لأنها تعرف مصالحها أكثر من الآخرين

دول الشرق الأوسط تحقق اختراقات دبلوماسية دون تدخّل الولايات المتحدة

صورة

من المبادئ الرئيسة لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن هو العودة إلى الدبلوماسية، كجزء من كيفية تقديم الولايات المتحدة نفسها بعد «الحروب غير المنتهية» في العراق، وأفغانستان. والعودة إلى اتفاق باريس للمناخ، وإعادة فتح المفاوضات حول مشاركة الولايات المتحدة في الاتفاق النووي الإيراني، وزيارة الحلفاء لإظهار مدى الاحترام لهم وقيمة التحالفات معهم، وكذلك لإعادة الثقة والدور المركزي لوزارة الخارجية الأميركية، وملء المناصب العليا التي ظلت لفترة طويلة شاغرة، وتعيين العديد من الدبلوماسيين المحترفين في العديد من الوظائف السياسية الرئيسة.

ولكن هناك الكثير من التحركات الدبلوماسية الجارية في مناطق أساسية من العالم، لا تعتبر فيها الولايات المتحدة لاعباً رئيساً أو حتى إنها غير موجودة فيها. فهل ذلك إشارة إلى تقلص القوة الأميركية؟

وثمة دول أخرى يمكن أن توجه اهتمامها في مناطق ترى فيها فراغاً في القيادة، أو أنها ربما تأخذ زمام المبادرة لعلمها أن مصالحها في صراع معين يختلف تماماً عن مصالح أميركا. فهل تحاول إدارة بايدن مخالفة التوجه الذي طرحته من خلال الرسالة التي بعثت بها إلى العالم ومفادها «إنا راجعون»؟

ولنأخذ الحالة الأخيرة، التي عملت فيها الدبلوماسية على وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة «حماس» في قطاع غزة. ووفق ما هو معروف قام المصريون بالتنسيق مع «حماس» وإسرائيل. واعترف الرئيس بايدن أن اتصالاته برئيس الحكومة الإسرائيلية السابق، بنيامين نتنياهو، كانت تهدف إلى دعم الجهود المصرية، ولم تكن مبادرة دبلوماسية تطرحها إدارته بالتوازي مع مصر. وشكر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي على دبلوماسيته الناجحة في اتصال معه في 25 يناير الماضي.

دور عراقي جديد

وثمة نتيجة مشابهة في المنطقة هي الحوار السعودي - الإيراني الذي عمل العراق وسيطاً فيه. وعلى الرغم من أن الحكومة العراقية قللت من أهمية مشاركتها، إلا أنه اتضح أن ضباط المخابرات العراقية وليس وزارة الخارجية الأميركية هم الذين يستحقون الثناء على هذا الاختراق بين إيران والسعودية. ومع ذلك فإن مثل هذه القناة بين الطرفين يمكن أن تمهد الطريق من أجل عملية دبلوماسية أكبر.

ويعتبر هذا تحولاً كبيراً بالنظر إلى أن العراق كان طرفاً جريحاً وضعيفاً لسنوات عدة بعد الغزو الأميركي عام 2003. والآن بدأ العراق يتعافى ويجد أن علاقاته الفريدة مع إيران تقدم له بعض النفوذ والصدقية لتسهيل تخفيف التوتر بين الرياض وطهران. وخلال فترة الحرب الأهلية السورية التي امتدت لزمن طويل، طرحت تركيا نفسها باعتبارها لاعباً دبلوماسياً بارزاً، ويرجع ذلك إلى حدودها الكبيرة مع سورية، إضافة إلى هواجسها الأمنية من إمكانية صعود الأكراد كلاعب سياسي مستقل.

الشريك التركي

وغالباً كانت جهود تركيا في تضاد مع مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، وأحياناً كانت تعمل كشريك تابع لموسكو. وفي حقيقة الأمر، عندما انضمت تركيا إلى عملية الأستانا في محاولة منها لإجراء عملية تفاوضية من أجل تسوية للصراع في سورية، كانت واشنطن ترى في ذلك أن أحد أعضاء حلف شمال الأطلسي «الناتو» يعمل مع موسكو وطهران. ويبدو أن ذلك نجح في تحقيق أهداف متناقضة، عملت الولايات المتحدة والأمم المتحدة لسنوات طويلة من أجل تنفيذها.

وثمة إشارة غير متوقعة حول قيام دول صغيرة بلعب أدوار دبلوماسية أكبر منها تمثلت في الجهود التي بذلتها أرتيريا لنزع فتيل التوتر بين السودان وإثيوبيا. وخلال عقود عدة، كانت أرتيريا ضحية لمخططات هيمنة إثيوبيا الأقوى منها، ولكن ذلك تغيّر لحاجة إثيوبيا إلى دعم أرتيريا في صراعها ضد أقلية التيغراي القوية.

