المحلة الكبرى أطلقت شرارة الثورة ضدّ مبارك

انتفاضة 2008 بالمحلة مهّدت لثورة 25 يناير. أ.ف.ب

مدينة القطن المصرية، المحلة الكبرى، تخفي بين طياتها دروساً سياسية، هذه المدينة عبارة عن مصانع «ستالينية»، تعمل على مدار الساعة، المدينة نفسها تشبه مدن القرن الـ،19 مدفونة بين الأعمدة المسلحة وشبكة سكة حديد مهترئة قذرة، جمع غفير من الصراصير يحوم في ارضية البلدية، عندما وصلت الى هناك. وكان الجميع يتساءلون عن هذا الشخص (يعني نفسه)، العائم في العرق، يسأل عن إضراب في المدينة الصناعية قبل خمس سنوات. في كل مرة اسأل عن ذلك الإضراب، يرد المسؤولون اذا كنت قد رأيت مبارك في قفص الاتهام بالمحكمة. يعتقدون انني أتحدث عن معارك ميدان التحرير في يناير الماضي. لم يفهموا قصدي إلى ان دخلت الغرفة إحدى بطلات معركة المحلة، وداد الدمرداش، امرأة تتمتع بطاقة غير عادية، محجبة، ذات صوت عالٍ وإحساس عالٍ أيضاً من الفخر. استطاعت الدمرداش قيادة اول إضراب كبير عام ،2006 ضد شركة مصر للقطن المملوكة للحكومة، أو بالأحرى المملوكة لمبارك. تقول «لم يكن إضراباً سياسياً»، لست متأكداً بأنني صدقتها هنا، وواصلت حديثها «لكن لم يكن لدينا أي خيار، اذ تدنت أجورنا، وأصبحت كلفة الطعام عالية جداً، لدرجة اصبح من الصعب علينا الحصول على الطعام لكي نعيش».

من بين 30 ألف عامل في مصانع القطن بالمحلة هناك 6000 امرأة. توقفن عن العمل متضامنات مع الرجال، ومكثن داخل مصانعهن، ورفضن المغادرة إلى ان حصلن على زيادة «كبيرة» في الرواتب، ما يعادل 60 الى 100 استرليني. وعلى الرغم من تلك الزيادة فإنهم لايزالون الاقل أجوراً من بين عمال المصانع المصرية الاخرى، ولكن اللافت للنظر ان حكومة مبارك وافقت على تلك الزيادات خلال ثلاثة ايام.

لم يكن للحكومة من خيار، إذ ان المحلة بوصفها مركزاً لتجارة التصدير، لم يكن من سبيل لمقارعتها، «المدينة الاولى للقطن في الدلتا»، كما تشير لوحة خلال مرور سيارتي بالأرصفة المتهالكة والمتهدمة وأكوام من سيارات «التوك توك» (الركشة) المهترئة المكسوة بالزيوت المتجمعة في المعبر القديم.

تأسست المدينة أصلاً في عهد الاستعمار الفرنسي على مصر عام ،1817 وازدهرت صناعة القطن في المحلة خلال الحرب الاهلية الاميركية، عندما انقطعت امدادات القطن الاميركي من اوروبا في ستينات القرن الـ،19 وداعاً للغرب الموحش ومرحباً بدلتا النيل.

في السادس من ابريل عام ،2008 أضاف سكان المحلة «لقطة» أخرى لصور تاريخهم، ساروا هذه المرة خلال الطرقات وتفاوضوا مع وزير لمبارك حول افضل شروط للعمل والرواتب، وصمدوا امام عنف الشرطة. كانت الدمرداش واحدة من عضوتين في فريق التفاوض الذي يضم سبعة اعضاء، «نصب الناس معسكرات في الطريق الرئيس الذي يمر به الرئيس»، كما أخبرني الصحافي المصري، عادل دورا، ويضيف «هاجمنا بلطجية مسلحين بالسياخ، واستخدمت الشرطة الغاز المسيل للدموع، إلا اننا تلقينا دعماً من بعض افراد الشعب الذين هبوا لمساعدتنا من الضواحي، بعد ان تلقوا دعوات من خلال الـ(فيس بوك)».

