طبقاً لأحدث كتاب حول جرائم القتل التي تنفّذها الاستخبارات الإسرائيلية

تل أبيب ترتكب اغتيالات ممنهجـــــــة يروح ضحيتها أبرياء.. مستشهدة بالتلمود البــــــابلي

صورة

بعد ورود تقارير تفيد بأن جهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد) ساعد أجهزة المخابرات الألمانية في اكتشاف شبكة عملاء للحرس الثوري الإيراني في ألمانيا، نشرت مجلة «دير شبيغل» مقابلة مع الصحافي والمؤلف والخبير في تاريخ المخابرات الإسرائيلية، رونين بيرغمان.

وكان بيرغمان يتحدث عن كتابه الجديد، الذي من المفترض أن يصدر هذا الشهر «انهض واقتله أولاً: التاريخ السري للاغتيالات الإسرائيلية المستهدفة». وفي هذه المقابلة، يقول بيرغمان إن «الموساد» قتل ما لا يقل عن 3000 شخص، لكنه أشار الى أن هذه الاغتيالات قضت على أشخاص أبرياء تواجدوا «في المكان الخطأ وفي الوقت الخطأ».

وفي هذا الصدد، ذكر بيرغمان أنه خلال فترة الانتفاضة الثانية، التي امتدت من خريف 2000 إلى 2005، صدرت أوامر بتصفية أربعة إلى خمسة أشخاص كل يوم، بهدف تدمير حركة المقاومة الإسلامية (حماس). ويعتقد المؤلف أن حماية الدولة اليهودية تطلبت ارتباط إسرائيل بعلاقة خاصة مع أعدائها، ولأن الزعماء أمثال جمال عبدالناصر، ياسر عرفات، صدام حسين، محمود أحمدي نجاد «كانوا مساوين لهتلر»، ما يعني مناهضتهم، إلا أن مناهضتهم تظل عملاً اختيارياً امتثالاً للقوانين الدولية.

وأوردت صحيفة «نيويورك تايمز» مقتطفات من الكتاب تحت عنوان «كيف استطاع الزعيم الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، أن يتفادى آلة الاغتيال التي يديرها جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (موساد)». وحكى المؤلف، على لسان مسؤول إسرائيلي سابق، أن قوات الأمن الاسرائيلية حاولت، ولعقود عدة، اغتيال رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عرفات، لكنها فشلت في مسعاها.

عام 1982 كاد «الموساد» ان يرتكب خطأ جسيماً عندما اعتقد ان إحدى طائرات النقل المدنية تقل عرفات من العاصمة اليونانية أثينا الى القاهرة، وتم إرسال طائرتين حربيتين من طراز «إف 15». كانت الطائرة تحلق فوق مياه المتوسط عندما اقتربت منها المقاتلتان الاسرائيليتان، وكانت هي الطائرة نفسها، كما وردت أوصافها من مخبرين سريين مزروعين في منظمة التحرير الفلسطينية، وأكد ذلك ايضاً مخبرون من «الموساد» استغلوا التراخي الأمني في مطار أثينا، وشاهدوا شخصاً يشبه ياسر عرفات برفقة بعض الاشخاص الآخرين يستقلون الطائرة نفسها.

 

أصدقاء أقوياء

إضافة إلى كسبه حب شعبه من خلال فشل محاولات الاغتيال التي استهدفته، بدأ عرفات أيضاً في تكوين العديد من الأصدقاء الأقوياء في الخارج. فقد اعتبره زعيم ألمانيا الشرقية الراحل، إريك هونيكر، ثورياً حقيقياً، مثل فيدل كاسترو، وقدم جواسيسه للفلسطينيين المعلومات الاستخبارية والأسلحة. وفي الوقت نفسه، دعمت وكالة الاستخبارات الأميركية المركزية (سي آي إيه) عرفات من قناة خلفية، وهو جهد مقرون بدعم على أعلى المستويات. ومع اقتراب نهاية السبعينات من القرن الماضي، بدا عرفات غير قابل للمزايدة، فقد أصبح رئيس دولة بحكم الواقع، مستفيداً من دعم واسع، وأصبح اغتيال رجل من هذا القبيل من شأنه أن يكسر جميع قواعد العلاقات الدولية، ولم يكن أمام الإسرائيليين إلا أن يجزوا أسنانهم من الغضب.


