لدى إسرائيل أسلحة للاغتيالات والتضليل.. وترويج لأسطورة «الفناء» لابتزاز الدول

كتاب «انهض واقتل» يكشف ملاحقة «الموساد» لمشروع صواريخ عبدالناصر

صورة

أثار التقرير - الذي نشرته مجلة «نيوزويك» الأميركية حول ملاحقة الموساد الإسرائيلي للعلماء الألمان، الذين اشتركوا في مشروع الصواريخ الذي حاول إقامته الزعيم الراحل، جمال عبدالناصر، المعتمد على كتاب «انهض واقتل» للكاتب الإسرائيلي، رونين بريجمان، الذي كشف عن قيام إسرائيل بتنفيذ 2700 عملية اغتيال منذ إنشائها - ضجة واسعة في الأوساط العربية والإسرائيلية والغربية على حد سواء، وأقرت «نيوزويك»، وهي تقدم التقرير بأن «إسرائيل استخدمت سلاح الاغتيال أكثر من أي بلد غربي منذ الحرب العالمية الثانية»، وان «قادتها اعتبروا هذا الاغتيال أخلاقياً حتى لو عرّض حياة أبرياء للخطر، لأن هذا يحمي الأمن القومي الإسرائيلي»، وأن «اعتماد إسرائيل على الاغتيالات ليس مصادفة، وإنما ينبع من جذور الحركة الصهيونية، ومن كوابيس الهولوكوست، ومن الإحساس الدائم لديهم بأن إسرائيل عرضة للفناء، وأنه لا أحد في العالم يساعدهم».

• أضاف «الموساد» لخطته بند تهديد العلماء وأسرهم بريدياً، أو عبر زيارات مباشرة لهم بمنازلهم في منتصف الليل، لكن هذه العمليات كان مصيرها الفشل، وساء الأمر بعد القبض على عميل لـ«الموساد» هدّد ابنة عالم ألماني سابق، وسُجن العميل لفترة قصيرة.

• فتش عن المرأة

كانت نقطة الاختراق لسوركينزي هي زوجته الأربعينية الحسناء (ايز)، التي كانت «تلعب في كل شيء»، بحسب خلاصة التقرير الذي رُفع عنها، بدءاً من بيع الألقاب النبيلة والأرستقراطية، مروراً بتجارة السلاح، وانتهاء بفتح خطوط اتصال مع مخابرات الفاتيكان، وكانت مغرمة بأنوثتها وجمالها، وتجري جراحة هرمونية لتجديد شبابها كل عامين، كما أن علاقتها بزوجها «علاقة ليبرالية مفتوحة» بحسب تعبير تقريرها أيضاً، ومن ثم قرر (أميت) أن يوكل مهمة تجنيدها لوسيم الموساد ساحر النساء، رالف ميدان، الذي تقرب إليها ونسج علاقة عاطفية معها انتهت بهما إلى الفراش.

تم تجنيد زوجة سوركينزي، وبعد خطوات مدروسة تم تجنيد سوركينزي نفسه، الذي كان جاهزاً في ما يبدو للحظة المقايضة، فطلب جواز سفر وتعهداً بوقف الملاحقة له كمجرم نازية موقّعاً من ليفي أشكول، وبعضاً من المال، فتم تحقيق بعض مطالبه.

محاذير وضرورات

وعلى الرغم من المحاذير التي يجب أن يؤخذ بها هذا النوع من التقارير، التي يمكن أن تكون في حد ذاتها واجهة لتمرير معلومات تضليلية، كما اعترف صاحب الكتاب بنفسه، حين أورد تجنيد «الموساد» ثلاثة صحافيين مهمتهم زرع معلومات خاطئة، وغسل معلومات حقيقية في الميديا الغربية، إلا أنه يكتسب أهمية من حيث تصديه لقضية يماط اللثام عنها يوماً بعد يوم، وهي «تخريب مشروع صواريخ عبدالناصر»، الذي يعد أول محاولة بناء قوة عسكرية عربية رادعة، عبر استخدام وسائل متنوعة، منها محاولة اغتيال العلماء الألمان المشاركين في المشروع، وتهديد أسرهم في سويسرا وألمانيا، والضغط على حكومة ألمانيا الغربية بما يقترب من الابتزاز، ونشر تقارير صحافية مفبركة عن اتجاه مصر للتصنيع النووي والكيميائي، وانتهاء باختراق المشروع من الداخل، ودفع العاملين به للانسحاب.

