بعد أقل من 3 سنوات على انفصاله

جنوب السودان يدمر نفسه من الداخل

صورة

على الرغم من جهود السلام اليائسة، تظل التوقعات قاتمة بالنسبة لجنوب السودان، التي تعتبر أحدث دولة نالت استقلالها في العالم، فعلى إثر الاحتكاك الدامي في منتصف ديسمبر الماضي بين الرئيس سلفاكير ميارديت، ونائبه السابق، رياك مشار، اندلع العنف في معظم أنحاء البلاد، إذ سيطرت القوات الموالية لمشار على أجزاء من ولاية جونقلي وعلى كامل ولاية الوحدة الغنية بالنفط، وأيضا أجزاء من ولاية أعالي النيل، وهي ولاية أخرى رئيسية في انتاج النفط، وتسعى الدول المجاورة، وفي مقدمتها إثيوبيا وأوغندا وكينيا، جاهدة للتوسط بين الفريقين المتحاربين من دون جدوى حتى الآن. ولم ينجح أيضا وقف لإطلاق النار توسطت فيه أيضا هذه الحكومات.

انتقادات للأمم المتحدة

أرسلت الأمم المتحدة خمسة آلاف جندي إضافي إلى جنوب السودان، إلا أن الروح المعنوية لبعثة الأمم المتحدة ظلت في الحضيض، إذ إنها تعرضت للكثير من الانتقادات، لا سيما وأنه يقال إن رئيسة بعثتها، هيلدا جونسون سمحت لنفسها التقرب أكثر من اللازم من سلفاكير، والذي يتهمه دبلوماسيون غربيون بإثارة الأزمة بزعمه زورا أن مشار هو من دبر الانقلاب.


 

التدخل الأوغندي

يبدو أن الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني عقد العزم لإرسال مزيد من القوات لمساعدة سلفاكير، ويقال إنه يتطلع لتصدير نفط جنوب السودان عبر أوغندا بدلاً من تصديره عبر أراضي شمال السودان، بسبب بغضه العميق للرئيس السوداني، عمر البشير.

 

ومما يؤجج مخاوف انحدار الوضع إلى مزيد من الفوضى، دخول «الجيش الأبيض»، ميدان المعركة ضد الحكومة، والذي يتألف معظمه من شبان من قبيلة «النوير» يغطون أجسادهم بالرماد الأبيض، إذ ذكرت تقارير أن آلافاً منهم تدفقت من أدغال المناطق الشرقية من ولاية جونقلي الشاسعة وساهمت في استعادة مدينة بور، عاصمة الولاية، من القوات الحكومية. ولا تبعد المدينة سوى بضع ساعات عن جوبا، عاصمة البلاد.

ولا تزال قوات سلفاكير تسيطرعلى كل أو معظم الولايات السبع الأخرى في البلاد، ولها اليد العليا من حيث الإمدادات والأسلحة والدعم الدولي. ويعتقد مستشار عسكري أجنبي عمل مع كل من الرجلين أن الرئيس لديه «المزيد من الخيارات»، ويتمتع بأفضل جاهزية لصراع طويل. إلا أن مشار قد تتوفر له القدرة على السيطرة على البنية التحتية لصناعة النفط الوليدة في البلاد، ويحتفظ بها كرهينة ووسيلة للضغط. فإذا استطاع في وقت مبكرأن يحرز بعض الانتصارات، وأن يتمسك ببور قد يكون في وضع أفضل في مفاوضات السلام. ولكن كما تبدو الأمور في ظاهرهاً، قد يواجه جنوب السودان حرباً أهلية طويلة الأمد.

فما بدأ في أول الأمر كصراع على السلطة السياسية في الحركة الشعبية لتحرير السودان، وهي الحزب الحاكم في البلاد، سرعان ما اتخذ صراعاً ذي طابع عرقي، ووضع في خط المواجهة اثنين من أكبر المجموعات العرقية في البلاد، وهي قبيلة «الدينكا»، التي ينتمي اليها سلفاكير، وهي أكبر القبائل في جنوب السودان، وقبيلة «النوير»، ثاني أكبر قبيلة في البلاد، وينتمي إليها مشار. ولكن على المستوى الرسمي الرفيع تبدو العلاقات العرقية أكثر غموضاً، فعلى سبيل المثال، ظل وزير الخارجية، برنابا ماريال بنجامين، وينتمي إلى «النوير»، مواليا لسلفاكير، في حين تفضل ربيكا غارانغ، أرملة مؤسس الحركة الشعبية، جون غارانغ، وهما من «الدينكا» الوقوف مع مشار. ولكن على الأرض يظل الواقع القبلي أكثر وحشية في ظل التطهير العرقي الذي تدور رحاه هناك.

اندلعت أعمال العنف أول الأمر في 15 ديسمبر الماضي، عندما حاول أفراد من «الدينكا» في الحرس الرئاسي في جوبا نزع سلاح زملائهم «النوير». وسبق ذلك جو من التوتر بين القبيلتين منذ يوليو الماضي عندما أقال سلفاكير حكومته بأكملها في محاولة للحد من قوة طموح مشار. وبمجرد أن اندلع القتال وسط الحرس الرئاسي، بدأ «الدينكا» بمهاجمة المدنيين «النوير» في جوبا من دون تمييز، مما أسفر عن مقتل العشرات منهم. وشرح أحد المواطنين «النوير» في قاعدة الأمم المتحدة في جوبا، كيف جاء جنود «الدينكا» إلى منطقته، وبدأوا البحث من بيت إلى بيت عن «النوير» ليقتلوهم.

