يعمل على تغيير قواعد اللعبة السياسية بحسب الحاجة

نموذج «الرجل القوي» مطلب مُلح لحماية «الدولة» في الأزمات

ترامب وبوتين شكّلا مثالاً للرجل القوي. أرشيفية

كردّ فعل للاضطرابات الاجتماعية التي اجتاحت العالم في ستينات القرن الماضي، أنتجت هوليوود سلسلة من أفلام الجريمة الأكثر شعبية، مثل فيلم «الرجل الغاضب»، المشهورة في السبعينات، وتدور هذه الأفلام حول رجال الشرطة المارقين، الذين يأخذون القانون بيدهم، وأدى دورهم فنانون، مثل كلينت إيستوود، وتشارلز برونسون، وهم عبارة عن أبطال يعملون بمعزل عن البيروقراطية الضعيفة، وينتقمون من السياسيين الفاسدين، ويسعون من أجل تصويب السياسة لاستعادة العدالة في أوقات العنف.

وفي الوقت الراهن تخرج الولايات المتحدة من فترة أخرى من التغيير الاجتماعي الشامل والقلق الاقتصادي والجريمة الحضرية، والحروب التي لا معنى لها، ويظهر على السطح مرة أخرى الجدل حول أهمية الحامي القوي للقانون، الذي يستطيع تلقين الليبراليين الضعفاء درساً في الوطنية، ولكن البطل هذه المرة ليس من صنع هوليوود، إنما يعيش في البيت، ويلعب دوره بحماسة. ولا يقتصر هذا الاتجاه على الولايات المتحدة فحسب، ففي كل منطقة من مناطق العالم عززت الأزمنة المتغيرة الطلب لقيادة أكثر حزماً وقوة، مثل الشعوبيين المتشددين الذين يدعون لحماية «نحن» ضد «هم»، ويمكن أن يكون «هم» هم النخبة الفاسدة أو الفقراء المساكين، أو الأجانب أو أفراد الأقليات العرقية أو الدينية، أو السياسيين البيروقراطيين أو المصرفيين أو القضاة، أو الصحافيين الكذابين. وظهر من بين «نحن» نموذج جديد من الزعماء، يمكن أن نطلق عليه «الرجل القوي».

ويبدو أن أبرز الأمثلة على ذلك الزعيم الروسي القوي فلاديمير بوتين، فبعد أن غذى سقوط الاتحاد السوفييتي المخاوف بنشوب الفوضى الاقتصادية والعجز السياسي، أجاب بوتين الدعوة لاستعادة روسيا لدورها كإمبراطورية قوية على مدى ثلاثة قرون. ووعد بوتين بذب النسور الغربية التي تسعى لخلق المشكلات في روسيا من خلال إذكاء القلاقل في الدول المجاورة كأوكرانيا. ويجسد بوتين، الذي يبلغ من العمر 65 عاماً، صورة الفحولة والقوة والمنعة، في بلد يبلغ فيه متوسط العمر عند الرجل 64 عاماً.

• عادت شخصية الرجل القوي إلى قلب أوروبا في أعقاب أزمة المهاجرين التي أثارت الخوف والسخط.

يمكن أيضاً رؤية الرجل القوي عبر آسيا، ففي الصين دفعت ذكريات تيانانمين الصادمة ورعب انهيار الاتحاد السوفييتي، الحزب الشيوعي إلى إبقاء سيطرته بشكل محكم على المعارضة. ومع توليه السلطة بدءاً من عام 2012، نظم الرئيس الصيني، شي جينبينغ حملة لمكافحة الفساد، وتهميش المنافسين المحتملين، مع توطيد سلطته في الوقت نفسه على نطاق تاريخي، وأعلن فجر «حقبة جديدة» في الصين، أو عصر توسع ذهبي سيدفع ببلاده إلى مركز الصدارة العالمي. وفي الآونة الأخيرة، قام بشطب الفترة الزمنية المحددة لبقاء الرئيس في السلطة. وانتهى ذلك العهد الذي يتم فيه تسيير دفة الحكم بتوافق الآراء الحزبية، على الأقل في الوقت الحالي.

وفي الفلبين، ساعد المد المتصاعد لجرائم الشوارع العنيفة على انتخاب رودريغو دوتيريتي، وهو عمدة سابق، ويبدو كزعيم عصابة أكثر من كونه رئيساً للبلاد، عندما يتحدث عن وعوده بالقضاء على تجارة المخدرات على نمط عدالته الخاصة. وسمح الخلل السياسي الشديد في تايلاند للجيش بالاستيلاء على السلطة في عام 2014، والذي واجه قدراً ضئيلاً من المقاومة الشعبية. وعلى الرغم من الوعود المتكررة بإجراء انتخابات جديدة، لايزال الجنرال بريان تشان أوشا على رأس السلطة في البلاد.

