بعد حماقة ترامب تجاه القدس

حان الوقت لأوروبا كي تقود عملية السلام في الشرق الأوسط

صورة

لطالما كان الصهاينة لا يحبون القدس، منذ أن بدأوا التخطيط لإقامة دولتهم، إذ حلم الأب الروحي للصهيونية، ثيودور هيرتزل، بعاصمة لإسرائيل في شمالها، على سفوح جبل الكرمل الجميلة، التي تطل على البحر الأبيض المتوسط ومياهه الدافئة. ولم يكن يشعر بأي ارتباط إزاء حائط البراق، بل إنه كان يحتقره، وكتب عنه ذات مرة، قائلاً: «يا لها من خرافة وتعصب من الجانبين».

لكن الصهاينة غيروا رأيهم بعد ذلك، ومنذ إعلان دولة إسرائيل قبل 70 عاماً، تم الإعلان أيضاً أن العاصمة هي القدس، حيث كانت مكانة هذه المدينة مثار نزاع دائم. ويبدو أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب سكب دلواً كبيراً من الزيت على نيران الصراع يوم الأربعاء الماضي، عندما أعلن أن الولايات المتحدة تعترف رسمياً بأن القدس عاصمة لإسرائيل، وأنه سيعمل على نقل السفارة الأميركية إليها، من مكانها الحالي في تل أبيب.

ترامب أثار غضب العرب

قرار ترامب لم يؤدِ إلى إثارة الغضب في الأراضي الإسرائيلية والفلسطينية، التي لا تزيد مساحتها على مساحة بلجيكا، فقط، وإنما في جميع أنحاء العالم العربي. فمن مصر إلى الأردن، أعرب قادة هذه الدول عن سخطهم، في حين أن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ذهب إلى أبعد من ذلك، حيث قال إن أميركا تقوم بإغراق ليس المنطقة فحسب، وإنما العالم في الجحيم، وربما يبدو ذلك مبالغة، لكن سفك الدماء بدأ الآن في الأراضي الفلسطينية، حيث قام الجنود الإسرائيليون بضرب المحتجين الفلسطينيين، في حين أن الصواريخ بدأت تطلق من قطاع غزة.

وواقع الأمر أن القدس تتضمن الآن «الكنيست»، والعديد من المؤسسات الحكومية الإسرائيلية، مثل البرلمان الإسرائيلي، ومقر رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، وكذلك مقر إقامة معظم الوزراء. لكن حتى الآن لم تقدم أي دولة في العالم على إنشاء سفارتها في القدس، لأن المجتمع الدولي، وبإجماع غير عادي، وافق على أن قضية عاصمة إسرائيل يجب حلها ضمن إطار اتفاقية السلام، التي لم يتم التوصل إليها حتى الآن. لكنّ الفلسطينيين يعتبرون القدس عاصمتهم أيضاً، وعلى الأقل إن الفلسطينيين الذين يقطنون في الشطر الشرقي من المدينة، يشكلون ثلث سكان المدينة. وتعتبر قضية القدس إحدى أكثر القضايا تعقيداً، التي تواجه عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، الأمر الذي يفسر سبب تركها دون مناقشة، في خطط السلام المتكررة حتى الآن.

والآن، قام ترامب بوضع العربة أمام الحصان، واعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، لأنه وعد بالقيام بذلك خلال حملته الانتخابية. لقد كانت خطوة تنطوي على الكثير من الحماقة، وهي تظهر أن ترامب يقف في المكان المعاكس تماماً لما يمكن اعتباره «صانع اتفاقية السلام»، إذ سلم نتنياهو هبة يريدها منذ زمن، وذلك دون مقابل. وبعد أن أعلن ترامب أن الإعلان عن الاعتراف بالقدس عاصمة إسرائيل «شرط ضروري لتحقيق السلام»، فإنه يظهر بما لا يدع مجالاً للشك مدى غطرسة هذا الرئيس، وهو يعتقد أنه عن طريق تجاهل كل ما تم الاتفاق عليه سابقاً من قرارات وإجماع دوليين، يمكنه أن يطرح شيئاً جديداً، لكن عملية السلام باتت غير ممكنة الآن، مهما ادعى ترامب بعلو صوته، أنه يريد «اتفاقاً رائعاً» لكلا الجانبين.

