رغم تعرّضه للانتقاد في مجالات عدة

«ناتو» حقق نجاحات متميزة عندما ركز على القضايا الإنسانية

صورة

صادف شهر أبريل الماضي عيد ميلاد حلف شمال الأطلسي (ناتو) السبعين، حيث أصدر بياناً يتحدث عن أهميته وأورد أربع نقاط: الأولى تتمثل في أن أي هجوم ضد أحد أعضاء الحلف يعتبر هجوماً على جميع الأعضاء، والثانية أن الحلف هو حلف دفاعي ورادع، والثالثة أنه يمثل توازناً ضد روسيا، والرابعة أن الناتو يحاول باستمرار تحسين قدرته الدفاعية الجماعية.

ولا يحتاج الأمر لمراقب ذكي كي يفهم أن النقاط الأربع تركز على «تهديد روسيا». وعلى الرغم من أن هذه الاستراتيجية ربما كانت فعالة خلال الحرب الباردة، إلا أنها تقلل الى أدنى حد من أهمية الحلف في الوقت الحالي، كما أنها تفتح الباب أمام انتقاده.

ضعف الالتزام

ويمكن ملاحظة ذلك من خلال التصريحات الأخيرة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي يعتقد أن الحلف أصبح في حالة «موت دماغي» ولا يمكن إنعاشه قبل مرور خمس سنوات. وإذا كان التزام الولايات المتحدة بهذا الحلف ضعيفاً، فإنه لن يكون قادراً على مواجهة العدوان الروسي، لأنه إذا لم تعمل دول الحلف على زيادة إنفاقها الدفاعي، فليس هناك أي داعٍ لانخراط الولايات المتحدة في مواجهة ضد قوة عظمى.

وفي أعقاب الحرب الباردة، تعرض الحلف لمرحلة انتقالية من وظيفة الدفاع الجماعي إلى أخرى تدمج عناصر الأمن الجماعي. وفي الإشارة إلى انعدام الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في وسط وشرق أوروبا، خلال الفترة التي بدأ فيها الاتحاد السوفييتي بالتفتت، حاول قادة الحلف استقطاب دول الاتحاد السوفييتي السابقة وجعلها شريكة، ومن ثم حليفة لمعالجة المشكلات الداخلية. وفي قمة روما عام 1991 اعتقد قادة الحلف وجود مجموعة جديدة من التهديدات «متعددة الوجوه من حيث الطبيعة ومتعددة الاتجاه، ما يجعل من الصعوبة بمكان توقعها أو تقييمها»، وقد انتهت تلك الأيام التي كانت تنطوي على تنافس مبهم بين قطبين. وبناء عليه فإن المناخ الجيوسياسي الجديد أجبر الناتو على إعادة التفكير في دوره.

وعلى الرغم من ذلك فإن الحلف ظل يتحدث عن مهمته كما كانت عليه الحال أيام الحرب الباردة، وهذا هو السبب في طرح موضوع مساهمة الدول الحليفة في تمويل الحلف. وفي الحقيقة فإن النظر إلى الحلف من زاوية تمويل الدفاع الضيقة يتطلب تبريراً لهذا التمويل، وهذا يعني أنه يتعين على الحلف أن يجد تهديداً يتنافس معه، وهذا التهديد يتمثل في روسيا.

وفي حقيقة الأمر فإن التركيز على روسيا شوه حقيقة فائدة الحلف، وكان الحديث حول تخصيص نسبة معينة من الناتج القومي لتمويل الحلف، والتي يتم اتخاذها كمعيار لتحديد قدرته على الردع، يعوق فهم مدى دور الحلف في حفظ الأمن على جانبي الأطلسي، ويحد من استخدام القادة نسبة الـ2% من الناتج القومي لتسليح الناتو. ويمكن مشاهدة هذه المشكلة طوال تاريخ السياسيين الاميركيين الذين ينتقدون حلف الناتو.