صواريخنا قادرة

يبدأ مسلسل الملاحقة الإسرائيلية لمشروع الصواريخ المصري، منذ لحظة إعلان الزعيم الراحل جمال عبدالناصر في 21 يوليو 1961، عن إجرائه تجارب ناجحة لإطلاق أربعة صواريخ أرض - أرض، وتلا ذلك باستعراض عسكري، دعا إليه 300 دبلوماسي أجنبي في القاهرة، قال خلاله عبدالناصر إن «الصواريخ قادرة الآن على ضرب أي نقطة جنوب بيروت»، في إشارة تهديد واضحة لإسرائيل، كما قالت إذاعة «صوت العاصفة» المصرية الناطقة باللغة العبرية، في الليلة ذاتها، إن «الصواريخ ستفتح أبواب الحرية للعرب، وستجعلنا قادرين على استرداد الوطن السليب الذي تم السطو عليه عبر مؤامرات الصهيونية والإمبريالية»، في إشارة إلى فلسطين.

«الموساد» آخر من يعلم

أصاب الإعلان المصري إسرائيل بالرعب، وقوّى من هذه الحالة عوامل شتى، أهمها أن جهاز «الموساد» الإسرائيلي رغم كل سمعته والهالة المصنوعة حوله، فوجئ بالخبر وتفصيلاته، كما أن كون العلماء المديرين للمشروع ألمانيين من حقبة هتلر، أصابهم بشعور كما لو أن النفوذ النازي مستمر في العالم بأشكال متجددة. وقد تعزز الخوف أكثر بعد الكشف عن أن العلماء المسؤولين عن المشروع ليسوا باحثين مغمورين، وإنما هم من أهم العلماء الألمان الذين عملوا في قاعدة «بينومند» في البلطيق، حيث كان يتم تطوير أكثر الأسلحة تطوراً في حقبة الرايخ الثالث، وقد عبّر عن هذا مدير وزارة الدفاع وقتها، اشرين ناتان، حين قال «أشعر بالضياع كما لو كانت السماء تسقط على رؤوسنا، لقد تحدث لي بن غوريون مراراً وتكراراً، لم يعد ينام الليل، والكابوس الوحيد الذي يلازمه أنه أحضر اليهود الناجين من الهولوكوست من تخوم أوروبا ليحشرهم ويعرضهم لهولوكوست آخر هنا في إسرائيل».

وضع مشروع الصواريخ المصرية «الموساد» الإسرائيلي في مكان حرج، فبدأ محاولاته للتعاطي مع القصة بكل السبل، وكانت أولى جبهاته السعي لاختراق السفارات والقنصليات والمكاتب المصرية بالخارج، ونجح عبر مساعٍ مكثفة في تجنيد موظف سويسري في مكتب «مصر للطيران» في زيوريخ، الذي استطاع حسب «نيوزويك» مساعدة «الموساد» في تفتيش وقراءة وتصوير حقيبة البريد المصري مرتين أسبوعياً، ما مكّن «الموساد» من تحديد أسماء علماء شاركوا في مشروع الصواريخ، هم يوجين سانجر، ووولفانج بلز وبول جويرك، وهاينز جروك، وجميعهم تم تهميشهم بعد هزيمة هتلر، فعرضوا التعاون مع عبدالناصر، الذي التقط الفرصة فوجههم إلى قائد مخابرات القوات الجوية المصرية وقتها، الجنرال عصام الدين محمود خليل، حيث عزلهم عن الجيش المصري وقيدهم بالمشروع، فقاموا بتجنيد 35 عالماً وفنياً ألمانياً آخرين من زملائهم، ظل بعضهم في ألمانيا تحت غطاء اسم شركة وهمية هي «انترا كويرشال».

