الإجراء يضر بمصالح رجال أعمال وسكان محليين

حكومات في الشرق الأوسـط تتجه إلى قطع الإنترنت

صورة

تتجه بعض الحكومات في منطقة الشرق الأوسط إلى تقليص استخدام أو قطع الإنترنت، وحجب إمكانية الوصول إلى وسائل التواصل الاجتماعي، مثل «فيس بوك» و«إنستغرام» و«واتس آب»، على نحو ما فعلته كل من إيران، وتركيا، والعراق، وسورية، والسودان، والجزائر، والحكومة الحوثية الانقلابية في اليمن، في توقيتات زمنية مختلفة، ولأسباب متباينة، منها إخضاع المعارضة السياسية المنظمة، ومنع اتساع رقعة الاحتجاجات، وعرقلة حلقة اتصال المحتجين بالعالم الخارجي، وبلورة خسائر اقتصادية ضخمة تجعل قوى داخل المجتمع رافضة لحركات الاحتجاج.

وقد شهدت بعض السنوات مثل 2008 تعطلاً لحركة الإنترنت، نتيجة مشكلة أصابت بعض الكابلات البحرية الموصلة للإنترنت، وبصفة خاصة في منطقة البحر المتوسط، وهو ما أدى إلى توجيه حركة الإنترنت الدولية إلى مسارات بديلة باستخدام الأقمار الاصطناعية، وكوابل أخرى غير متضررة، لتفادي التباطؤ الشديد الناتج عن الخلل. غير أنه بعد مرور ما يقرب من ثلاث سنوات حدث قطع متعمد للإنترنت، بشكل متكرر، بحكم محورية دوره في التغيير الذي طال دولاً بعينها في الإقليم، خصوصاً في الدول التي تصنفها بعض المؤسسات الدولية «أعداء الإنترنت»، نظراً لفرضها رقابة واسعة النطاق عليه.

وفي هذا السياق، يمكن القول إن ثمة تفسيرات عديدة في الأدبيات بشأن توجه بعض حكومات الإقليم إلى قطع الإنترنت، سواء بشكل جزئي أو كلي، يمكن تناولها على النحو التالي:

1- إخضاع المعارضة السياسية

لجأت الحكومة التركية إلى خفض سرعة الإنترنت ثم قطعها بشكل كامل في نوفمبر 2016، بعد الانقلاب الفاشل بأشهر قليلة، وذلك في أعقاب اعتقال عدد من نواب البرلمان عن حزب الشعب الديمقراطي الكردي، وأصدرت تعليمات إلى شركات الإنترنت بمنع خدمات VPN التي يلجأ إليها مستخدمو الإنترنت للدخول إلى المواقع المحجوبة، وهو ما يأتي في سياق نهج الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لترسيخ حكم الرجل الواحد داخل البلاد، تمهيداً لبقائه في الحكم بعد التعديلات الدستورية حتى عام 2029.

2- منع اتساع رقعة الاحتجاجات الشعبية

تهدف بعض الحكومات من وراء قطع الإنترنت إلى منع زيادة رقعة الاحتجاجات التي تشهدها المدن والمحافظات داخلها، وتقويض الحملات الهادفة للحشد لموجة جديدة من الاحتجاجات، وتتذرع بحماية الأمن القومي، والحد من الأخبار المزيفة، لاسيما في ظل تحرك النشطاء إلى نشر رسائلهم في الداخل، وتسهيل تنظيمهم وسرعة الاتصال بينهم، وتبادل الأخبار، وطمأنة المشاركين في الاحتجاجات بأنهم ليسوا بمفردهم.

لذا، أعلنت الولايات المتحدة، على لسان المتحدثة باسم الخارجية الأميركية، مورغان أورتاغوس، في 17 نوفمبر 2019، إدانتها لمحاولة الحكومة الإيرانية الحد من إمكانية الوصول إلى الإنترنت، ولعل عبارتها «اتركوهم يتحدثون» بليغة في هذا السياق، وهو ما طالبت به مجموعة «نتبلوكس»، وهي من منظمات المجتمع المدني التي تتعامل مع الحقوق الرقمية والأمن السيبراني وإدارة الإنترنت، وتسعى إلى مستقبل رقمي مفتوح وشامل للجميع.

وعبَّر عن هاجس هذا التواصل تصريح وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الإيراني جواد آذري جهرمي، وفقاً لما نقلته وكالة الأنباء الإيرانية في 24 نوفمبر الفائت، حيث قال: «المسؤولية الحساسة المتمثلة بالحفاظ على أمن واستقرار البلاد، هي على عاتق المراجع الأمنية العليا، حيث اتخذ قرار تقييد الإنترنت للحفاظ على استقرار المجتمع، وتم إبلاغه للشركات المشغلة لخدمات الإنترنت، وإنني بصفتي وزيراً للاتصالات كنت أحمل هاجس توفير الإمكانية للجميع للتمتع بالإنترنت، والأعمال المعتمدة التي تجرى عبر الإنترنت، وأعتقد أن الحياة من دون الأجواء الافتراضية والشبكة العالمية غير ممكنة».

