تسهم في زيادة هشاشة الدول ومشكلات الأمن بالعديد من المناطق

التغيرات المناخية تشعل قضايا الصراع في العالم

التغيرات المناخية تؤثر بلا شك على الموارد الأساسية، ولا سيما الغذاء والماء. أرشيفية

لقد أصبحت قضية التغيرات المناخية وتبعاتها، هي الشغل الشاغل للعديد من وسائل الإعلام ومراكز الفكر والحكومات ومنظمات المجتمع المدني، خلال الفترة الماضية، وجاء هذا الاهتمام المتصاعد تزامناً مع انعقاد قمة الأمم المتحدة للعمل من أجل المناخ لعام 2019، في 23 سبتمبر الماضي بنيويورك، والتي جاءت في ظل تظاهرات حاشدة بمختلف أنحاء العالم للمطالبة بإجراءات عاجلة لحماية المناخ، حيث تنعقد القمة في توقيت حرج قبل الموعد النهائي الذي تم وضعه للموقّعين على اتفاقية باريس لتعزيز التزاماتهم الوطنية بتقليص انبعاثات الغازات الدفيئة بحلول عام 2020.

والحقيقة أن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، عندما دعا قادة العالم كافة للقدوم إلى نيويورك، طالبهم بالقدوم ومعهم خطط ملموسة وواقعية لتعزيز إسهاماتهم الوطنية، التي تهدف إلى خفض انبعاث الغازات بنسبة 45%، بحلول عام 2020، وإلى انعدام الانبعاثات بحلول عام 2050.

وقد صدر، خلال الفترة القليلة الماضية، العديد من الدراسات والتحليلات التي تتناول مختلف التأثيرات والمخاطر المباشرة وغير المباشرة، المترتبة على التغيرات المناخية، والتي حاولت مساعدة متخذي القرار ودعمهم بمختلف الرؤى والتوصيات، كما مثل العديد منها ناقوس خطر يطالب بضرورة التحرك بوتيرة أسرع، للحد من التداعيات السلبية للتغيرات المناخية.

فعلى سبيل المثال، خصصت مجلة «تايم» عدداً كاملاً من أعدادها لقضية التغيرات المناخية. والحقيقة أن هذه واحدة من خمس مرات فقط بادرت فيها المجلة بتكريس عددها كاملاً حول موضوع واحد، وأوضح محررو المجلة أن مخاطر تغير المناخ على الكوكب هي «أهم قضية في العالم». بينما شهدت القضية زخماً إعلامياً وسياسياً غير مسبوق، ينوه ببدايات تحرك ملموس حيالها، خلال الفترة المقبلة، بينما قامت العديد من الدول المتقدمة والنامية باتخاذ مبادرات عدة في هذا الصدد.

والحقيقة أن التغيرات المناخية وتأثيراتها الراهنة والمستقبلية كانت حاضرة طوال السنوات الماضية؛ إلا أن حضورها أصبح قوياً للغاية في الوقت الراهن بعد تحولها من كونها واحداً من التهديدات المستقبلية التي قد تواجه البشرية إلى قضية مصيرية تستدعي التحرك الفوري والعاجل، وعلى الرغم من زخم الطرح الخاص بالتداعيات السلبية للتغيرات المناخية، والعديد من الرؤى المهمة في هذا الصدد؛ فإن هناك العديد من المناطق التي لم يتم تناولها بالدراسة الكافية، وعلى رأسها انعكاسات التغيرات المناخية على الأمن العالمي، ومدى إسهامها في خلق وتأجيج بؤر للصراع في المستقبل.

وعلى الرغم من أن هناك دراسات عدة، تناولت العلاقة بين التغيرات المناخية، وتصاعد النزاعات بين الدول، وزيادة الوعي بالعلاقة بين التغير المناخي والأمن، والذي دفع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع، وعدداً متزايداً من الدول، نحو تصنيف تغير المناخ على أنه تهديد للأمن العالمي والوطني؛ فإن التحليلات والدراسات التي أُجريت في هذا الصدد تفتقر إلى الرؤية الشمولية والطرح المنهجي الذي يضع مؤشرات واضحة وملموسة لتأثيرات التغيرات المناخية في الأمن ومستقبل الصراعات بالعالم.

