بعد ربع قرن على نهاية الحرب الباردة

إعادة النظر في السياسة النــــــــــــووية الأميركية باتت ضرورة ملحّة (3-3)

صورة

أصدرت مجلة «فورين أفيرز» التي تعنى بالشؤون السياسية ملفاً متكاملاً يعكس كيفية معالجة حروب أميركا التي لا تنتهي، وضرورة صياغة الإدارة الأميركية الجديدة لعقيدة سياسية جديدة بدلاً من الموجودة حالياً، ويتحدث الملف أيضاً عن الحد من تقليص الموازنة العسكرية الأميركية لكي تستطيع هذه القوات مقارعة الخطوب الماثلة في الوقت الراهن مثل «داعش»، وغيره من التهديدات، ومن أجل ذلك يقترح الكاتب صياغة استراتيجية دفاعية جديدة.

وستنشر «الإمارات اليوم» تباعاً أهم ثلاثة ملفات: العقيدة الأميركية الجديدة، واستراتيجية الدفاع الجديدة، وتعزيز القوات الأميركية لتصبح في وضع أفضل.


على الرغم من أن الرئيس الأميركي، باراك أوباما، قال بعد أربعة أشهر من بدء رئاسته، إنه يهدف إلى عالم خالٍ من الأسلحة النووية، إلا أنه وافق بعد مرور ثماني سنوات على برنامج لتطوير الأسلحة النووية الأميركية، والذي تبلغ كلفته 35 مليار دولار. لكن أوباما دافع عن نفسه أمام من وصفوه بالمنافق، وقال إنه يتمنى فعلاً الوصول إلى عالم خالٍ من الأسلحة النووية ولو بعد حين، بيد أن البرنامج الحالي يهدف إلى الحفاظ على الترسانة الأميركية الحالية، لكن ذلك يطرح سؤالاً، مفاده: هل الولايات المتحدة بحاجة إلى الترسانة الموجودة حالياً؟

تخفيض الأسلحة النووية

عندما انتهت الحرب الباردة، توقف سباق التسلح النووي، وتم تخفيض الترسانة النووية الأميركية، التي بلغت عام 1967 نحو 31 ألفاً و255 سلاحاً نووياً، إلى 19 ألفاً وثمانية أسلحة بحلول عام 1991، ويرجع ذلك بصورة أساسية إلى تفكيك الأسلحة النووية التكتيكية في أوروبا الغربية وكوريا الجنوبية. وتم تخفيض هذه العدد إلى النصف خلال العقد التالي، ومرة ثانية تم تخفيضه إلى النصف خلال العقد الذي تلاه. ونجمت بعض هذه التخفيضات عن اتفاقيات الحد من الأسلحة النووية، التي بدأت في سبعينات القرن الماضي.

أصدرت مجلة «فورين أفيرز»، التي تعنى بالشؤون السياسية، ملفاً متكاملاً، يعكس كيفية معالجة حروب أميركا التي لا تنتهي، وضرورة صياغة الإدارة الأميركية الجديدة لعقيدة سياسية جديدة، بدلاً من الموجودة حالياً، ويتحدث الملف أيضاً عن الحد من تقليص الموازنة العسكرية الأميركية، لكي تستطيع هذه القوات مقارعة الخطوب الماثلة في الوقت الراهن، مثل «داعش»، وغيره من التهديدات، ومن أجل ذلك يقترح الكاتب صياغة استراتيجية دفاعية جديدة.

«الشيطان»

فيما تبلغ القوة التفجيرية لقنبلة هيروشيما 15 كيلوطن فقط، أو ما يعادل 15 ألف طن من TNT، إلا أنها قتلت 70 ألف شخص. بالمقارنة، فإن صاروخاً واحداً من SS-18، يحمل ما يصل إلى 10 رؤوس نووية منفصلة، كل منها يعادل 750 كيلوطن تقريباً، وبعضها مزوّد برأس واحد عملاق 20 ألف كيلوطن.

خلال السنوات الأولى من عمر الصاروخ، كانت الولايات المتحدة متفوقة على روسيا في التكنولوجيا والعدد. لكن في بداية السبعينات عندما بدأ صاروخ SS-18، دخول الخدمة بأعداد كبيرة، استطاعت موسكو سدّ الفجوة الصاروخية، وأصبحت في المقدمة. في عام 1990، كانت موسكو تمتلك مخزوناً مكوناً من نحو 40 ألف رأس نووي (مقابل 28 ألفاً عند الولايات المتحدة الأميركية)، لكن باستخدام فقط 3000 رأس من صواريخ SS-18، يمكن أن تُمحى كل الحياة البشرية في الولايات المتحدة، خلال 30 دقيقة.

