مخلَّفات الحرب كنز للبعض

«تجارة الخردة» تعكس اقتصادات الصراعات المسلحة العربية

صورة

تشير تجارة الخردة - الناتجة عن حطام السيارات وقطع الطائرات المفخخة، والدبابات المتهالكة، والقذائف الفارغة، والأسلحة المخربة، والكابلات الكهربائية المدمرة، والأدوات النحاسية التالفة، والأواني المنزلية القديمة، والبراميل المعدنية، والأنابيب النفطية - في بؤر الصراعات المسلحة بسورية والعراق واليمن وليبيا، إلى تبلور اقتصادات متكاملة، تمر بمراحل مختلفة من نقل مخلفات الحرب في المناطق المدمرة إلى مراكز التجميع، ثم إلى مصانع التذويب.

ويقوم بالسيطرة على تلك التجارة، وتوفير خطوط الإمداد والتموين لها ضباط في الجيوش النظامية، وجماعات في الميليشيات النافذة. وقد عكست هذه التجارة تصاعد التنافس بين رجال الأعمال الداعمين للنظم القائمة على إعادة تصنيع الخردة، في من يطلق عليهم «أمراء الحرب»، وانتعاش تجارة التهريب عبر الحدود الرخوة، وتعزيز قوة وسطوة الميليشيات المسلحة، ومواجهة تدهور الأوضاع الاقتصادية الداخلية، وإعادة إعمار تدريجية للمدن المنهارة.

وقد أفرزت الموجة الراهنة، من الصراعات المسلحة العربية، تشكّل ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح اقتصادات ظل، تعمل في تجارة «مخلفات الحرب»، لاسيما بعد انهيار البنى التحتية، خصوصاً قطاع الكهرباء، فضلاً عن وجود بقايا للأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة، وهو ما يتزامن مع ضعف أو غياب الرقابة الأمنية وقوة الفصائل المسلحة، على نحو ما توضحه النقاط التالية:

1- تصاعد التنافس بين رجال الأعمال الموالين

مثلما برز بين المقربين من الحكومة السورية، الذين تسابقوا على عملية شراء وإعادة تصنيع الحديد الخردة، الذي يتم تجميعه من المناطق التي نجح الحكومة في استعادة السيطرة عليها من فصائل المعارضة المسلحة وتنظيم «داعش» و«جبهة النصرة»، بعد معارك عنيفة، على نحو قاد إلى التدمير الكامل أو شبه الكامل للكثير من تلك المناطق، مثلما حدث في أحياء حلب وحمص، ومخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في جنوب دمشق، حيث يشرف كل ضابط على قطاعات بعينها، وينفذ عناصر الجيش أوامر الضابط المسؤول عن القطاع.

ويمثل ذلك التوجه امتداداً لما يعرف في وسائل الإعلام العربية بـ«التعفيش»، أى سرقة الأثاث، التي ظهرت خلال سنوات الحرب الثماني، لاسيما بعد قيام عناصر من الجيش السوري والميليشيات التابعة له، بعمليات نهب منظمة لأثاث المنازل التي تتم السيطرة عليها من جديد في عدد من القرى والبلدات، فضلاً عن تجميع أبواب ونوافذ الألمنيوم، وأسلاك النحاس وكذلك قضبان الحديد التي يتم استخراجها من الأسقف المدمرة والأبنية المنهارة، وتحميلها على شاحنات بعد وزنها وترحيلها من المنطقة، لصهر الحديد وتصنيعه لإعادة استخدامه.

