجاجية من «امرأة واحدة» خارج قاعة محكمة في كوبلنز، بألمانيا، حيث كان ضابطان سابقان في المخابرات العسكرية السورية - أنور رسلان وإياد الغريب - يُحاكمان في قضية رفيعة المستوى بشأن مزاعم التعذيب والقتل في المعتقلات بدمشق. جلست «وفاء» بمفردها بين 121 صورة لأشخاص مفقودين، بينهم صورة والدها، الذي اعتقل منذ بدء الانتفاضة السورية.

تقول: «شعرت بعبء ثقيل لأنني كنت وحيدة، أجلس هناك محاطة بكل تلك الصور لأشخاص لم أقابلهم من قبل. لكنني شعرت أيضاً بأنني قوية جداً لأنني أمثل كل تلك العائلات، لكي يعلم الجميع أنه لا يمكن إسكاتنا، ولن نستسلم حتى نجدهم».

رمز للمفقودين

أصبحت «وفاء» رمزاً للبحث عن المفقودين في سورية، وتتواصل معها باستمرار العائلات التي تبحث عن أحبائها. تقول إنها مسؤولية كبيرة، لكنها تتساءل باستمرار: «هل أدت حملتي إلى إطلاق سراح والدي؟ كلا، هل أدت إلى إطلاق سراح أيٍّ من المختفين؟ كلا. لكن إذا لم أصرخ بصوت عالٍ بقدر ما أستطيع لأروي للعالم ما حدث لـ150 ألف شخص، فإننا سننسى فقط. لن أدع ذلك يحدث، أستطيع أن أؤكد لهذه العوائل أن هناك من يقاتل من أجلهم».

وتقول إنه من غير المعقول أن تتوقف عن محاولة استكشاف ما حدث لوالدها. «لا يبدو لي الأمر وكأنني سأستيقظ يوماً ما وأنسى أن والدي اختفى أو أجد طريقة لأتقبل السلام مع حقيقة أن والدي مفقود، لا، سأظل أبحث عنه حتى أكتشف الحقيقة، حتى ولو استغرق ذلك منّي بقية حياتي».

وتكتشف «وفاء» أن جسدها قد تصلب وتآكل بسبب الإرهاق الذي تعيشه بسبب آلام غياب والدها يوماً بعد يوم.

الاختفاء القسري والاختطاف والاحتجاز، كلها تكسر إرادة الناس، إنها شكل من أشكال السجن في حد ذاته، حيث تقضي حياتك معلقاً في الهواء، بلا حول ولا قوة ودون أي وسيلة للمضي قدماً.

خرجت «وفاء» ووالدتها وأختها الصغرى هرباً من البلاد عبر الحدود إلى تركيا تحت جنح الظلام، ولم يحملن سوى جوازات سفرهن، وعشن هناك لمدة ثلاث سنوات كلاجئات، وهي فترة تطلق عليها «وفاء» عبارة «أحلك الظروف».

تويتر