وخلال حديثه مع رئيس الاتحاد السوفييتي السابق جوزيف ستالين في مدينة يالطا في شبه جزيرة القرم، شرح الرئيس الأميركي في ذلك الوقت فرانكلين روزفلت بوضوح سياسة الولايات المتحدة بأنها تقتضي سحب العدد الأكبر من جنودها من أوروبا بعد فترة عامين، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة لن تقدم الأمن مجاناً، لكن وجهة نظر الرئيس دوايت أيزنهاور، تقضي بأن المجتمع الأمني الأوروبي يمكن أن يحل مكان قوات الولايات المتحدة.

وخلال نصف القرن التالي، ظل الرؤساء الأميركيين، بدءاً من ريتشارد نيكسون وصولاً الى جورج بوش الابن، ووزراء الخارجية من جيمس شلزنغر الى روبرت غيتس، يتحدثون بالإجماع عن أن أميركا تحمل على كاهلها تكاليف أمنية مبالغاً بها. وفي عام 1980 ألمح وزير الدفاع الأميركي هارولد براون، إلى أن الناتو يمكن أن ينفرط عقده إذا لم يتم توزيع تمويله على الدول المشاركة في الحلف بصورة عادلة.

إنفاق الحلف

وعلى الرغم من الحديث عن أن إنفاق الحلف يبدو معقولاً عندما يكون الحلف في مواجهة قوة عظمى، فإن التركيز على التمويل الآن يعتبر خطأ كبيراً، وحتى في زمن التوتر بين القوى العظمى فإن العالم عام 2019 يعمل بصورة مختلفة عما كانت عليه الحال خلال الحرب الباردة.

وأدى التركيز على روسيا والانفاق المالي للحلف إلى ظهور مشكلتين رئيستين: الأولى تتمثل في السلوك العدواني ضد روسياً، علما أنه تم اخيراً اكتشاف ضمانات غير رسمية قدمتها واشنطن لموسكو بعدم توسعة الحلف، وفي المقابل وافق الرئيس الأخير للاتحاد السوفييتي ميخائيل غورباتشوف على توحيد ألمانيا، معتقداً أن الحلف لن يتوسع، وأن روسيا ستشارك في أمن أوروبا، وأن الولايات المتحدة لن تترك الكثير من القوات التقليدية في أوروبا، ولكن عندما قررت الولايات المتحدة توسعة الحلف وركزت على تمويل الحلف، وإبعاد روسيا عن اتفاقيات الأمن في أوروبا؛ أصبحت موسكو معزولة وضعيفة بصورة متزايدة في منطقتها، ونتيجة لذلك فإن روسيا التي يحكمها الآن ضابط سابق في الـ«كي جي بي» ترى أن الحلف الذي يركز على التمويل عدواني وينبغي مواجهته.

تجاهل مناطق

والمشكلة الثانية في استراتيجية الناتو تكمن في أنه يتجاهل المناطق التي يحتمل تحقيق النجاح بها، فعلى سبيل المثال هناك دول في الحلف قررت أن تفي بتعهداتها بدفع 2% من إجمالي الناتج المحلي، لكنها تقوض المصالح الحقيقية للحلف، منها تركيا التي قررت الالتزام بـ2% لكن تشتري أسلحة من روسيا، الأمر الذي يقوض التشغيل العملياتي داخل الحلف، كما أنها تتعامل بالاتجار بالبشر، وهناك أستونيا التي التزمت بتعهد 2% لكنها في الوقت ذاته تحد من قدرة الناتو على القيام بأعمال جيدة، فمن المعروف في هذه الدولة أن النساء يحصلن على أجور أقل بـ25.2% من أجور الرجال بالنسبة للعمل ذاته، وأقل من 25% من الأشخاص المعاقين الموجودين في الدولة يمكنهم الحصول على وظائف، كما أن متطلبات اللغة في الدولة تمنع غير المواطنين والمهاجرين من الحصول على عمل. وعندما يتعلق الأمر بأهداف حلف الناتو للتشجيع على المساواة فإن دولاً مثل استونيا التي تنفق 2% على الحلف، تعمل على الحد من قدراته. أما المثال الأخير فإن من أهداف الناتو أمن الطاقة، ولكن العديد من الدول التي وافقت على التعهد بدفع 2% زادت أخيراً من نسبة تلوثها للجو، فالولايات المتحدة، واستونيا، وبولندا، وبلغاريا، وهولندا، جميعها زادت من إنفاقها العسكري أخيراً، لكن تصدر عنها انبعاثات غازية بنسب لكل فرد بحيث تزيد على انبعاثات الصين.