ثم انتشرت أعمال القتل الانتقامية بين القبيلتين عبر بلد بحجم فرنسا. وتعرض 20 مسؤولاً من «الدينكا» للذبح على يد رجال «الجيش الأبيض»، جنبا إلى جنب مع اثنين من الجنود الهنود التابعين لقوات للأمم المتحدة لحفظ السلام في 19 ديسمبر في مدينة أكوبو، في ولاية جونقلي. ودفعت هذه الاحداث أكثر من 180 ألف شخص على الفرار من منازلهم، وتجمع عشرات الآلاف منهم في ولاية البحيرات، شمال غرب جوبا. وتقول منظمة أطباء بلا حدود، إن أوضاعهم « تقترب من الكارثية». ويتكدس 80 ألف من المدنيين الآن في خمس قواعد للأمم المتحدة، بما في ذلك أكثر من 20 ألف في اثنين من تلك القواعد في جوبا.

واستجابت الأمم المتحدة للدعوة بإرسال خمسة آلاف جندي إضافي، بعضهم بدأ في الوصول، لتعزيز سبعة آلاف و500 جندي منتشرين من قبل في البلاد. إلا أن الروح المعنوية لبعثة الأمم المتحدة ظلت في الحضيض، إذ إنها تعرضت للكثير من الانتقادات، لا سيما رئيسة بعثتها، هيلدا جونسون، وهي وزيرة سابقة في الحكومة النرويجية، التي يقال إنها سمحت لنفسها التقرب أكثر من اللازم من سلفاكير، والذي يتهمه دبلوماسيون غربيين بإثارة الأزمة بزعمه زورا أن مشار هو من دبر الانقلاب.

ويبدو أن الأمل بدأ يتلاشى في نجاح زعماء المنطقة في التوسط لوقف إطلاق النار. فقد طار كل من رئيس الوزراء الأثيوبي، هايلي ميريام ديسيلين، والرئيس الكيني، أوهورو كينياتا، إلى جوبا يوم 26 ديسمبر، إلا أن جهودهما لم تر النور بسبب الدعم الدبلوماسي والعسكري الذي قدمه الرئيس الأوغندي، يوري موسيفيني، لسلفاكير. وفي المقابل لم توجه الدعوة لأي ممثل من جانب مشار للمفاوضات في العاصمة الكينية، نيروبي. ودعا البيان الذي أعقب المحادثات إلى وقف إطلاق النار ولكن تلك الدعوة بدت أشبه بإنذار لمشار. وهدد موسيفيني انه سيلحق الهزيمة عسكرياً بمشار.

وفرضت القوات الأوغندية السيطرة على المطار في جوبا، بينما قصفت طائراتها مواقع مشار في جونقلي. ويبدو أن موسيفيني عقد العزم لإرسال مزيد من القوات لمساعدة سلفاكير، حيث يقال إن موسيفيني يتطلع لتصدير نفط جنوب السودان عبر أوغندا بدلاً من تصديره عبر أراضي شمال السودان، بسبب بغضه العميق للرئيس السوداني، عمر البشير. وكان رئيس وزراء أثيوبيا الراحل، ميليس زيناوي، من الاشخاص الذين يستطيعون كبح جماح موسيفيني المتنمر، إلا أن خليفته هايلي ماريام قد لا يجد القدرة لفعل ذلك. وعبر أحد مسؤولي الأمم المتحدة الذي شارك في تلك المفاوضات عن ذلك قائلا «إن العالم سوف يفتقد ميليس».

حتى الآن أبقى البشير نفسه خارج المعركة، إذ أن اقتصاد السودان يعتمد على الرسوم التي يحصل عليها من مرور نفط الجنوب عبر أرضه ومينائه على البحر الأحمر إلى الأسواق الاجنبية. ولكن إذا استمر النزاع، فقد يتدخل لحماية المصالح الخاصة بالسودان في حقول النفط، والتي تقع على مقربة من الحدود بين الدولتين. وقد يتوصل مشار إلى اتفاق مع البشير يحصل السودان بموجبه على رسوم أعلى من أجل الحفاظ على تدفق النفط في مقابل تقديم الدعم لمشار.

وفي الوقت نفسه، فإن الصين، أكبر مستورد للنفط من كلا السودانين، تتعاون مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية الرئيسية، وخاصة بريطانيا والنرويج، كوسيط نزيه. ولكن من غير المرجح أن تتم استعادة الوضع الطبيعي قريباً جداً، فمن المستبعد أن يلحق مقاتلي سلفاكير الهزيمة بقوات مشار، وقد يستطيع سلفاكير ترجيح الكفة لصالحه بقوة أوغندا، ولكن قبل كل شيء، فإن الاثنين على حد سواء اكتسبا الكثير من الخبرة في عقود من القتال في الأدغال.

فإذا أريد للسلام أن يتحقق ينبغي صياغة ترتيب جديد لاقتسام السلطة. ولكن من الصعب الآن أن نتصور أن سلفاكير ومشار يتفقان مرة أخرى للتعايش جنباً إلى جنب. فبعد أقل من ثلاث سنوات على استقلاله، لا يزال جنوب السودان رهناً للتدمير من الداخل.

 

 

تويتر