في خطوة اعتادتها باستمرار

واشنطن تخدع الأكراد من جديد

صورة

على الرغم من وجود علامات تحذر من حدوث ذلك، فإن قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، المفاجئ بسحب القوات الأميركية من شمال سورية، شكل صدمة لأكراد سورية. وخلال عشية وضحاها تحطم الحلم الكردي بإنشاء حكم ذاتي للأكراد في شمال سورية، وبات يتعين عليهم الآن الاختيار بين العودة إلى الجبال في محاولة للنجاة بأرواحهم، أو البقاء في انتظار قوات الرئيس السوري بشار الأسد، بعد ست سنوات من الحكم الذاتي.

الخداع في الجينات

وأصبح الخداع من قبل قوة عظمى مكتوباً في الجينات الوراثية للأكراد. وظهرت مشكلة هذا الشعب الذي يعتبر أضخم أمة معروفة بلا دولة، إثر انهيار الإمبراطورية العثمانية، ونتيجة الوعود الكاذبة من الدول العظمى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، حسبما يرى الأكراد الموضوع. وأصبحت هذه الأمة مقسمة على أربع دول، هي: تركيا، وإيران، والعراق، وسورية، ومنذ ذلك الوقت يواصل الأكراد القتال بحثاً عن الحرية والدولة. وكانوا يحققون النجاح عادة لفترة قصيرة. وفي كل مرة استغلوا فيها الفراغ، كان يختفي سريعاً. وكانت القوى الكبرى التي يتحالفون معها، والتي يعتقدون أنه يمكنهم الاعتماد عليها، تتخلى عنهم دائماً.

ومارس الأكراد الضغوط من أجل الاستفادة من قيام الولايات المتحدة بغزو العراق، الأمر الذي دفع الأكراد العراقيين إلى إنشاء منطقة حكم فيدرالي، ومرة أخرى وإثر قيام الاحتجاجات السورية عام 2011، التي تحولت إلى حرب أهلية، نجم عن ذلك فراغ في السلطة في شمال شرق سورية، حيث سارع الأكراد إلى ملئه. وعندما ظهر تنظيم «داعش» على المشهد عام 2014، انضم الأكراد الموجودون في العراق وسورية بيسر وسرعة إلى التحالف الذي شكلته الولايات المتحدة لمحاربة التنظيم، الذي شكل خطراً مباشراً عليهم. وكانوا يأملون أن الدعم المخلص للولايات المتحدة يمكن أن يترجم إلى دعم واشنطن للأكراد لتحقيق أهدافهم الوطنية، عندما تنتهي الحرب.

لكن ذلك لم يحدث، إذ قبل نحو عام فقط، رفضت الولايات المتحدة تقديم المساعدة لأكراد العراق، عندما تجاهل رئيس إقليم كردستان العراقي، مسعود البرزاني، إصرار واشنطن على عدم إجراء استفتاء على قيام الدولة الكردية. وكان الاستفتاء بحد ذاته، إضافة إلى تحذيرات الولايات المتحدة قد منح بغداد الفرصة لاسترجاع المناطق التي يطالب بها الأكراد في شمال العراق وقاموا بالسيطرة عليها، الأمر الذي أعاد طموح الأكراد نحو الاستقلال إلى سنين عدة نحو الوراء.

إشارة تحذيرية

وجاءت إشارة تحذيرية أخرى عام 2018، عندما وقفت الولايات المتحدة إلى جانب القوات التركية، خلال احتلالها لمنطقة عفرين ذات الأغلبية الكردية في شمال سورية، وأبعدت وحدات حماية الشعب الكردي، وهو النسخة السورية من حزب العمال الكردستاني في تركيا، والذي تصنفه أنقرة إرهابياً. وكانت وحدات حماية الشعب الكردي قد سيطرت على شمال سورية في عام 2012، عندما كانت قوات الحكومة السورية مشغولة بقتال المعارضة في أماكن أخرى بالدولة، وبالنظر لعدم وجود قوات كافية، تركتهم حكومة دمشق يحتلون الأماكن التي يريدونها. وهي تدرك أن علاقتهم مع حزب العمال الكردستاني ترجع إلى ثمانينات القرن الماضي، لكنها تفضل أن تحتل وحدات حماية الشعب الكردي هذه المنطقة، إذ إن طموحاتها تتركز في شمال سورية، بخلاف تنظيم «داعش» الذي يصبو إلى إطاحة النظام نفسه.

وأثبتت قوات البرزاني، المعروفة بـ«البشمركة» في العراق ووحدات حماية الشعب الكردي في سورية، قدراتها الاستثنائية في القتال خلال الحرب مع «داعش»، وتمكنوا من هزيمة التنظيم الإرهابي. لكن هذه القوات لم تحصل على المكافأة التي تعتقد أنها تستحقها. ولطالما تقرب الأكراد من الدول الغربية، وأقاموا علاقات قوية معها، على أمل باهت مفاده أن المستقبل سيعود عليهم بفوائد جمة.