مراوغة

وراوغت دول الناتو الأكثر إنفاقاً في المجال العسكري، للتهرب من مسؤوليتها في المجالات الثلاثة التالية المتعلقة بتهريب البشر، وحقوق النساء والأقليات، وأمن الطاقة. وهو أمر محزن لأن الحلف شهد العديد من النجاحات في قضايا مثل الشراكة من أجل السلام، والإغاثة والمساعدة لضحايا الكوارث الطبيعية، وحرية التجارة. وبالنظر إلى أفعال روسيا في جورجيا وأوكرانيا، يمكن القول وبقوة إن الناتو حقق نجاحات كثيرة عندما ركز على القضايا الإنسانية أكثر من التركيز على الردع.

نحو تسويق استراتيجية جديدة

أدت استراتيجية حلف الناتو التي تضع في أولوياتها التوسع العدائي إلى ظهور مشكلتين رئيستين للحلف، تتمثلان في توازن القوى مع روسيا، وقلة التركيز على المشاريع الإنسانية والدبلوماسية. وينجم عن ذلك شعور زائف بالتعادل بين الانفاق العسكري والأمن، ونتيجة لذلك تنتشر الكراهية بين النخب الأميركية بصورة متواصلة. ونحن نحاجج بأنه عن طريق تقليل التركيز على نفقات الدفاع، وزيادة التركيز على المشاريع الإنسانية والدبلوماسية، فإن الناتو يمكن أن يدعم أمنه في مواجهة روسيا ويعزز أسباب وجوده. وثمة رأي يقول إنه إذا لم يركز حلف الناتو على الإنفاق العسكري، فإنه لن يكون هناك أي معنى اقتصادي أو أمنى بالنسبة للولايات المتحدة لمواصلة المشاركة في الحلف. ومن وجهة نظر اقتصادية، إذا اختارت دول الحلف ألا تدفع حصصها من المال، فلماذا يتعين على دافع الضرائب الأميركي التفكير في البقاء في هذا الحلف؟ وإضافة إلى ذلك، فإنه على الرغم من أن فائدة أي تهديد روسي وشيك يساعد النخب السياسية، إلا أنه يصرف الانتباه عن قضايا معاصرة وأقل إثارة للجدل، فالتهديد الروسي مسألة قابلة للنقاش حتى في الولايات المتحدة ذاتها، حيث وصفت روسيا باعتبارها قوة عظمى منافسة في استراتيجية الأمن القومي عام 2017، إلا أن 50% من المواطنين في هذا البلد يرون أن روسيا تشكل تهديداً كبيراً لأمن ومصالح الولايات المتحدة.

أعباء

تعد استراتيجية تخصيص 2% من إجمالي الناتج المحلي لكل دولة للإنفاق على تمويل حلف شمال الأطلسي (ناتو) استراتيجية ليس لها معنى مقنع. وتقدم الولايات المتحدة 22.14% من إجمالي ميزانية الدفاع الخاصة بالحلف لكنها تتحمل أيضاً 40% من الثقل الاقتصادي للحلف. وبناء عليه، وطالما أن الحصص متناسبة بين واشنطن والحجم الاقتصادي لحلف الناتو، فإن الولايات المتحدة تحمل في واقع الأمر وزناً بالنسبة لعملياتها المتعددة أقل مما يتحمله حلفاؤها الأوروبيون.

جوردان كوهين : أستاذ العلوم السياسية في جامعة ماسون الأميركية


- إذا كان التزام الولايات المتحدة بهذا الحلف ضعيفاً،

فإنه لن يكون قادراً على مواجهة العدوان الروسي،

لأنه إذا لم تعمل دول الحلف على زيادة إنفاقها

الدفاعي، فليس هناك أي داعٍ لانخراط الولايات

المتحدة في مواجهة ضد قوة عظمى.

- روسيا التي يحكمها الآن ضابط سابق في الـ«كي جي بي» ترى الحلف الذي يركز على التمويل أنه عدواني وينبغي مواجهته.

 

 

تويتر