ولم تغطِ معركة المحلة سوى قناتين تلفزيونيتين عربيتين. ويقول دورا ان «الصحافة المصرية نقلت لنا تغطية مغلوطة، فقد نشرت كل ما تريده حكومة مبارك، وتم اعتقال رجال ونساء المدينة لأسابيع عديدة».

عام ،2009 حاول العمال مرة اخرى، وفي هذه المرة أرخى دورا رأسه، تملك الناس الرعب، «كانوا خائفين من الشرطة ومن القتل، ومن مزيد من العنف، ومن كل الأعمال التي من المتوقع ان يتعرضوا لها من قبل الحكومة». كان دورا يحكي قصته بغضب شديد.

ما حدث في المحلة عام 2006 و2008 كان أنموذجاً مصغراً أو بالأحرى مقدمة للثورة نفسها التي اجتاحت البلاد، واطاحت الحكومة المصرية في فبراير الماضي، لترسل مبارك الى قفصه في المحكمة منقولا على سرير طبي الاسبوع الماضي.

وحدة الرجال والنساء العاديين، واستخدام الـ«فيس بوك»، وتنظيم المعسكرات في قلب المدينة، وما حدث من أفعال البلطجية، واستخدام الغاز المسيل للدموع من قبل الشرطة، كل ذلك ظهر امام أعيننا جلياً في ميدان التحرير، وفي الميدان نفسه وجدنا رجالاً ونساء من المحلة، لكننا لم نكن لنفهم مغزى وجودهم، نعم انهم يعرفون جيدا كيف يطيحون الدكتاتور.

كان الصحافي الفرنسي الين غريش من بين الذين ادركوا مغزى وجود «المحليين»، عندما وصف هؤلاء العمال بأنهم «الممثلون المجهولون»، للثورة المصرية. ووصف لنا كيف ان صحافياً رد على اسئلته من خلال تساؤله: «لماذا لم ينجح حتى الآن الثوار في ليبيا واليمن والبحرين»، وربما كان قد اضاف سورية الى القائمة، وكانت الاجابة هي انه في تونس حيث نجحت الثورة كانت الاتحادات النقابية قوية، وان اتحاد العمال العام في تونس استطاع أخيرا أن يسقط نظام زين العابدين بن علي، وكانت الضربة الموجعة عندما دعا الاتحاد الى اضراب عام في الايام الاخيرة لبن علي.

لم يكن رجال ونساء المحلة هم العمال الوحيدون الذين استطاعوا ان يسحقوا سلطة مبارك، وانما كان هناك عمال مصنع اسمنت السويس، الذين نظموا ثورتهم المصغرة بأنفسهم عام ،2009 للاحتجاج على بيع الشركة منتجاتها من الاسمنت الى إسرائيل. ونظموا إضراباً سياسياً في فبراير الماضي.

أما بالنسبة لعمال سورية وليبيا واليمن فإن اتحاداتهم كانت منتقاة منذ زمن بعيد من قبل السلطات، سواء كانوا بعثيين او تابعين للكتاب الاخضر او قبليين. إذ ان الاشتراكية لم تكن ملهماً جيداً للكثير من الطغاة، على الرغم من صداقتهم الظاهرية مع الاتحاد السوفييتي السابق، ولهذا فإن النقابات أو حركات العمال القوية، هي التي تجعل الثورات ناجحة في الشرق الاوسط. وعلى الرغم من ان المحلة مدينة غبراء فإن مكانها في التاريخ آخذ في التنامي على مر السنين.

روبرت فيسك - كاتب وصحافي بريطاني مهتم بالشرق الأوسط

تويتر