تطلق منظمة حلف شمال الأطلسي، على منظومة الصواريخ هذه، اسم «الشيطان»، إنها صواريخ SS-18، التي تزن 209 آلاف كغ.

الصاروخ الروسي دقيق للغاية، وهو لا يخترق منصات الصواريخ الأميركية، التي يبلغ تصليبها 300 رطل لكل بوصة مربعة، وتدميرها فحسب، بل يستطيع تدمير المنصات التي يبلغ تصليبها 6000 رطل لكل بوصة مربعة.

من الواضح أن أوباما يدرس هذا السؤال جيداً. وكان أعضاء جمهوريون من الكونغرس، قد ذكروا الرئيس أوباما بأنه في عام 2010، وعد بتحديث الأسلحة النووية، وحذروا من التراجع عن هذه الالتزامات.

وبعد ربع قرن من نهاية الحرب الباردة، تقف الولايات المتحدة على شفا جدل نووي آخر. وفي ثمانينات القرن الماضي سيطرت النقاشات النووية على مجمع قضايا الأمن القومي، إلى درجة أن المختصين في هذا المجال، الذين تقل أعمارهم عن 50 عاماً تقريباً، يجدون ذلك أمراً مربكاً.

وعلى الرغم من التوتر بين الولايات المتحدة وروسيا، في عهد الرئيس فلاديمير بوتين، إلا أن هذا النوع من المنافسة جرى تجاهله أخيراً. وليس من المتوقع أن يكون هناك من يحلم بالعودة إلى عبارات مثل «توازن القوى» مثلاً، وبناء عليه فإن الوقت المثالي كي نطرح الأسئلة الأساسية التالية: لماذا تحتاج الولايات المتحدة للأسلحة النووية؟ وما الكمية المطلوبة؟ ومن أي أنواع تكفيها؟

تفاصيل أهوال الضربة النووية

لطالما كان النقاش العام حول هذه الأسئلة مخادعاً. وكان وزير الدفاع في إدارة الرئيس جون كينيدي، واسمه روبرت ماكنمارا، قد ابتكر صيغة «الردع المحدد»، وهو مفهوم يقصد به «التدمير المشترك المؤكد»، أي إذا قام الاتحاد السوفييتي بتوجيه ضربة إلى الولايات المتحدة، فإنها سترد بضربة انتقامية بكمية من الأسلحة النووية، التي تؤدي إلى تدمير أكبر 200 مدينة في روسيا، الأمر الذي سيردع روسيا عن توجيه الضربة الأولى.

وفي حقيقة الأمر، إن هذه الصيغة كانت طريقة ماكنمارا، للجم شهية الجيش لتخزين المزيد من الأسلحة، إذ إن رئيس الأركان كان قد طالب بـ10 آلاف صاروخ باليستي عابر للقارات، فسمح لهم ماكنمارا بامتلاك 1000 فقط.

ومع مواصلة الاتحاد السوفييتي تطوير ترسانته النووية، في ستينات القرن الماضي، رداً على ترسانة الولايات المتحدة، وبالنظر إلى أن ماكنمارا حدد تعداد الصواريخ العابرة للقارات بـ1000 فقط، قام الجيش الأميركي بتزويدها برؤوس نووية عدة، لتكون قادرة على ضرب أهداف عدة معاً، الأمر الذي جعلها أخطر الأسلحة الفتاكة في العالم، ومجرد وجود هذه الأسلحة أوجد نوعاً من الاستقرار.

وكان آخر هذه التخفيضات نتيجة اتفاقية «ستارت الجديد»، وكان أوباما يأمل مزيداً من التخفيض، لكنه فشل بسبب عودة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الرئاسة من جديد. وكان أوباما يريد مزيداً من التخفيض في الأسلحة ذات المدى القصير والمتوسط، لكن نتيجة تفوق السلاح الأميركي التقليدي على الروسي، ليس هناك أي قائد روسي يمكن أن يوافق على ذلك. وعندما كان الاتحاد السوفييتي ومن ورائه حلف وارسو، يتفوقان على حلف شمال الأطلسي بالقدرة النارية على الحدود بين ألمانيا الشرقية والغربية، رأى رؤساء الولايات المتحدة أن ثمة حاجة إلى أسلحة نووية، بما فيها قنابل تكتيكية وحتى مدافع نووية، لموازنة القوة النارية لحلف وارسو. وكذلك فإن القادة الروس يرون السلاح النووي طريقة مناسبة لموازنة السلاح الأميركي، إذ تحتفظ الولايات المتحدة بـ184 قنبلة نووية في أوروبا، في مستودعات خاصة، ويمكن تحميلها على طائرات تكتيكية، في حين أن روسيا تحتفظ بـ 2000 قنبلة.