التغيرات المناخية والصراعات

إن ما نشهده اليوم من تغيرات مناخية يؤثر، بلاشك، في الموارد الأساسية، لاسيما الغذاء والماء، وتسهم هذه التأثيرات في زيادة هشاشة الدول ومشكلات الأمن في العديد من المناطق حول العالم، وغالباً يتم تناول العلاقة بين التغيرات المناخية والصراع من خلال الربط بين التغيرات المناخية وندرة الموارد، وما قد يترتب على هذه الندرة من تداعيات وانعكاسات، وقد أجملت الرؤى والتحليلات التي تناولت انعكاسات التغيرات المناخية على الصراع في ثلاثة اتجاهات رئيسة، تشمل:

1 العنف الداخلي والصراعات الأهلية:

إن تأثير التغير المناخي في الموارد الطبيعية، مقترناً بالضغط الديموغرافي والاقتصادي والسياسي، يسهم في تقويض قدرة الدول على تلبية احتياجات مواطنيها وتزويدهم بالموارد الأساسية مثل الغذاء والمياه والطاقة، وغيرها، ما يؤدي بدوره إلى هشاشة الدول وتصاعد الصراعات الداخلية التي قد تمتد إلى التسبب في انهيارها، ومن هنا قد يمثل التغير المناخي تحدياً خطيراً لاستقرار الدول وشرعية الحكومات. ووفقاً لـ«روبرت ماكلمان»، من جامعة ويلفريد لورير الكندية، فإن «الدول التي تعاني بالفعل هشاشة سياسية هي أهم مراكز المستقبل المحتملة للعنف المرتبط بالمناخ وأحداث الهجرة القسرية». وتبدو المخاطر أعلى في منطقة الشرق الأوسط، فمن بين الدول الـ20 الأعلى تصنيفاً على مؤشر الدول الهشة، نجد 12 دولة في الشرق الأوسط وجنوب آسيا وإفريقيا.

وحول تأثير التغيرات المناخية في استقرار الدول، أشارت دراسة شاملة كانت هي الأولى من نوعها، أجراها مجموعة من الباحثين عام ٢٠٠٩، حول العلاقة بين الاحترار ومخاطر الصراعات الأهلية في إفريقيا، إلى وجود علاقات تاريخية قوية بين تصاعد الحروب الأهلية والاحترار في إفريقيا، فقد شهدت السنوات التي تشهد معدلات عالية من الاحترار زيادات كبيرة في احتمال نشوب الحروب، وأشارت الدراسة إلى أنه عندما يقترن ذلك بالتنبؤات التي تم حسابها استناداً إلى «نموذج المناخ» لاتجاهات درجات الحرارة في المستقبل، تشير هذه الاستجابة التاريخية لدرجة الحرارة إلى ارتفاع بنسبة ٥٤٪ تقريباً في حالات الصراع المسلح بحلول عام ٢٠٣٠، أو ٣٩٣ ألف حالة وفاة إضافية في الحروب المستقبلية.

2 خلق بيئات حاضنة للإرهاب:

غالباً تؤدي تأثيرات الاحترار العالمي إلى تغييرات جيوسياسية، تبدو تأثيراتها بوضوح في حال حدوثها بالمناطق الهشة مثل القرن الإفريقي على سبيل المثال، فوفقاً لما تم طرحه من تأثير للتغيرات المناخية في الموارد الطبيعية، وما قد تتسبب فيه من تقويض لقدرة الأمم على حكم نفسها، وزيادة فرص النزاعات؛ فإن النتيجة المحتملة هنا هي تحول هذه المناطق إلى بيئة خصبة للإرهاب، خصوصاً في ظل حالة انعدام الاستقرار وتصاعد معدلات الفقر.