• لم يكن هناك هدف فشل جهاز الاغتيال الإسرائيلي في اصطياده مثل ما فشل مع ياسر عرفات، الذي توفي في عام 2004. وفي بعض الأحيان كان عرفات يهرب ببساطة، وأحياناً يلغي المسؤولون عملية الاغتيال، لأن الهدف لا يمكن تأكيده، أو لأن الخسائر بين المدنيين قد تكون عالية جداً. وفي كل مرة تضع الرغبة في قتل عرفات إسرائيل في قلب نقاش مستفيض حول ما يجب على إسرائيل أن تفعله، وما لا ينبغي أن تفعله للبقاء على قيد الحياة.

• إسرائيل منذ الحرب العالمية الثانية، أقدمت على الاغتيالات والقتل المستهدف أكثر من أي بلد آخر في الغرب، ما أدى في كثير من الحالات إلى تعريض حياة المدنيين للخطر.

يقول المسؤول الإسرائيلي السابق: «كان الوقت بعد ظهر يوم 23 أكتوبر 1982، وكانت كل العيون متجهة نحو قائد القوة الجوية، الجنرال ديفيد إيفري، وكان الجميع يتوقعون أمراً بفتح النار على الطائرة، الا أن إيفري، الذي يتميز بالتأني، ظل متردداً، كان يعلم أن طياريه قد تأكدوا بصرياً من هوية الطائرة، وأن مهمته - إيفري - تتمثل في القضاء على الهدف، وليس تحديده، لكن ظلت الشكوك تساوره، واصدر الأوامر للطيارين بعبارة «سلبي»، «أكرر: سلبي لا تفتحوا النار».

وفي الوقت نفسه ظل وزير الدفاع، أرييل شارون، يضغط باستمرار على رئيس أركان قوات الدفاع الإسرائيلية، اللفتنانت جنرال رافائيل إيتان، من أجل المضي قدماً في العملية، كان إيفري يدرك جيداً العواقب الكارثية، إذا أسقطت إسرائيل الطائرة الخاطئة، وكرر لطياريه «لا تطلقوا النار دون أن أصدر لكم الأوامر»، «واضح؟، حتى لو تعطلت الاتصالات».

بعد سنوات من ذلك روى إيفري للمؤلف أنه لم يكن مقتنعاً بسفر عرفات للقاهرة، إذ ليس لديه ما يبحث عنه هناك في ذلك الوقت بالذات، وإذا كان مسافراً بالفعل الى هناك، فلماذا يستغل هذا النوع من طائرات النقل؟ لأنه لا يليق برجل في مركزه، ولهذا طلب من «الموساد» التأكد من ماهية هذا المسافر. إلا أن العميلين أصرا مرة أخرى على أنه عرفات، وأضافا «لقد أطال الهدف لحيته لمزيد من التضليل»، وأكدا من جديد الهوية الإيجابية للرجل.

في الساعة 4:30 بعد الظهر أكد العميلان أن الطائرة أقلعت، بيد أن الشكوك مازالت تساور إيفري، وبعد دقائق تلقى عبر الهاتف أوامر من إيتان بإسقاط الطائرة، وبالتالي أمر ايفري طياري «إف - 15» بالإقلاع، ولن يستغرق ذلك وقتاً طويلاً لاعتراض طائرة النقل البطيئة.

لاتزال الشكوك تحوم حول إيفري، على الرغم من أن الطائرات اقتربت من الهدف، فطلب من مساعده الاتصال بـ«الموساد» مرة أخرى، من أجل تأكيد ثانٍ بأن عرفات كان على متن الطائرة وليس مجرد شخص يشبهه. كان يريد مزيداً من الوقت. ويدرك أيضاً أن الطيارين يمكن أن يكونا منفعلين أكثر من اللازم، وربما جعلهما ذلك يبحثان عن سبب لإطلاق النار على الهدف، لهذا طلب منهما التريث.

وظل إيتان يتصل لمعرفة ما يجري، وما اذا كان أمر إسقاط الطائرة قد صدر بالفعل. فعلى الرغم من ان العنصرين أكدا من جديد ان الشخص هو عرفات نفسه، اتصل إيفري بإيتان، مخاطباً إياه باسمه الكودي «رافول»، مضيفاً «ليس لدينا حتى الآن تأكيد ايجابي نهائي».