وتزعم «نيوزويك»، استناداً إلى الكتاب الاستخباري الإسرائيلي، أن المشروع استهدف صنع 900 صاروخ، مضيفة أن «الإسرائيليين خافوا أن يكون هدف المصريين الحقيقي هو تزويد الصواريخ برؤوس كيماوية ونووية».

اقتلوهم.. اخطفوهم.. جندوهم

وتقول المجلة إن «الموساد» الإسرائيلي حدّد خطته الأولية بضرورة الاقتراب من العلماء الألمان منفذي المشروع، لقتلهم أو اختطافهم أو تجنيدهم، وكانت البداية اتصال عميل لـ«الموساد»، سمى نفسه صالح قاهر، بهاينز جروك الذي كان مقيماً بالمشروع الواجهة بألمانيا، وأوهمه أنه موفد من سعيد نديم مساعد الجنرال عصام خليل، حتى تمكن من اختطافه والإتيان به إلى إسرائيل. وطبقاً لما تقوله المجلة واستناداً للكتاب، فإن جروك لزم الصمت فترة طويلة في سجن الموساد بإسرائيل، ثم بدأ التعاون التدريجي معهم، حتى انتهى به الأمر بعد شهور إلى الإفصاح عن كل تفاصيل المشروع المصري، ولما لم يعد هناك ما يقدمه لهم، عرض عليهم أن يعود لألمانيا ويعمل لمصلحتهم، لكنهم رفضوا وفضلوا أن يقوم أحد رجال الموساد باصطحابه للصحراء وقتله وحمل جثته في سيارة وإلقائها في البحر.

روايات متناقضة

وتتناقض هذه الرواية مع رواية أخرى نشرتها صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية في 27 مارس 2016، التي أحاطتها بغلاف من السرية وقتها، مؤكدة أن مصادرها العليمة أكدت عليها عدم ذكر اسمها، وقالت فيها إن جروك قتل على يد قائده النازي، اوتو سوركينزي، الذي جنده الموساد، داخل غابة في تخوم مدينة ميونيخ.

على أي حال انتقل هدف التصفية للعلماء الألمان العاملين في مشروع الصواريخ الناصري لحالة تنافس بين جهازَي «الموساد» ووحدة «أمان 188» التابعة للمخابرات العسكرية الإسرائيلية، وانتهت المنافسة إلى الاعتماد على أسلوب الطرود المفخخة كوسيلة للعمل، وهو أسلوب تمت تجربته في قتل خبير التعذيب النازي لويس برونر، الذي كان في دمشق يدرب أجهزة الأمن السورية على كيفية الاستجواب، ونزع الاعترافات من المعتقلين السياسيين.

«الموساد» لا يقتل الأطفال!

تورد مجلة «نيوزويك» تفاصيل خلاف غير مقنع بين الموساد الإسرائيلي ووحدة «أمان 180»، يبرز في منطقه عدم تساوقه مع منطق أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، حيث تقول المجلة، استناداً للكتاب بطبيعة الحال، إن مسؤول الموساد، رافيل ايتان، رفض منطق الطرود المفخخة، وقال إن «هذه الوسيلة لا يمكن السيطرة عليها، فساعي البريد قد يفتح المظروف، وقد يفتحه طفل فينفجر فيه، فمن يقبل هذا؟»، لكن على أي حال، رغم هذا الخلاف المزعوم، واصل الطرفان تعاونهما، واقتحم رجال الموساد مكتب «مصر الطيران» عبر ثلاث محاولات متتالية، وفخخوا طرودا ناسفة موجهة للعالم الألماني (بلز) لكن رغم كل محاولاتهم لحصر الطرد في شخصه، قامت سكرتيرته (ويندي) بفتح الطرد، ودفعت الثمن فقد أطرافها وبصرها دفعة واحدة، الأمر الذي نبه السلطات المصرية لضرورة تمرير الطرود على جهاز كشف مزود بأشعة إكس، والاستعانة بخبرات المخابرات السوفييتية، وبتجنيد ضابط مخابرات ألماني سابق لتأمين زملائه والمشروع.