غطرسة

وفي حقيقة الأمر فإن هذه الخطوة، التي قام بها الرئيس ترامب عن غطرسة ودون اكتراث للآخرين، تجعل الولايات المتحدة غير مؤهلة لرعاية عملية السلام، وتفقدها صفة الوسيط النزيه بين الطرفين، إذ من غير المعقول أن يشارك الفلسطينيون في مفاوضات يرعاها طرف يعتبرونه عدواً لهم. وستشعر إسرائيل، التي طالما كانت ترفض تقديم أي تنازل للتوصل إلى اتفاق، بأنها أصبحت أكثر قوة كي تواصل تجاهلها لمطالب الطرف الآخر، للتوصل إلى اتفاق. وأظهرت حكومة نتنياهو دائماً أنها تفضل خلق الحقائق على الأرض، والاستمرار في بناء المستوطنات، وإخفاء الفلسطينيين وراء الجدران الملونة، في حين أن الفلسطينيين كانوا يشعرون دائماً بأنهم الخاسرون في كل الأحوال بنهاية المطاف. ويقال إن خطة السلام المزعومة، التي وضعها صهر الرئيس الأميركي غاريد كوشنر، لا تتضمن أياً من مطالبهم المهمة، وبناء عليه لماذا يواصلون المفاوضات إذا كانوا يعرفون النتيجة سلفاً؟

ولن ينجم عن قرار ترامب إلا تزايد عدد الخاسرين، وستكون الولايات المتحدة أحدهم، نظراً إلى أنها ضحت بصدقيتها في الشرق الأوسط. ويمكن لجهود واشنطن لمواجهة التحديات الإيرانية في المنطقة أن تنهار. والإسرائيليون أنفسهم، الذين يحتفلون الآن بهبة ترامب، يمكن أن يجدوا أنفسهم بين الخاسرين نتيجة هذا القرار، ليس لأن هذا الصراع كان دائماً يؤدي إلى تعزيز قوة المتطرفين، وإنما لأن قرار ترامب يمكن أن يزيد عزلة إسرائيل في أوروبا والعالم، أكثر مما هي عليه الآن.

ويتحدث المسؤولون الإسرائيليون هذه الأيام، وبصورة متكررة، عن أوجه الشبه بينهم وبين أوروبا، حيث يؤكدون على القيم، والثقافة والاقتصاد. لكن لماذا يؤكد الأوروبيون باستمرار على القضية الفلسطينية، إنهم يستغربون ذلك؟ إنهم يؤكدون على أن الأوروبيين يركزون على قضية ثانوية. وبالطبع فإن ذلك يرجع إلى ما يمكن اعتباره مسألة القيم السياسية لدى الأوروبيين، وبالتالي لابد من التأكيد على أن حل القضية الفلسطينية يعتبر في صلب العلاقة بين إسرائيل والاتحاد الأوروبي. لكن قرار ترامب يجعل هذا الحل أكثر صعوبة، إذ إنه يبعد الأوروبيين والإسرائيليين عن بعضهم بعضاً أكثر. ويسمح لأعمق جرح في العلاقة بين الغرب والعالم العربي بالمزيد من النزف.

كلام فارغ

وبفضل ترامب ينبغي أن يكون جلياً للجميع الآن أن عملية السلام أصبحت عبارة عن كلام فارغ المضمون، ولن تعمل بصورة فعلية بعد الآن. وأن العلاقة الهادئة نسبياً بين الفلسطينيين والإسرائيليين، التي شهدناها أخيراً هي الاستثناء وليس العادة.

وهذا يعني أنه حان الوقت بالنسبة لنا نحن الأوروبيين، خصوصاً الألمان، أن نستنبط أفكاراً وصيغاً جديدة، مهما بلغت من الصعوبة. ويجب أن تكون هذه الأفكار والصيغ متطورة للتعاون مع الدول العربية المعتدلة، كلما كان ذلك ممكناً. ويرى وزير الخارجية الألماني، سيغمار غابريل، الذي كان يطالب بأن تكون ألمانيا أكثر جرأة في السياسة الخارجية، أن الوضع في الشرق الأوسط يشكل فرصة مثالية، وينبغي ألا يكون أمام أوروبا صراع أكثر أهمية من ذلك الذي يجري بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

تويتر