تعيين صالح وعبدالمهدي خيار سلمي معتدل

العراق يصل إلى «الاستقرار» بعد 4 عقود من الفوضى

صورة

لطالما كان التغير في الحكومة العراقية يثير خلافات قوية، وأحياناً تصل إلى أعمال عنف. وعند إطاحة الملك العراقي الشاب فيصل الثاني عام 1958، تم إعدامه رمياً بالرصاص في باحة قصره ببغداد، ومن ثم عرضت جثته وهي معلقة. وقلة من الذين خلفوه كانت نهايتهم أفضل من ذلك، حتى إطاحة صدام حسين عام 2003، والمرحلة الانتقالية في السنوات التي تلت والتي ولدت الأحقاد والضغائن داخل العراق، إضافة إلى الضغط السياسي الشديد من القوى الخارجية.

وبالمقارنة مع هذه التقاليد الملطخة بالدماء، كان اختيار السياسي الكردي المخضرم برهام صالح، في منصب الرئيس من قبل البرلمان العراقي، وكذلك اختيار عادل عبدالمهدي، وهو سياسي شيعي مستقل، رئيساً للحكومة، بمثابة الخيار السلمي والمعتدل. وتمت مراسم تعيين الرجلين في القصر الرئاسي في المنطقة الخضراء ببغداد، حيث حظي صالح بتحية حرس الشرف واستقبال الرئيس المنتهية ولايته فؤاد معصوم.

وقد تم انتظار هذه التعيينات منذ فترة طويلة، منذ نهاية الانتخابات الأخيرة، التي تمت في 12 مايو الماضي، لكن عند ظهور التعيينات تم الترحيب بها، أو على الأقل كانت مقبولة من قبل الأحزاب الرئيسة في العراق. وأمام عبدالمهدي 30 يوماً كي يشكل حكومته، ومن المرجح أن ينجح في ذلك. وأصبح المناخ السياسي الآن مختلفاً عما كان عليه خلال التغيير الأخير لرئيس الحكومة عام 2014، عندما تسلم المنصب حيدر العبادي، إثر اندحار الجيش العراقي أمام تنظيم «داعش»، حيث أصبح مقاتلو التنظيم على أبواب بغداد.

حوادث متفرقة

ولايزال تنظيم «داعش» ينفذ أعمال قتل وتفجير متفرقة، لكن ليس بالوتيرة التي كان عليها في السابق، كما أن أعمال العنف أصبحت في أدنى معدلاتها في العراق منذ عام 2003. وهذا التحول في الحياة العراقية جذري فعلاً، لدرجة أن هذا البلد لم يعد يعيش حالة الحروب والأزمات، والثورات والعقوبات، كما هي الحال منذ 40 عاماً تقريباً، إثر تسلم صدام حسين السلطة.

ويرى المتشائمون أن عدم وجود صراع سياسي حالي يرجع إلى حقيقة أن صالح وعبدالمهدي هما رجلان يحظيان بالاحترام من النخب السياسية الكردية والشيعية، والتي استلمت السلطة منذ انهيار نظام صدام حسين قبل 15 عاماً، وأساءت حكم العراق. وتقلد الرجلان مناصب حكومية رفيعة سابقاً، الأمر الذي يدعو إلى الاعتقاد أن السياسيين الذين اختاروا الرجلين سيحصلون على نصيبهم الطبيعي من الوزارات والمناصب والعقود. وتساءل أحد المعلقين السياسيين العراقيين، الذي يتمتع بخبرة واسعة في السياسة العراقية، قائلاً: «هل تم إصلاح واحد من الأوضاع السيئة في العراق، مثل الفساد، حتى الآن؟».

ويبدو أن الضغوط، التي تمارس الآن من أجل إصلاح الدولة الفاسدة، بلغت ذروتها نتيجة الأوضاع المعيشية التي تعصف بالعراق. وبلغ سخط العراقيين مبلغه، عندما اندلعت التظاهرات الغاضبة الصيف الماضي في مدينة البصرة، حيث احتج هؤلاء على عدم وجود الكهرباء والماء والمواد الغذائية وسبل العيش، وزاد الطين بلة أن مياه الشرب عندما أُمنت كانت مسمومة، ما جعل الآلاف يدخلون المستشفيات.

الأولوية للاقتصاد

جاء النجاح الانتخابي للزعيم الشيعي مقتدى الصدر، حيث تمكن ائتلافه المعروف باسم «سائرون» من تحقيق الأغلبية في الانتخابات العامة في شهر مايو الماضي، ليؤكد أن الأولوية بالنسبة للعراقيين باتت القضايا الاجتماعية والاقتصادية، وليست التضامن الطائفي. ويبدو أن الصدر مدرك جيداً التشكك الذي يساور معظم العراقيين، الذين يعتقدون أن الحماس الذي تتميز به حركته سيخبو، ويتبخر عندما يصبح أفرادها قادة في الوزارات.