وعندما تصل مفاوضات تخفيض الأسلحة النووية مع روسيا إلى طريق مسدود، هل ينبغي على أوباما تخفيض أسلحته من جانب واحد؟ إذ إنه لم يعد مهماً في عالم السلاح النووي تحقيق التوازن بين الطرفين. لكن ينبغي على الرؤساء أن يحددوا المهمات التي ستحققها هذه الأسلحة، وضمان تمكن الجيش من تحقيقها في أكثر الافتراضات تشاؤماً. وإذا كان ذلك يعني امتلاك الجيش الأميركي 1000 قنبلة نووية، فليس من المهم أن تمتلك روسيا أو أي دولة أخرى معادية، أكثر من ذلك، لكن لا يمكن التعامل سياسياً بهذه الطريقة.

تحديث النظام

تمتلك الولايات المتحدة، هذه الأيام، 440 صاروخاً عابراً للقارات، و288 صاروخاً نووياً تحملها الغواصات، وهي موجودة ضمن 14 غواصة، و113 قاذفة استراتيجية محملة بـ2070 قنبلة ورأساً نووياً، إضافة إلى 2508 موجودة في المستودعات، تحسباً لتدهور العلاقات الدولية، وعودة سباق التسلح. وفي المقابل، فإن روسيا تمتلك 307 صواريخ عابرة للقارات، و176 صاروخاً محمولة على 11 غواصة، و70 قاذفة استراتيجية محملة بـ2600 قنبلة ورأس نووي، إضافة إلى 2400 رأس نووي في المستودعات. والصين لديها 143 صاروخاً عابراً للقارات و48 صاروخاً في أربع غواصات، وثلاث قاذفات مداها يمكن أن يصل إلى غرب الولايات المتحدة، وتستطيع حمل 180 قنبلة ورأساً نووياً.

والصين لم تلعب من قبل لعبة سباق التسلح النووي، وإنما هي تتبع مبدأ «الردع في أدنى حدوده»، حيث تمتلك كمية من الأسلحة، تكفي لإبعاد شرور اثنين من أعدائها هما الولايات المتحدة وروسيا. ويرى البعض أن الصين تقوم بصنع مزيد من الأسلحة النووية، في حين أن روسيا تجري برنامجاً لتحديث هذه الأسلحة. أما الولايات المتحدة فإنها لم تفعل أكثر من مجرد تبديل صواريخها وقاذفاتها القديمة بأخرى حديثة، وهذه الأخيرة ليست أكثر تدميراً من القديمة. وهي ليست على عجلة من أمرها للقيام بذلك، وحتى برنامج التطوير إذا تم تشغيله بصورة شاملة، فإنه سيكلف نحو 60 مليار دولار، من أجل صنع 642 صاروخاً جديداً عابراً للقارات، منها 400 سيتم نشرها في صوامع. و100 مليار دولار لصنع 12 غواصة نووية حاملة للصواريخ النووية، و55 مليار دولار لصنع 100 قاذفة استراتيجية، و30 مليار دولار، من أجل صناعة 1000 صاروخ كروز، و50 مليار دولار لتطوير أنظمة القيادة والسيطرة، ناهيك عن 80 مليار دولار من أجل إبقاء المختبرات النووية في حالة عمل، خلال العقد المقبل.

وإذا كانت الولايات المتحدة تبذل جهدها من أجل الحفاظ على التوازن النووي مع الاتحاد السوفييتي، ولإظهار مدى صدقيتها وإصرارها، إلا أن ذلك لم يعد منطقياً هذه الأيام، وبناء عليه ما السبب وراء الاحتفاظ بكل هذه الأسلحة المدمرة العابرة للقارات، والتي أصبحت الآن تعتبر من الماضي؟ لماذا لا يتم تفكيكها؟