واشنطن تدير ظهرها

لكن الأمر الذي سبب ألماً شديداً للأكراد هو أن واشنطن ذهبت أبعد بكثير مما توقعوا، حيث أدارت ظهرها لهم وتركتهم تحت رحمة الدول المحيطة بهم. وبناء عليه يمكن أن نعذرهم لأنهم يعتقدون الآن أن الولايات المتحدة استغلتهم كأنهم شركات أمن خاصة، على شكل تحالف تكتيكي لتحقيق أهدافها الاستراتيجية. والآن يبدو أن العقد الموقع مع وحدات حماية الشعب الكردي قد انتهى.

واستفاد أكراد العراق من السيطرة على منطقة فيدرالية لاتزال علاقتها جيدة نسبياً مع بغداد، ولديها ممثلون في الحكومة المركزية في بغداد، وهو ما يمكن أن يجعل التعامل العراقي مع الأكراد معتدلاً. وبالمقارنة فإن وحدات حماية الشعب الكردي محاطة بالأعداء، أمثال تركيا والنظام السوري، وحتى أكراد البرزاني نفسه، الذي ينظرون إليهم بريبة.

والسؤال المطروح: ما الذي سيحدث لوحدات حماية الشعب الكردي لاحقاً؟ يمكن أن تختار هذه الوحدات القتال، لكن تضاريس المنطقة ليس لصالحها، خصوصاً في قتال الجيوش. ولدى هؤلاء خياران فقط: الأول الانسحاب إلى جبال العراق، حيث معقل حزب العمال الكردستاني، ويمكنه حماية نفسه من نيران القوات التركية، والخيار الثاني هو عقد صفقة مع النظام السوري، للحفاظ على بعضٍ من مكتسبات ما بعد عام 2012.

مهب الريح

وبدأت وحدات حماية الشعب الكردي التفاوض مع النظام السوري إبان الصيف الماضي، لكن هذا الخيار اصطدم بالرفض العنيد لحكومة دمشق إعطاءهم ولو بوصة واحدة من الأراضي. وإذا عاد المفاوضون الأكراد إلى دمشق الآن، فسيجدون الأسد أقل تجاوباً معهم الآن من أي وقت مضى، بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب انسحاباً غير مشروط من سورية، ما جعل وحدات حماية الشعب الكردي تجد نفسها في مهب الريح. وأفضل الأمور التي يمكن أن تأملها هذه القوات هو التحالف مع دمشق لإبقاء القوات التركية خارج سورية، إذ إن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، تعهد بمحاربة قوات حماية الشعب الكردي. لكن هل يمكن أن يمنح الرئيس بشار الأسد الأكراد حكماً ذاتياً في شمال سورية؟

وعلى الرغم من الوضع اليائس للأكراد السوريين، فإنه يمكن تجاوز الأسوأ حتى الآن، إذ إن روسيا التي تملك معظم أوراق اللعبة في سورية، يمكن أن تجلب تركيا وسورية إلى طاولة المفاوضات. ويتمثل الهدف التركي في إبعاد حزب العمال وقوات حماية الشعب الكردي عن حدودها. وأما الأسد فإنه يريد سورية حرة من الجنود الأتراك، وسيطرة قوات الأمن السورية على جميع أراضي الدولة، بما فيها منطقة الأكراد في الشمال. وهو يمكن أن يتعايش مع وحدات حماية الشعب الكردي، لكن على أن تكون طوع بنانه، وأن تكون مفيدة له بحيث تصبح حليفاً لدمشق ضد تركيا.

ويبقى السؤال الآن ما إذا كان الدبلوماسيون الروس يمكنهم منع السيناريو الأسوأ المتمثل في قتال وحدات حماية الأكراد حتى الموت مع تركيا، وهروب أكراد سورية إلى شمال العراق، وربما عودة «داعش»، للقيام بما اعتاد القيام به على أكمل وجه، ألا وهو استغلال الفوضى.

جوست هلترمان مدير برنامج شمال إفريقيا والشرق الأوسط في منظمة مجموعة الأزمات الدولية.


الخداع من قبل قوة عظمى أصبح مكتوباً في الجينات الوراثية للأكراد. وظهرت مشكلة هذا الشعب الذي يعتبر أضخم أمة معروفة بلا دولة، إثر انهيار الإمبراطورية العثمانية، ونتيجة الوعود الكاذبة من الدول العظمى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، حسبما يرى الأكراد الموضوع.

قبل نحو عام فقط، رفضت الولايات المتحدة تقديم المساعدة لأكراد العراق، عندما تجاهل رئيس إقليم كردستان العراقي، مسعود البرزاني، إصرار واشنطن على عدم إجراء استفتاء على قيام الدولة الكردية.

تويتر