أبلغ ايفري مديرية الاستخبارات العسكرية (المعروفة باسم «أمان») و«الموساد»، كلاً على حدة، بأن الرصد البصري لم يكن كافياً، وطالب بتأكيد آخر بأن عرفات على متن الطائرة. وحدث ذلك بعد أن طلب الطياران الإذن بالاشتباك. لم يكن أمام إيفري أن يماطل لفترة أطول، بعد أن تلقى أمراً مباشراً، فإذا لم يسقط الطائرة في الحال، عليه أن يسوق مبررات مقنعة يشرح فيها لإيتان وشارون عدم إقدامه على ذلك.

قبل الساعة الخامسة بخمس دقائق، أي بعد 25 دقيقة من إقلاع المقاتلات، رن هاتف القوة الجوية المرتبط مباشرة بالخط الآمن بمقر «الموساد»، وقال المتحدث من الطرف الآخر «بدأت الشكوك تساورني». كان لـ«الموساد» مصادر أخرى تصر على أن عرفات لم يكن في اليونان، وأن الرجل الموجود على متن الطائرة لا يمكن أن يكون عرفات.

وفي ظل غياب أي أمر آخر، واصلت مقاتلتا «إف 15» تعقبهما لطائرة النقل المدنية في انتظار مزيد من المعلومات، أي إبقاء العين على الهدف والانتظار.

عند الساعة 5:23 مساء، ورد تقرير آخر من القوة الجوية يفيد بأن مصادر «الموساد» و«أمان» تؤكد أن الرجل الموجود على متن الطائرة هو فتحي عرفات، شقيق ياسر الأصغر، وهو طبيب أطفال، ومؤسس جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني. وكان معه 30 طفلاً فلسطينياً جرحى ناجين من المذبحة التي ارتكبتها ميليشيات الكتائب المارونية اللبنانية في مخيمي صبرا وشاتيلا في بيروت قبل شهر. وكان فتحي عرفات يرافقهم الى القاهرة لتلقي العلاج.

تنفس إيفري الصعداء، وأصدر أوامره لرجاله «عودوا أدراجكم»، وكان هذا الخيار الذي واجهه إيفري في ذلك اليوم من أكتوبر 1982 مثالاً واحداً فقط، من جملة المعضلات التي واجهت العديد من السلطات الإسرائيلية على مدى التاريخ القصير لهذا البلد.

يقول الكاتب: «بوصفي مراسلاً في إسرائيل، أجريت مقابلات مع مئات الأشخاص في مؤسساتها الاستخباراتية والدفاعية، ودرست آلاف الوثائق المصنفة التي كشفت عن تاريخ خفي يثير الدهشة، حتى في سياق سمعة إسرائيل الشرسة بالفعل. وبرر كثير من الناس الذين تحدثت معهم هذه الافعال بحجة أن الإسرائيليين يفعلون ذلك لأنهم يستشهدون بالتلمود البابلي: (إذا جاء شخص ليقتلك، انهض واقتله قبل أن يقتلك). وذكرت في تقريري أن إسرائيل منذ الحرب العالمية الثانية، أقدمت على الاغتيالات والقتل المستهدف أكثر من أي بلد آخر في الغرب، ما أدى في كثير من الحالات إلى تعريض حياة المدنيين للخطر. ولكنني اكتشفت أيضاً تاريخاً طويلاً من المناقشات الداخلية العميقة - التي غالباً ما تبعث على الرهبة - حول كيفية الحفاظ على الدولة. هل يجوز لأمة أن تستخدم أساليب الإرهاب؟ هل يقتضي الأمر منها تعريض المدنيين الأبرياء للخطر في مثل هذه العمليات؟ ما كلفة ذلك؟ وما المبررات؟».

يريد الإسرائيليون، على نحو متزايد، الحديث في هذا الشأن. يقول الكاتب: «كان لي حديث في عام 2011 مع ضابط كبير في مقهى شمال تل أبيب، حيث علمت منه للمرة الأولى كيف أن شارون أمر بإسقاط طائرة النقل التي كان يعتقد أنها تقل عرفات في عام 1982. ووصف كل شيء بالتفصيل، لكنه فرض علي شروطاً قاسية لنشر القصة، ويتمثل هذا الشرط في أن يروي هذه القصة شخص آخر حدده هو. ذهبت لرؤية هذا الرجل، وكنت أعرف مدى صعوبة إقناعه بالحديث في هذا الموضوع. ولما التقيته حمت حول الموضوع بطريقة دائرية، قبل أن أتطرق إلى النقطة ذات الصلة. رمقني الرجل بنظرة حديدية، لكنه تحول بعد ذلك الى التعبير اللين والحزين في الوقت ذاته. وقال لي: (منذ أكثر من 30 عاماً، انتظرت ان يأتي شخص ما ويسألني عن هذه القصة)».