ويشير الكثير من المصادر الإعلامية إلى أن عمليات بيع الحديد الخردة تتم لصالح شركة «حمشو الدولية»، بشكل حصري، وترافق عملية نقل الحديد سيارات تأمين من قوات الجيش وأجهزة الأمن، إلى جانب مشرفين على عمليات الوزن والتحميل، وإيصال تلك الشاحنات إلى معمل الحديد الخاص بتلك الشركة في منطقة عدرا الصناعية بريف دمشق الشمالي، لتتم إعادة التصنيع من جديد، على نحو يسهم في تحقيق أرباح طائلة للأفراد الداعمين للحكومة. فقد ارتفع سعر طن الحديد، الذي يستخدم في البناء، حسب بعض التقارير، من 45 ألف ليرة عام 2010، إلى 340 ألفاً عام 2019.

ويمكن تفسير ارتفاع سعر الحديد، في ضوء توقف العديد من مصانع الحديد في سورية، خلال سنوات الحرب الثماني، بعد تضررها بشكل كبير، وارتفاع سعر صرف الدولار أمام الليرة، فضلاً عن العقوبات الاقتصادية التي تفرضها شركات غربية وعربية على الحكومة السورية. وفي هذا السياق، يبرز اسم محمد حمشو، أمين سر غرفة تجارة دمشق وأمين سر اتحاد غرف التجارة السورية، وعضو مجلس الشعب الذي تعرض لعقوبات أميركية وأوروبية، والذي أصدر رئيس الوزراء السوري السابق، وائل الحلقي، في ديسمبر 2015، قراراً بإنشاء المجلس السوري للمعادن والصلب برئاسته.

2- انتعاش تجارة التهريب عبر الحدود الرخوة

على نحو ما تعكسه، على سبيل المثال، بلدة عرسال البقاعية على الحدود اللبنانية - السورية، حيث ترتبط البلدة مع منطقة القلمون بريف دمشق بشبكة من الطرق الجبلية الوعرة، الأمر الذي سهل عمليات التجارة غير الشرعية لمختلف أنواع البضائع، منها أصناف عدة من المعادن كالنحاس والألمنيوم والحديد، إذ يتم جمعها من فرز النفايات، أو من أنقاض البيوت المهدمة، نتيجة الصراع السوري، وتنقل الخردة من الداخل السوري إلى المناطق الحدودية بين عرسال وسورية، ويعاد شحنها باتجاه بعض المرافئ اللبنانية، لإعادة تصنيعها.

كما ازدهرت تجارة تهريب الخردة، خصوصاً خردة السيارات والغسالات وأجهزة المنازل التي تم الاستغناء عنها في ليبيا، بعد سقوط نظام معمر القذافي، حيث تشير وسائل إعلامية عدة إلى أن الشاحنات تنقل أطناناً من الخردة إلى موانئ مدن الشمال، وتحديداً ميناء مصراتة، تمهيداً لشحنها وبيعها في الخارج. وفي هذا السياق، عبر جهاز المخابرات الليبية، التابع لحكومة الوفاق، في 27 أبريل 2017، عن استنكاره للصمت المطبق من السلطات، إزاء ازدهار تهريب الخردة إلى خارج البلاد، الذي اعتبره «تهديداً للأمن القومي»، وأضاف: «أن البلاد تعاني انهياراً للاقتصاد والعملة وضياعها، وفق مؤامرة تستهدف الليبيين وقوتهم، بهدف تجويعهم في وقت تنهب فيه خيرات البلاد، ويتم تهريبها للخارج».

3- تعزيز قوة وسطوة الميليشيات المسلحة

وهو ما تعكسه حالة فصائل «الحشد الشعبي» في العراق، التي تجني أموالاً طائلة من تجارة مخلفات الحرب، في المناطق التي تم تحريرها من سيطرة تنظيم «داعش»، بحيث تستولي على معدات صالحة للتشغيل، أو يمكن إصلاحها وبيعها في أسواق الخردة، مثل السيارات المحطمة والأسلحة المتهالكة وصهاريج المياه ومولدات الكهرباء وإطارات النوافذ، ويتم صهرها بعد ذلك للاستخدام في مواد البناء، ويذهب بعضها إلى إقليم كردستان العراق، والمحافظات الجنوبية.