وقد أشارت دراسة صادرة عن مؤسسة «دبلوماسية المناخ»، في أكتوبر ٢٠١٦، إلى عمق الدور المحدد الذي تلعبه الفواعل من غير الدول في الديناميات المعقدة لتغير المناخ، وحاولت تحديد كيف يعمل تغير المناخ كمضاعِفٍ للمخاطر في ما يتعلق بنمو ونفوذ هذه الجماعات. وأشارت إلى أنه يمكن للمخاطر المعقدة الناشئة عن تغير المناخ والهشاشة والصراع، أن تسهم في ظهور ونمو التنظيمات الإرهابية، وتوصلت الدراسة إلى أن المناخ يسهم في نمو وصعود الجماعات المسلحة، على النحو التالي:

- يسهم تغير المناخ في زيادة هشاشة الدول، وهو ما تعززه النزاعات المحيطة بالموارد الطبيعية وانعدام الأمن في الحصول على سبل العيش، وفي هذا السياق تتكاثر التنظيمات الإرهابية، وتسهل لها ممارسة نفوذها في ظل البيئات الهشة والمتأثرة بالصراع، حيث لا يصبح للدولة نفوذ وتفتقر إلى الشرعية، وفي بعض الأحيان تحاول التنظيمات الإرهابية سد الفجوة التي خلفتها الدولة، من خلال توفير الخدمات الأساسية من أجل الحصول على الشرعية وتأمين الثقة والدعم بين السكان المحليين.

- لتغير المناخ آثار سلبية متزايدة في سبل العيش بالعديد من البلدان والمناطق، على سبيل المثال مع انعدام الأمن الغذائي أو ندرة المياه والأراضي، يصبح السكان أكثر عرضة ليس فقط للتأثيرات المناخية السلبية، ولكن أيضاً للتجنيد من قبل التنظيمات الإرهابية التي يمكن أن توفر سبل عيش بديلة وحوافز اقتصادية، وتستجيب للمظالم السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

ومن هنا، ليست هناك صلة مباشرة بين تغير المناخ والعنف والصراع المرتبطين بالتنظيمات الإرهابية أو الفاعلين من غير الدول، بل إن التغير البيئي والمناخي الواسع النطاق قد يسهم في خلق بيئة يمكن أن تزدهر فيها التنظيمات المسلحة، وتفتح المجال لها أمام مزيدٍ من التمكن والنفوذ. وعلى سبيل المثال: فَتَحَ تزايدُ معدلات ندرة المياه الناجم عن التغيرات المناخية المجالَ أمام استغلالها كسلاحٍ لدى التنظيمات الإرهابية في الصومال، فقد كشفت دراسة حديثة أجراها «ماركوس كينغ»، عام ٢٠١٧ بجامعة جورج واشنطن، عن وضوح العلاقة بين المناخ والصراع وتسليح المياه، فنتيجة لما تعرضت له الصومال من جفاف مرتبط بتغير المناخ، قام تنظيم «شباب المجاهدين» بتغيير تكتيكاته القتالية، التي كانت تعتمد على حروب العصابات، واتجه نحو محاولة عزل المدن المحررة عن مصادر المياه الخاصة بها.

3 تزايد مخاطر النزاعات المسلحة:

استناداً إلى ما سبق من طرحٍ، فإن هناك اتفاقاً حول انعكاسات التغيرات المناخية على مستقبل الصراعات في العالم؛ والاختلاف حول حجم هذا التأثير، وقد أشارت دراسة منشورة بمجلة «نايتشر» في 12 يونيو 2019، إلى أنه مع ارتفاع درجات الحرارة العالمية، من المتوقع أن يزداد خطر النزاع المسلح زيادةً كبيرةً، حيث توصلت الدراسة إلى أن المناخ قد أثّر في ما بين 3 و20% من النزاعات المسلحة خلال القرن الماضي، ومن المرجّح أن يزداد التأثير بشكل كبير في المستقبل، وطرحت الدراسة عدداً من السيناريوهات المستقبلية حول تداعيات التغيرات المناخية على مستقبل الصراع، مشيرة إلى أنه في حال حدوث سيناريو أربع درجات مئوية من الاحترار (وهو تقريباً المسار الذي نسير عليه حالياً إذا لم تخفض المجتمعات بشكل كبير انبعاثات غازات الاحتباس الحراري)، فإن تأثير المناخ في النزاعات سيزيد أكثر من خمسة أضعاف. وحتى في السيناريو الذي يبلغ فيه الاحترار درجتين مئويتين (الهدف المعلن لاتفاق باريس للمناخ)، فإن تأثير المناخ في النزاعات سيزيد بأكثر من الضعف.