واستغلت أرتيريا الفرصة لإظهار مدى براعتها في فرض التوازن مع جارتها الأقوى منها، وأثبتت أنها تستطيع أن تكون لاعباً ذا سيادة في العلاقات الإقليمية. وهذا لا يعني أن أرتيريا ستجسد المثل العليا في الحنكة السياسية، وإنما ستظهر أن الدبلوماسية هي سمة من سمات القوة الوطنية وآثارها، ولكنها منفصلة تماماً عن القوة العسكرية.

أميركا تراقب

وفي كل هذه الحالات، كانت الولايات المتحدة تراقب، وتدعم، ولكن لا تقود. وقد تكون الواقعية الجديدة الحذرة لمشروع الأمن القومي الأميركي مريحة بالنسبة لها، حيث تقوم الدول الإقليمية بأخذ زمام المبادرة في ما يتعلق بحل الصراعات التي تحدث في منطقتها. ومن الناحية النظرية، كان ذلك مرغوباً منذ زمن طويل، كما أنه ذُكر في العديد من الخطابات الرئاسية حول المسؤوليات المحلية. واعتقد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما يقيناً بأن حلول المشكلات الإقليمية تكون أفضل وأكثر ديمومة وشرعية إذا تمت من قبل الأشخاص المتأثرين بها بصورة مباشرة.

ولكن من الناحية العملية، لايزال العديد من الدول التي لديها مسؤولون دبلوماسيون أكفاء تفضل الانتظار للحصول على إشارة تفسر النوايا الأميركية، وهم يعتقدون أن عقد القمم الضخمة والمؤتمرات المحلية لا يمكن أن يحدث ببساطة دون المهارات التنظيمية الأميركية ونفوذها السياسي الكبير. ولا ينبغي للمرء الافتراض أن الدول الصغيرة مثل أريتريا جديدة في المجال الدبلوماسي.

تجارب غنية

وعلى العكس، فإن مصر، وتركيا، وإيران لديها تاريخ عظيم وإرث كبير كدول تمتلك دبلوماسيين مهرة، ونفوذاً كبيراً من أجل القيام بالوساطة، سواء في الأمم المتحدة، حيث كانت مصر في مواجهة مع الولايات المتحدة من أجل منطقة منزوعة السلاح النووي في الشرق الأوسط، على سبيل المثال، أو في تركيا عندما عمل الرئيس التركي تورغوت أوزال دون كلل أو ملل خلف الكواليس خلال الحرب العراقية الإيرانية بهدف التوصل الى وقفها. ولكن عرض هذه القصص إلى جانب مسار النفوذ الأميركي ورغبة العديد من الرؤساء الأميركيين المتعاقبين على تخفيض انخراط الولايات المتحدة في الشرق الأوسط يوحي بأن ثمة نموذجاً جديداً سيظهر.

وأما بالنسبة للذين يقبلون بمدرسة «ضبط النفس» في العلاقات الدولية، على افتراض أن إنهاء الهيمنة الأميركية في الشرق الأوسط هي أمر جيد بالنسبة للسلام والأمن المحليين، فإن هذه التوجهات تعتبر إيجابية وإشارة الى نضوج السياسة في المنطقة. وإذا تنحت الولايات المتحدة جانباً، ولم تفرض أجندتها على المنطقة، ربما تكون جميع الأطراف أكثر ميلاً نحو تقديم التنازلات، وإيجاد طريقة للعيش أكثر ديمومة للجميع.

إيلين ليبسون ■ نائب رئيس مجلس الأمن القومي الأميركي سابقاً

مصر، وتركيا، وإيران، لديها تاريخ عظيم وإرث كبير كدول تمتلك دبلوماسيين مهرة، ونفوذاً كبيراً من أجل القيام بالوساطة، سواء في الأمم المتحدة، حيث كانت مصر في مواجهة مع الولايات المتحدة من أجل منطقة منزوعة السلاح النووي في الشرق الأوسط، على سبيل المثال، أو في تركيا عندما عمل الرئيس التركي تورغوت أوزال دون كلل أو ملل خلف الكواليس خلال الحرب العراقية - الإيرانية بهدف التوصل الى وقفها.

• ثمة إشارة غير متوقعة حول قيام دول صغيرة بلعب أدوار دبلوماسية أكبر منها تمثلت في الجهود التي بذلتها أرتيريا لنزع فتيل التوتر بين السودان وإثيوبيا.

تويتر