وقال الصدر، كي يبدد هذه المخاوف قبل أيام، إن كتلته «يمكن ألا يكون منها أي وزير» في الحكومة الجديدة، حيث منح عبدالمهدي عاماً واحداً لتنفيذ الإصلاحات، وإنه سيواجه «انتفاضة» عارمة، وهو تهديد لا يمكن الاستهانة به، بالنظر إلى أن المتظاهرين في البصرة قاموا بإحراق المكاتب الحكومية والحزبية. وقال الصدر، في تغريدة له: «لقد نجحنا في الدفع باتجاه تعيين رئيس حكومة مستقل، وشجعناه على تشكيل حكومة دون ضغوط من أي حزب أو طائفة. وأصدرنا تعليماتنا بعدم تعيين أي عضو من كتلتنا في أي وزارة في الحكومة المقبلة. واتفقنا على منح رئيس الحكومة عاماً واحداً ليثبت نجاحه، ويتخذ خطوات مهمة لبناء العراق، ويقضي على الاستبداد».

ولابد من القول إن تنفيذ مثل هذه الإصلاحات لن يكون أمراً سهلاً، لأنه في واقع الأمر ليست النخبة وحدها التي تنهب عائدات النفط العراقي، إذ يوجد 4.5 ملايين موظف حكومي يحصلون على رواتب شهرية تصل قيمتها إلى أربعة مليارات دولار، يحافظ هؤلاء على وظائفهم من خلال ولائهم لحزب سياسي أو طائفة دينية معينة.

ويشير اختيار الرئيس ورئيس الحكومة إلى وجود بعض التغيير في الجهة التي تمتلك السلطة في بغداد والمنطقة الكردية. وعبدالمهدي ليس من حزب الدعوة الشيعي، الذي قدم رؤساء الحكومات السابقين، لكنه من المجلس الإسلامي الأعلى في العراق، وهو حزب ديني له علاقة وثيقة مع إيران. أما صالح فهو قادم من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني المنقسم على نفسه بشدة، والذي يحكم المنطقة الشرقية من كردستان.

ويمثل كلا التعيينين تغيراً في العلاقة مع إيران، وابتعاداً عن الولايات المتحدة. وهو أمر مهم لأن الولايات المتحدة كانت تأمل بقاء العبادي في الحكم، حيث تعاونت معه بنجاح ضد تنظيم «داعش». وكان العبادي على وشك التصريح بأنه يؤيد الولايات المتحدة في عقوباتها ضد إيران.

وعلى الرغم من أن العبادي كان رئيس الحكومة عند تحرير مدينة الموصل من «داعش»، واستعادة مدينة كركوك الغنية بالنفط من الأكراد، فإن ذلك لم يمنحه الكثير من ثقة الناخب العراقي.

وسمح تخفيض وتيرة العنف للعراقيين بالتركيز على السرقات الكبيرة لموارد الدولة، التي تمت تحت حكم حزب الدعوة، الذي فشل في تحسين أو حتى الحفاظ على البنية التحتية للدولة كما هي.

ويمثل خيار صالح إشارة إلى أن نفوذ مسعود برزاني، الزعيم الكردي الأكثر سطوة، قد تقلص كثيراً نتيجة الاستفتاء على الاستقلال الكردستاني الذي أجراه العام الماضي، ما أسهم في تسريع تقدم قوات الأمن العراقي نحو كركوك ومناطق أخرى متنازع عليها مع الأكراد. وتعاون جزء من حزب صالح مع القوات الحكومية.

وكانت جميع الحكومات العراقية المتعاقبة ضعيفة وهشة، نتيجة الخلافات الإثنية والدينية، لكن الحكومة الجديدة تمثل إشارة إلى أن العراق مستقر، بعد أربعة عقود من العنف والانقسام.

- الضغوط التي تمارس الآن من أجل إصلاح الدولة الفاسدة بلغت ذروتها نتيجة الأوضاع المعيشية التي تعصف بالعراق.

- أعمال العنف أصبحت في أدنى معدلاتها بالعراق منذ عام 2003. وهذا التحول في الحياة العراقية جذري ، لدرجة أن هذا البلد لم يعد يعيش حالة الحروب والأزمات، والثورات والعقوبات.

باتريك كوكبيرن : مراسل «الإندبندنت» في الشرق الأوسط

تويتر