ثمة منطق جديد لدى بعض الخبراء الاستراتيجيين والقوات الجوية، يسمونه «نظرية الإسفنج»، التي تقول من دون الصواريخ العابرة للقارات على الأرض لامتصاص الصواريخ الروسية، ستكون هناك ستة أهداف استراتيجية في الولايات المتحدة، وهي ثلاث قواعد للقاذفات في ولاية لويزيانا وميسوري وداكوتا الشمالية، إضافة إلى ميناءين لرسوّ الغواصات في بانغور بواشنطن وكنغز باي بولاية جورجيا، إضافة إلى هيئة القيادة الوطنية في واشنطن العاصمة. وعندها يمكن أن يقوم الروس بشن هجوم على هذه الأهداف الستة، ولن يكون الرئيس الاميركي قادراً على توجيه الضربة الانتقامية، لأنه سيخشى أن يرد الروس، الذين يمتلكون آلاف الرؤوس النووية، بضربة أقوى. وتضيف النظرية أنه من ناحية أخرى إذا حافظت الولايات المتحدة على 400 صاروخ عابر للقارات، فإن الروس يمكن أن يطلقوا عليها 400 رأس نووي لتدميرها جميعاً. ويمكن تعريف ذلك بأنه «هجوم شامل»، يستلزم رداً انتقامياً عنيفاً.

وهذه نظرية غريبة، فهي تفترض أن الرئيس الأميركي يجب أن يتحمل ضربة نووية روسية دون أن يرد عليها، على الرغم من أنها يمكن أن تودي بعشرات الملايين من المدنيين. ولنعتقد أن هذه النظرية فيها بعض الإيجابيات، وأن الجيش بحاجة إلى أكثر من ستة أهداف على الأراضي الاميركية، لتعمل كإسفنجات لامتصاص الهجوم النووي الروسي.

لكن على الرغم من ذلك، فإن القبول بأن الولايات المتحدة تحتاج إلى 400 صاروخ عابر للقارات، لتعمل كأنها 400 إسفنجة تمتص الهجمات الروسية، يمثل تشتيتاً كبيراً للقوى. لكن ما عدد الأهداف التي نحتاجها هل هي 10 أم 20؟ إنه بالتأكيد ليس أكثر من ذلك، كما أنه ليست هناك حاجة لأن تكون هذه الصواريخ (على افتراض أن هذه النظرية تملك بعض المنطق) قد تم تطويرها. وبعبارة أخرى فإنه يمكن القول إن الولايات المتحدة ليست بحاجة إلى صواريخ عابرة للقارات، تنشرها على أراضيها.

وتبقى الحقيقة، التي لا ينكرها أحد، وهي أن السلاح النووي يلعب دوراً مهماً في ردع العدوان، وخلال نزاع حدودي بين روسيا والصين، خلال الستينات من القرن الماضي، كان الكرملين يفكر في اجتياح قسم من الصين، لكنه أحجم عن ذلك، لأن الصين كانت تمتلك بضع قنابل نووية. وخلال معركة إخراج الجيش العراقي من الكويت، قدمت الولايات المتحدة مظلتها النووية لشركائها في الائتلاف من أجل طرد العراقيين، وتعهدت بالرد ضد العراقيين إذا قاموا بهجوم نووي، لكن الدول العربية بصورة خاصة لم تكن تثق بهذا التعهد. وفي ستينات القرن الماضي، طرح قادة فرنسا وبريطانيا مسألة صدقية حلف الأطلسي، وتساءلا ما إذا كانت الولايات المتحدة ستجازف بخسارة نيويورك لحماية لندن أو باريس.

لكن السيناريو السابق يثبت أن الردع لا يحتاج إلى الكثير من الأسلحة النووية، وإذا كان أوباما جاداً في إعادة تقييم خطة تحديث الأسلحة النووية، عليه البدء في إعادة تقييم الحاجة لهذا الردع. ولم يقم أي مسؤول مدني، بفحص خطة الحرب النووية الأميركية من حيث عدد الأهداف، وعدد الأسلحة الموجهة ضد أعداء أميركا، منذ المراجعة الأخيرة التي تمت قبل ربع قرن.

وبالنظر إلى أن المخزون النووي الروسي والأميركي قد تضاءل منذ ذلك الحين، فإن الحاجة إلى الردع انخفضت كثيراً بالتأكيد. وبالنظر إلى أن المخزون النووي لدى روسيا وأميركا انخفض كثيراً منذ آخر فترة تم فيها تفحص خطة الحرب النووية بين الطرفين، فقد انخفضت الحاجة لهذه الأسلحة بالتأكيد، دون أي تغيير في منطق الحاجة إليها، وبناء عليه فإن هذه الأسلحة يمكن تخفيضها كثيراً، إذا أعيد النظر في منطق وجودها أصلاً.

 

تويتر