وأضاف: «بهدف تحقيق التبادل الحر للمعلومات والحيلولة دون حدوث خلل في أنشطة الصحافيين، فقد وفرنا إمكانية وصول عدد كبير منهم للإنترنت، كما أن معظم مكاتب وكالات الأنباء والمواقع الإخبارية والصحف قد وفرنا لها إمكانية الاتصال بالإنترنت. وفي مرحلة تالية، وبغية عدم حدوث خلل في الأعمال والحاجات الأولية للمواطنين، فقد تم اتخاذ خطوات كي تواصل البنوك أنشطتها كالمعتاد». غير أن إعادة الإنترنت احتاجت إلى قرار من مجلس الأمن القومي الإيراني، وهو ما قاله آذري جهرمي، الذي فرضت عليه الولايات المتحدة عقوبات في هذا الصدد.

3- عرقلة حلقة اتصال المحتجين بالعالم الخارجي

وذلك من أجل الحد من تدفق الصور والفيديوهات التي تتعلق بممارسة القمع ضد المتظاهرين المدنيين، والاعتقالات الجماعية للمتظاهرين، وتقييد الوصول إلى المعلومات، على نحو يؤدي إلى التعتيم على ما يحدث على الأرض، بل وإخماد تلك الاحتجاجات. فالحكومات تدرك أن هدف قوى الاحتجاج، في كثير من الأحيان، هو إبلاغ العالم الخارجي أن ثمة غضباً متزايداً في الداخل من إجراءات تلك الحكومات، وهو ما يفرض ممارسة ضغوط عليها.

وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن المحتجين يحاولون في دول الحراك الثوري الالتفاف على الحجب، حيث قاموا بتنزيل تطبيق VPN، في حين أقدم آخرون على استخدام وسائل اتصال بالأقمار الاصطناعية، رغم كلفتها المرتفعة من أجل التواصل مع العالم الخارجي، وهو ما فعلته قوى الاحتجاج في تظاهرات العراق الأخيرة.

كما تم قطع الإنترنت في السودان في يونيو 2019، بعد نجاح صفحة «تجمع المهنيين» التي تم إنشاؤها على «فيس بوك» في زيادة أعداد المشاركين باعتصام القيادة العامة، على نحو قاد إلى إسقاط الرئيس السابق عمر البشير، وهو ما أبدى المجلس العسكري الانتقالي حذراً تجاهه، خصوصاً في ما يتعلق بإمكانية تكراره معه بعد زيادة العنف في مواجهة قوى الاحتجاج. وهنا قال «تجمع المهنيين» في تغريدة عبر «تويتر» في الثالث يونيو 2019: «حال انقطاع خدمات الإنترنت وشبكات الاتصال بالسودان ندعو جميع الثائرات والثوار الشرفاء إلى مواصلة العمل الثوري، وفق ما صدر مسبقاً من مواجهات، ويشمل التظاهر وتسيير المواكب، وقطع الطرقات، وشل الحركة بصورة عامة في العاصمة وكل مدن وقرى السودان».

ولم يعد الأمر قاصراً على الحكومات، بل بدأت الميليشيات المسلحة المستحوذة على السلطة في بعض الدول في التهديد بتقليص استخدام الإنترنت، حيث هاجم وزير الاتصالات وتقنية المعلومات في الحكومة الحوثية الانقلابية، مسفر النمير، في تصريحات له على مواقع التواصل الاجتماعي في أول ديسمبر 2019 مستخدمي الإنترنت في اليمن، وقال إنهم «يستهلكون أكثر من اللازم، بخلاف المستهلكين في بقية دول العالم»، التي زعم أنه «زارها ووجد السكان يستخدمون الإنترنت فقط لرسائل الإيميل». وقد اعتبر ذلك توجهاً من الحوثيين لعزل الشعب عن العالم الخارجي.

4- بلورة خسائر اقتصادية ضخمة

على نحو يجعل قوى داخل المجتمع رافضة لحركات الاحتجاج، وهو ما يشير إليه إحداث ضرر للآلاف من أصحاب المشروعات الناشئة، كما جرى في العراق، إذ طالت الخسائر تطبيقات شركات التاكسي التي تعمل بالإنترنت حصرياً. وطال الحظر أيضاً مكاتب السياحة والسفر التي توقفت خدماتها بشكل شبه تام، لذا، فإن معظم شركات السياحة في عدد من المحافظات العراقية قللت رواتب موظفيها، كما تم التعاقد مع شركات في أربيل، كبرى مدن إقليم كردستان العراق الذي لم يطله الحجب لارتباطه بالإنترنت من خلال نظام مختلف، غير أن هذا الخيار لم يحقق أرباحاً للشركات، حيث يخدم فقط الاستمرارية في سوق العمل والحفاظ على العملاء.

