واشنطن لاتزال عاجزة عن فهم العراق

صورة

تؤكد الانتخابات البرلمانية العراقية أن قادة الولايات المتحدة ووسائل إعلامها، لايزالون يجهلون الكثير عن ديناميكية السياسة المعقدة في هذا البلد. وتوقع الخبراء والمراقبون أن يسيطر حزب رئيس الحكومة الحالية، حيدر العبادي، على هذه الانتخابات. ولكن حزب رجل الدين الشيعي المتشدد، مقتدى الصدر، هو الذي فاز بأغلبية الأصوات. وكان الصدر عدواً لأميركا لأمد طويل، كما أنه يعارض سياسة واشنطن في الشرق الأوسط، خصوصاً وجود القوات الأميركية في العراق. وبالفعل، فخلال السنوات التي تلت حرب واشنطن على العراق التي أدت إلى الإطاحة بالرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، اشتبك أتباع الصدر المسلحين مع قوات الاحتلال الأميركية مرات عدة.


أداء العبادي المخيب للآمال يمكن اعتباره الفصل

الأخير في سجل واشنطن، التي تختار وكلاءها من

العراقيين الذين يتمتعون بدعم شعبي ضعيف.


ترى إدارة ترامب أن الصدر يمتلك صفة جيدة،

تتمثل في كرهه للنفوذ الإيراني في العراق تماماً،

بالقدر الذي تمقته الولايات المتحدة.

ويشكل بروز الصدر السياسي أكثر من مجرد قلق لمسؤولي إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب. ولكن من وجهة نظرهم فإن الصدر يمتلك صفة جيدة، تتمثل في كرهه للنفوذ الإيراني في العراق، تماماً بالقدر الذي تمقته الولايات المتحدة. ويمثل موقفه هذا دليلاً صلباً على مدى التضامن الشيعي. وعلى الرغم من الهوية الدينية المشتركة، إلا أن ثمة توتراً مهماً وتاريخياً بين العرب والفرس الشيعة، يظهر من وقت لآخر. ويجسد الصدر انعدام الثقة العرقي بين الطرفين.

وثمة سمة أكثر إثارة للقلق لنتائج هذه الانتخابات، من وجهة نظر واشنطن، تتمثل في أن الحزب الذي يأتي في المرتبة الثانية من حيث عدد المقاعد البرلمانية هو ائتلاف «الفتح»، وهو لا يشارك الصدر في قلقه من إيران. وفي الواقع فإن هذه الكتلة الشيعية تمثل مصالح الميليشيات المؤيدة لإيران، التي تمولها طهران بسخاء كبير وتمدها بالأسلحة، حتى إنها تزودها بالمساعدة المباشرة بمتطوعين من عندها في مناسبات معينة. وخلاصة القول إن أقوى مجموعتين سياسيتين في العراق معاديتان بشدة للولايات المتحدة، كما أن إحداهما مؤيدة بشدة لإيران. ولا يمكن للمرء أن يتخيل نتائج للانتخابات العراقية أسوأ مما عليه الوضع حالياً بالنسبة لأهداف واشنطن السياسية في هذا البلد.

دهشة

ومما يثير دهشة المراقبين الغربيين، أن حزب العبادي انتهى به الأمر ليكون في المرتبة الثالثة، ويمثل هذا الأداء المخيب للآمال الفصل الأخير في سجل واشنطن التي تختار وكلاءها من العراقيين الذين يتمتعون بدعم شعبي ضعيف. وكانت إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، وحلفاؤها من المحافظين الجدد، افترضوا أن المعارض العراقي، أحمد الشلبي، رئيس المؤتمر الوطني العراقي، سيكون قائد العراق الجديد حالما تتم الإطاحة بصدام حسين. وبالفعل قدمت الولايات المتحدة ملايين الدولارات له في السنوات التي سبقت غزو عام 2003، الذي نجم عنه احتلال العراق. ولكن عندما تمت الانتخابات البرلمانية العراقية، لم يحقق المؤتمر الوطني العراقي نجاحاً.