أضاف الموساد لخطته بند تهديد العلماء وأسرهم بريدياً، أو عبر زيارات مباشرة لهم في منازلهم في منتصف الليل، لكن هذه العمليات كان مصيرها الفشل، وساء الأمر بعد القبض على عميل للموساد هدد ابنة عالم ألماني سابق، وسُجن العميل لفترة قصيرة.

أزمة أكاذيب «الموساد»

تسبب هاليل، بحسب المجلة والكتاب، في أزمة، حيث «جرّ بلداً بأكمله في الطريق الخطأ»، وربط بين علماء الصواريخ ووجود المجرم النازي، دكتور هانز ايزلر، في القاهرة، رغم عدم وجود رابط، كما استدعى «لجنة المحررين الصحافيين»، وهي لجنة غير موجودة إلا في إسرائيل، مهمتها تنفيذ الرقابة الذاتية حسب توجيهات الحكومة، وطلب منها مدّه بثلاثة صحافيين، جندهم وأرسلهم إلى أوروبا، لغسل المعلومات على طريقة غسل الأموال، وزرع تقارير مفبركة في أوروبا عن نووي عبدالناصر، وتعاون ألمانيا ذات الماضي النازي، وقد أصابت هذه التقارير إسرائيل بالرعب والأذي، سواء من حيث هلع اليهود الناجين قبل فترة بسيطة من النازية، أو إفساد علاقة إسرائيل بألمانيا الغربية، وحاول بن غوريون وقف حملة هاريل من دون جدوي، فاستدعاه ووبخه فقدم الأخير استقالته، لكن مضاعفات الأزمة تواصلت لتطيح ببن غوريون نفسه.

تولى نزلي أميت رئاسة الموساد خلفاً لهاليل، فواصل خطة الاغتيالات وكانت أولى ثمار سياسته قنبلة في مكتب بريد المعادي، وُجّهت إلى الدكتور ديبوش وتسببت في إصابة ساعي البريد بالعمى، وكثف من حملاته على واجهة المشروع بالخارج، فتم الاختراق الليلي لمكتب «مصر للطيران» في فرانكفورت خلال الفترة بين أغسطس 1964 وديسمبر 1966، أكثر من 56 مرة، لكن التغير الحقيقي لـ(أميت) هو تخطيطه لاختراق مشروع الصواريخ من الداخل، وتدميره من أعلى إلى أسفل.

الاختراق من الداخل

قدم (أميت) في عمل الموساد قفزة كبيرة، وهو التخطيط لمواجهة ضابط المخابرات الألماني النازي، فالنتين، الذي يقوم بتأمين العلماء الألمان بالداخل وجزء من المشروع الخارجي، واعتبر (أميت) أن ضربة البداية الحقيقية لفالنتين هي تجنيد قائده العسكري السابق، اوتو سوركينزي، الذي يعمل حالياً تاجر سلاح. كان لدى سوركينزي سجل منفّر جداً من منظور أي إسرائيلي تقليدي. فقد كان نازياً متشدداً، وكان قائد العمليات الخاص بالفوهرر هتلر، وأحد منفذي ما سمي الـ«كريسنال ناشت»، وهي ليلة القبض على اليهود في ألمانيا، ومنفذ عملية إنقاذ بنتو موسوليني بتكليف خاص من هتلر، وأحد القلائل الذين يسعون لإقامة «نازية جديدة» في ألمانيا، لكن (أميت) بني خطته على فرضية، أنه كلما زاد امتلاك سوركينزي لنقاط من هذا النوع، كان تجنيده أكثر قيمة.

تويتر