وفي هذا السياق، اعتذر وزير الاتصالات الإيراني، آذري جهرمي، عن انقطاع الإنترنت عن المدن الإيرانية خلال التظاهرات التي شهدتها البلاد احتجاجاً على رفع أسعار الوقود، حيث قال: «قطع شبكة الإنترنت العالمية قد خلق الكثير من المشكلات في حياة المواطنين، وإنني مطلع على ذلك من خلال الاتصالات التي تلقيناها. هناك مواطنون لم يكونوا على علم بأعزائهم في إيران، وطلبة وأساتذة جامعيون حرموا من الوصول إلى المصادر العلمية العالمية. كما أن بعض شركات الاستيراد والتصدير لحقت بها أضرار مادية خلال تلك الفترة». كما حدث ضرر من انقطاع الإنترنت في السودان، قدره البنك الدولي بنحو 45 مليون دولار في اليوم الواحد، بل تشير تقديرات أخرى إلى تجاوز خسائر الشركات والأفراد في السودان، الذين ترتبط أعمالهم بالإنترنت، حاجز 750 مليون دولار.

5- تفادي ممارسة الغش في فترات الامتحانات الدراسية

وهو ما لجأت إليه الجزائر والعراق في العامين الأخيرين. فعلى سبيل المثال، قطعت الحكومة الجزائرية في عام 2018 الإنترنت عبر الهاتف الثابت أو المحمول، ساعة قبل امتحانات (البكالوريا) الثانوية العامة في الصباح والظهيرة، لضمان سير الامتحانات، بحيث يخضع الطلبة في مدخل كل مركز امتحان للتفتيش الدقيق بجهاز الكشف عن المعادن، كما وضعت أجهزة تشويش وكاميرات مراقبة في مراكز طبع الأسئلة.

فقد شهدت دورة 2016 عملية غش واسعة النطاق عبر مواقع التواصل الاجتماعي قبل أو في بداية كل امتحان، ما سمح للمتأخرين بالاستفادة من ذلك، الأمر الذي أسهم في زيادة السخط الاجتماعي ضد الحكومة خلال الشهور الأخيرة من حكم الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة. وتكرر ذلك في العراق عام 2019، بحيث حددت وزارة الاتصالات قطع الإنترنت خلال إجراء امتحانات الثانوية بساعتين فقط، ثم تلجأ الحكومات لذلك القطع الجزئي تخوفاً من محاولات إضعاف شرعيتها، سواء بطريقة مقصودة أو غير مقصودة.

زوايا أخرى

بخلاف ذلك، ظهر تأثير الإنترنت في تفاعلات الإقليم من زوايا أخرى. فقد تظاهر اللبنانيون في النصف الثاني من أكتوبر 2019، بعد إقرار الحكومة رسوماً مالية على الاتصالات المجانية عبر تطبيقات الهاتف، وتوجهها لفرض ضرائب أخرى بهدف توفير إيرادات جديدة لخزينة الدولة في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تواجهها، مع الأخذ في الحسبان أن كلفة الاتصالات في لبنان تعد من الأعلى في المنطقة، وقد ارتفعت مطالب المحتجين من إسقاط الضرائب إلى إسقاط النظام.


جيل الإنترنت

يمكن القول إن الإنترنت صارت سلاحاً لقوى الاحتجاج والتغيير في دول الإقليم، باعتبارها مُروِّجاً أو مُوثِّقاً لما يحدث، لاسيما في ظل سياق إقليمي متزامن لتلك الاحتجاجات، على نحو ما هو قائم في كل من إيران ولبنان والعراق، وهو عابر لحدود الطائفية. غير أن بعض مواقع الشبكات الاجتماعية ليست حكراً على المحتجين، بل قد تُسهِّل على الحكومات تعقب اتجاهات الناشطين وخططهم، وتستطيع الأخيرة التدخل في تلك المواقع بمحاولة تحويل اتجاهات المناقشات، بدفع أشخاص لكتابة تعليقات داعمة لها وناقدة لقوى الاحتجاج. ومع ذلك، لا يمكن إسكات الإنترنت في الشرق الأوسط، لدرجة أن هناك بعض الحكومات تقطعها جزئياً ولساعات محددة، لمنع الغش في مواسم الامتحانات، فثمة جيل جديد في الشرق الأوسط يتشكل منذ سنوات، يمكن أن نطلق عليه «جيل الإنترنت»، في عصر لم تعد فيه الحكومات محتكرة للإعلام.

تهدف بعض الحكومات من وراء قطع الإنترنت إلى منع زيادة رقعة الاحتجاجات التي تشهدها المدن والمحافظات داخلها، وتقويض الحملات الهادفة للحشد لموجة جديدة من الاحتجاجات، وتتذرع بحماية الأمن القومي، والحد من الأخبار المزيفة، لاسيما في ظل تحرك النشطاء إلى نشر رسائلهم في الداخل، وتسهيل تنظيمهم وسرعة الاتصال بينهم، وتبادل الأخبار، وطمأنة المشاركين في الاحتجاجات بأنهم ليسوا بمفردهم.

طالت الخسائر جراء قطع الإنترنت تطبيقات شركات التاكسي التي تعمل بالإنترنت حصرياً. وطال الحظر أيضاً مكاتب السياحة والسفر التي توقفت خدماتها بشكل شبه تام. لذا، فإن معظم شركات السياحة في عدد من المحافظات العراقية قللت رواتب موظفيها.

تويتر