في أميركا اللاتينية، ظهر شبح القائد العسكري للوجود مرة أخرى عندما خنق الرئيس النيكاراغوي، دانيال أورتيغا، المعارضة، وألغى المدة المحددة للفترة الرئاسية. وفي فنزويلا المنكوبة اقتصادياً، احتجز الرئيس نيكولاس مادورو شخصيات معارضة، وتعامل مع الاحتجاجات بعنف. ويبدو أن الرغبة في تنصيب «الرجل القوي» صار معدياً في العالم، فقد أظهر استطلاع للرأي أجرته جامعة «فاندربيلت» أن نحو 40٪ من البرازيليين، الذين أرهقتهم الجريمة والفساد، سيدعمون أي انقلاب عسكري في بلادهم إذا حدث ذلك.

في تركيا استطاع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، زعيم حزب العدالة والتنمية، أن يظل على رأس السلطة منذ عام 2003، ونجح في استقطاب دعم الأتراك المحافظين اجتماعياً من خلال تحدي هيمنة النخب العلمانية، وهو الآن يتلاعب بنظام تركيا السياسي ليظل في الحكم. وأدى الانقلاب العسكري الفاشل في عام 2016 إلى تشجيع أردوغان على تعليق حكم القانون لاستهداف خصومه. ونال من أتباع «الدولة العميقة»، وقام بسجن عدد كبير من الصحافيين.

وعادت شخصية الرجل القوي إلى قلب أوروبا في أعقاب أزمة المهاجرين، التي أثارت الخوف والسخط في أوروبا الشرقية، وفاز برئاسة الحكومة في المجر فيكتور أوربان بفترة ولاية أخرى كرئيس للوزراء، على الرغم من تبنيه «الديمقراطية غير الليبرالية»، وهو نظام سياسي يتشكل بانتخابات حرة، ولكن مع احترام قليل للحريات المدنية. وبالنسبة لأوربان، فإن التهديد الذي تواجهه البلاد ينبع من المهاجرين المسلمين ودعاة الديمقراطية الليبرالية الغربية، أمثال السياسي، جورج سوروس، الذي يزعم أوربان أنه يهدد «القيم الوطنية» للبلاد.

وهذا يعيدنا مرة أخرى للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، حيث إن الناخبين الذين يزعمون أن الوظائف المهدرة والهجرة والجريمة الحضرية خلقت أزمة للطبقة العاملة الأميركية، التي تدين بولاء قوي لترامب يمتد إلى أبعد من ولائهم للحزب، ولهذا السبب استطاع ترامب أن يستقطب أصوات هذه الطبقة. وأظهر استطلاع أجرته صحيفة «واشنطن بوست»، في أغسطس عام 2017، أن 52٪ من الناخبين الجمهوريين يؤيدون تأجيل انتخابات 2020 إذا اقترح ترامب أن التأخير ضروري لضمان أن المواطنين الأميركيين المؤهلين فقط هم من يُسمح لهم بالتصويت.

لقد استطاع هؤلاء القادة استقطاب الكثير من المؤيدين من خلال استهدافهم «هم»، ونجحوا في استقطاب «نحن» أو الأشخاص الذين يخاطبونهم، ومارسوا عليهم سحر الإيهام بالتهديد، واستغلوهم على أكمل وجه.

ويبدو أن نهاية الحرب الباردة فتحت حقبة من القيم الليبرالية المتصاعدة، إذ تمكنت الديمقراطية وسيادة القانون والأسواق المفتوحة من السيطرة على العالم وإلى الأبد. ومع ذلك علينا أن نفكر في المصاعب السياسية الحالية التي يواجهها أولئك الذين لايزالون يقرؤون من كتاب الديمقراطية نفسه ويتبعون خطواتها، فقد وصلت شعبية المستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، إلى أدنى مستوى لها منذ أن وصلت للسلطة قبل 10 سنوات، حيث أصبح حزب اليمين المتطرف في ألمانيا هو المعارض الرئيس لتحالفها الضعيف. ويواجه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، احتجاجات غاضبة في الداخل من قبل الطلاب وعمال القطاع العام، وتظهر استطلاعات الرأي الأخيرة تراجع الدعم العام. كما أن رئيس الوزراء الياباني، شينزو آبي، لا يحظى بشعبية كبيرة بسبب الفضائح الأخيرة، في حين تستمر رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، في القتال من أجل حياتها السياسية.

ويواجه هؤلاء القادة خيارات حول ما إذا كان عليهم التعامل مع المتطرفين لحماية حصتهم من الأصوات أو الالتزام بمبادئهم استجابة للضغوط الشعبية. أما «الرجال الأقوياء» فلا يعانون هذه المشكلة، فهم عادة ما يمارسون مثل هذا الضغط، وتسمح لهم أنظمتهم بحماية مزاياهم عن طريق تغيير قواعد اللعبة السياسية حسب الحاجة، يساعدهم على ذلك التقدم في التقنية.

تويتر