وفي النهاية، لم يصل الباحثون - حتى الآن - إلى فهم شامل لتأثير التغيرات المناخية في الصراع، وظروف وملابسات هذا التأثير، خصوصاً مع وجود احتمالات تغير طبيعة وشدة تلك التأثيرات المناخية في المستقبل، مقارنة بالاضطرابات المناخية التاريخية، ومن هنا ستضطر المجتمعات إلى مواجهة ظروف غير مسبوقة، تتجاوز الخبرة المعروفة وما قد تكون قادرة على التكيف معه، وهو ما قد يُعظّم مخاطر التأثير في المستقبل، ويفرض التزامات على مراكز الفكر ومتخذي القرار حيال وضع رؤية مستقبلية قائمة على خطط وتحركات فورية للحد من التداعيات السلبية للتغيرات المناخية وانعكاساتها على الأمن العالمي.

رؤى مختلفة

لا يتفق الخبراء - في الأغلب - على رؤية حاسمة حول العلاقة بين التغيرات المناخية والصراع، وراوحت الرؤى المطروحة بين التهويل والتهوين. ففي الوقت الذي اتجهت فيه دراسات عدة إلى الربط المباشر بين التغيرات المناخية والصراع؛ اتجهت دراسات أخرى إلى نفي وجود علاقة مباشرة، مستندةً في ذلك إلى أن الصراعات غالباً تكون محصلة للعديد من العوامل المهيئة الأكثر أهمية وحسماً في تعزيز وجودها أحياناً وخلقها في أحيانٍ أخرى، ومع ذلك فإن العلاقات بين تغير المناخ والصراع والهشاشة ليست علاقات بسيطة وخطية، والآثار المتزايدة لتغير المناخ لا تؤدي تلقائيّاً إلى مزيدٍ من الهشاشة والصراع، بل يمكن القول إن تغير المناخ يُضاعف التهديد، أي أن التغيرات المناخية عندما تتفاعل وتتلاقى مع المخاطر والضغوط الأخرى الموجودة في سياق معين، يمكن أن تزيد احتمالات الهشاشة أو الصراع العنيف.

وبالتالي فقد يتمثل الطرح الملائم هنا في رؤية أكثر اعتدالاً، تنظر إلى العلاقة بين التغيرات المناخية والصراع بوصفها علاقة ارتباط، وليست علاقة سببية، وعلى الرغم من تباين وجهات النظر بين الباحثين حول مدى قوة العلاقة؛ فإن هناك اتفاقاً عاماً على وجود علاقة (على أدنى تقدير) غير مباشرة بين التغيرات المناخية والصراع، وإن هذا التأثير يتصاعد ويبدو أكثر وضوحاً في حال توافر عوامل أخرى مهيِّئة مثل الفقر، وانخفاض معدلات التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وقد أشارت التحليلات التي تناولت تأثيرات التغيرات المناخية إلى أنه - على سبيل المثال - مع التراجع المحتمل في معدل الإنتاج الغذائي العالمي، والارتفاع الكبير في مستوى سطح البحر، فإن تغير المناخ سيزيد عدم الاستقرار في المناطق المضطربة، وبالتالي فإن دراسة التأثيرات الأمنية للتغيرات المناخية تعد واحداً من المحاور الأساسية اللازمة لوضع رؤية وتحرك فاعل حيال القضية.

وتُشير «كاثرين ماش» (مدير إدارة البيئة بمركز ستانفورد) إلى أن «تقدير دور تغير المناخ وتأثيراته الأمنية أمر مهم، ليس فقط لفهم التكاليف الاجتماعية لاستمرار انبعاثات الغازات الحرارية لدينا، لكن من أجل تحديد أولويات الاستجابات، التي قد تشمل تقديم المساعدات، وتعزيز التعاون».


- 54 ٪

نسبة ارتفاع درجات

الحرارة في حالات

الصراع المسلح، بحلول

عام 2030 .

- الدول التي تعاني بالفعل هشاشة سياسية، هي أهم مراكز المستقبل المحتملة للعنف المرتبط بالمناخ وأحداث الهجرة القسرية.

تويتر