لم يكن هناك هدف فشل جهاز الاغتيال الإسرائيلي في اصطياده مثل ما فشل مع ياسر عرفات، الذي توفي في عام 2004. وفي بعض الأحيان كان عرفات يهرب ببساطة، وأحياناً يلغي المسؤولون عملية الاغتيال، لأن الهدف لا يمكن تأكيده، أو لأن الخسائر بين المدنيين قد تكون عالية جداً. وفي كل مرة تضع الرغبة في قتل عرفات إسرائيل في قلب نقاش مستفيض حول ما يجب على اسرائيل أن تفعله، وما لا ينبغي أن تفعله للبقاء على قيد الحياة.

في السنوات التي أعقبت تأسيس عرفات لمنظمة «فتح»، وهو الكيان الذي سبق منظمة التحرير الفلسطينية، في عام 1959، لم يُعره «الموساد» أي اعتبار هو وأصدقاؤه بوصفهم طلاباً ومثقفين، وبحلول عام 1965، عندما كانت حركة فتح تنفذ أول عملياتها ضد إسرائيل، طلب رئيس عمليات «الموساد» في أوروبا، رافي إيتان، (لا علاقة له برافول إيتان) من مدير «الموساد»، مائير أميت، أن يأمر فرقة من «الموساد» باقتحام شقة كان عرفات يستخدمها كقاعدة عمليات في فرانكفورت وقتله. وكتب لأميت قائلاً: «يمكننا أن نفعل ذلك بسهولة»، وأضاف «يمكننا الوصول إلى الهدف، وهذه فرصة قد لا نحصل عليها مرة أخرى». ووفقاً لإيتان، رفض أميت التوقيع. وقال إنه لا يرى المجموعة أكثر من مجرد عصابة من الشباب البلطجية. وقال لي إيتان بعد عقود من ذلك «يا للأسف لم يضعوا اعتباراً لنصيحتي». وأضاف «كنا نستطيع ان نوفر على أنفسنا الكثير من الجهد والحزن».

لقد ساد إسرائيل اعتقاد بأن التخلص من زعيم منظمة التحرير الفلسطينية سيحل المشكلة الفلسطينية برمتها، وظل هذا الرأي هو السائد في المخابرات الإسرائيلية لسنوات عدة. وذكر قائد الشين بيت السابق في القدس والضفة الغربية، يهودا أرئيل، في مذكراته في أواخر الستينات «على إسرائيل أن تضرب قلب المنظمات الإرهابية». وأضاف ان «القضاء على (أبوعمار) هو شرط مسبق لإيجاد حل للمشكلة الفلسطينية».

وهذا بالضبط ما حاولت إسرائيل القيام به مرات عدة في ما بعد، وفي بعض الأحيان كانت الجهود تتمثل في عمل عسكري مباشر. فبعد حرب الأيام الستة مباشرة، أطلق عرفات سلسلة من عمليات حرب العصابات من القدس الشرقية والضفة الغربية. وبناءً على معلومات، اقتحم الجنود الإسرائيليون المنزل الذي كان يقيم فيه، في وقت متأخر من الليل، لكنهم وجدوا طعامه لايزال ساخناً على الطاولة.

وكانت بعض الخطط أكثر تفصيلاً، مستوحاة من فيلم «المرشح المنشوري»، حيث قضى الإسرائيليون ثلاثة أشهر في عام 1968 في محاولة لتحويل سجين فلسطيني إلى قاتل مبرمج. وخلال خمس ساعات من الافراج عنه للاضطلاع بمهمته، سلم نفسه الى الشرطة، وسلم مسدسه، وشرح أن المخابرات الاسرائيلية حاولت غسل دماغه لقتل عرفات. هذه المحاولات والعديد من المساعي الأخرى لم تفشل فحسب، لكنها سببت لإسرائيل إحراجاً كبيراً، كما أنها زادت من شعبية عرفات، الذي كان يروى حكايات هروبه المدهشة.

تويتر