بعبارة أخرى.. تحولت أطنان المعادن الخردة (السكراب)، في المناطق التي كانت تحت سيطرة «داعش»، إلى مصدر ثروة لـ«الحشد الشعبي»، عبر بيعها في المناطق الكردية، مقابل ضعف السعر، أو السماح لمجموعة من التجار بالقيام بذلك مقابل حصة من الأرباح للمرور عبر مناطق تسيطر عليها. كما تشرف ميليشيات الحرس الثوري الإيراني على عمليات نقل الحديد من العراق إلى إيران والاتجار فيه، حيث تدخل هذه الكميات من الخردة في صناعة قضبان الحديد التي تستخدم في البناء وصناعة السيارات والأسلحة، ثم تعيد إيران بيعها إلى العراق بأسعار باهظة.

4- مواجهة تدهور الأوضاع الاقتصادية الداخلية

اضطر بعض السكان في دول عدة إلى العمل بجمع الخردة لظروف العوز الاقتصادي، بعد غياب الدخل لكثير منهم، وتسرب الطلاب من مراحل التعليم المختلفة. كما يتم التعامل مع الخردة القديمة من قبل عدد من المستهلكين في بؤر الصراعات العربية كوسيلة لمواجهة شح السيولة وغلاء الأسعار، ومصاعب الحياة، خصوصاً في ظل قلة فرص العمل، وضعف توفير الخدمات من قبل إدارات المحافظات. فضلاً عن تغطية النفقات الخاصة بحصول الفاعلين المسلحين، ما دون الدولة، على الأسلحة.

5- إعادة إعمار المدن المنهارة

يسير اتجاه رئيس في الأدبيات إلى أن مواد البناء تسهم - من جانب بعض الحكومات - في إعمار عدد من المناطق دون الانتظار لتسويات سياسية ممتدة بين أطراف متعددة في الصراع محليين وإقليميين. فالمسألة لا تتعلق بالسيطرة على الاقتصاد في مرحلة إعادة الإعمار بمناطق داخل سورية والعراق، بقدر ما تشير، أيضاً، إلى إعادة بناء الأحياء السكنية، لتوجيه رسالة إلى الداخل والخارج مفادها إعادة تدوير العجلة من جديد، على نحو ما تفعله حكومتا سورية والعراق، سواء بعد تغير توازنات القوى لصالح الجيوش النظامية، أو دحر تنظيمات الإرهاب العابر للحدود، مثل «داعش». في حين يرى اتجاه آخر في الأدبيات أن نقص مواد البناء، مثل الحديد، في مناطق عراقية على غرار الموصل، أدى بصورة كبيرة إلى توقف أنشطة إعادة البناء في تلك المدينة، وغيرها من المدن السنية الأخرى، بشكل أثر في حالة الاستقرار فيها.


تجارة رائجة

الصراعات أو ساحات الحرب، التي شهدتها دول عربية عدة، على مدى السنوات الثماني الماضية، أفرزت جماعات مصالح، أو بالأحرى «مافيا اقتصادية» متخصصة في تجارة الخردة، بل ظهرت تخصصات دقيقة، كالتي تتعامل مع الثلاجات، أو مكيفات الهواء أو الأثاث بعد النهب المنظم لها، أو معدات الشركات الأجنبية، أو حواجز الطرق، حيث تنشط هذه الجهات عبر المعابر التي تربط مناطق الصراع، وتحظى بدعم النظم القائمة. وقد تباع هذه الخردة لعدد من مصانع الحديد والصلب المحلية، أو يتم تهريبها لبعض دول الجوار، مثل لبنان وإيران، وغيرهما، حيث تعتبر ثروة معدنية يستغلها مختلف الأطراف في بؤر الصراعات.

سكان في دول عدة اضطروا إلى العمل بجمع الخردة لظروف العوز الاقتصادي، بعد غياب الدخل لكثير منهم، وتسرب الطلاب من مراحل التعليم المختلفة.

تويتر