أما وكيل واشنطن الآخر فكان رئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، الذي تميزت فترة حكمه بتهميش السنة وإغضابهم. وكان أسلوب المالكي الانتقامي من السنة، إضافة إلى الفساد الأسطوري الذي ميز إدارته، قد مهدا الطريق من أجل ظهور تنظيم «داعش»، تلك المجموعة المتطرفة التي حققت نصراً مدوياً خلال الحرب الأهلية في العراق.

نكسة لواشنطن

ولم تكن الانتخابات الأخيرة في العراق تمثل النكسة الوحيدة في السياسة الأميركية، إذ إن نتائج الانتخابات في كردستان العراق كانت مرعبة أيضاً. وكانت حكومة إقليم كردستان العراقي تمثل حليفاً قوياً للولايات المتحدة في حربها ضد «داعش»، وكذلك كان الأكراد الذين يعيشون في سورية. واعتبر بعض المراقبين وخبراء السياسة أن الأكراد (إضافة إلى إسرائيل) هم حلفاء واشنطن الذين يمكن أن يعول عليهم في الشرق الأوسط، وطالبوا بتوطيد العلاقة مع إقليم كردستان العراق، حتى لو أدت هذه الخطوة إلى إثارة قلق الحكومة المركزية في بغداد.

لكن في عام 2017 أسهم قرار رئيس الإقليم الكردي، مسعود البرزاني، إجراء استفتاء حول الاستقلال الكامل عن العراق، في تعطيل التحالف مع واشنطن. إذ إن تلك الخطوة أدت إلى إثارة غضب الدول المجاورة، وأهمها حليف أميركا في حلف الناتو تركيا، إضافة إلى بغداد. وسحب قادة الولايات المتحدة دعمهم لإقليم كردستان العراق، وقام الجيش الوطني العراقي بتحجيم نفوذ الإقليم. ونجم عن ذلك خسارة قادة الأكراد السيطرة على كركوك الثرية بمنابع النفط، وفقدوا معظم حالة الحكم الذاتي، التي كانت المنطقة تتمتع بها خلال الفترة الممتدة منذ الإطاحة بصدام.

وكانت التوقعات كبيرة بأن حزب البرزاني «الحزب الديمقراطي الكردستاني» ونظيره في المنطقة حزب «الاتحاد الوطني الكردستاني»، سيدفعان ثمن نتائج ما حدث إثر الاستفتاء على الاستقلال عن العراق. وكان من المفروض أن حركة غوران الإصلاحية ستحصد نتائج كبيرة، لكن ما حدث أن الحزبين منيا بخسائر طفيفة، ما جعل حركة غوران ومجموعات أخرى معارضة تصرخ معلنة عن حدوث «تزوير» في الانتخابات، وأن ثمة أدلة قوية على حدوث تجاوزات في الانتخابات. وتصاعد التوتر وتحول إلى عنف في بعض مدن شمال العراق.

مناخ متفسخ

وتواجه واشنطن وضعاً رفض خلاله الناخبون العراقيون حليفهم الرئيس على المستوى الوطني، كما أن التعاون الذي كان واعداً في السابق مع كردستان المستقرة المؤيدة لأميركا، أصبح في حالة يرثى لها. وحتى في هذا المناخ المتفسخ، يبدو أن المسؤولين في إدارة ترامب ينوون الإبقاء على وجود عسكري أميركي في العراق إلى أجل غير مسمى. وتبدو هذه السياسة أقل منطقية مما سبق، أو أنها غير قابلة للتطبيق. ولطالما ارتكب صناع السياسة الأميركية افتراضات خاطئة في العراق منذ نحو عقدين من الزمن. واعتقدت إدارة بوش الابن، ووافقها في ذلك إدارتا باراك أوباما وترامب، أن العراق يمكن أن يصبح معقلاً مستقراً ومتحداً وديمقراطياً، ومؤيداً للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، لكن اتضح أن ذلك كان خاطئاً على مستويات عدة، وحان الوقت الآن للاعتراف بمحدودية النفوذ الأميركي في العراق، وإعادة تقييم السياسة الكارثية لواشنطن في هذا البلد، وتحتاج إدارة ترامب إلى تطوير مخرج سريع من المستنقع العراقي.

تويتر