التونسيون أذهلوا العالم بانتفاضتهم السلمية التي أطاحت بنظام بن علي. أ.ف.ب

«انتفاضة تونس» مصدر إلهام للتحرّر السلمي

في 17 يوليو 2009 تناول السفير الاميركي في تونس روبرت غوديك، طعام الغداء في نزل كبير على شاطئ البحر يملكه محمد صخر الماطري، وهو عضو في العائلة الحاكمة.

وكان المنزل يحوي أعمدة أثرية وزخارف رومانية، إضافة الى رأس أسد يصب الماء من فمه الى بحيرة.

وكان هناك قفص في داخله نمر، يأكل أربع دجاجات يومياً، حسبما ذكر غوديك في برقية سرية ارسلها الى واشنطن. وكان هذا النمر الذي يحتفظ به مضيفه يذكره بالقفص الذي يحتفظ به عدي صدام حسين وفي داخله أسد في بغداد.

وكان موقع «ويكيليكس» نشر في وقت سابق من ديسمبر الماضي برقيات غوديك مع غيرها من البرقيات الاخرى الصادرة عن السفارات الاميركية، وكانت تتحدث عن إساءة استخدام السلطة من قبل الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، الذي قاد تونس أكثر من عقدين من الزمن.

وكتب غوديك «كانت عائلة الرئيس بن علي تشتهي كل شيء في أيدي الآخرين، سواء كان ذلك مالاً او خدمات أو أراضي او عقارات وحتى اليخوت. وكان الفساد المشكلة التي يعرف عنها الجميع، ولكن ليس هناك من يجرؤ على الحديث عنها علناً».

وانتهى كل ذلك في السابع عشر من ديسمبر الماضي، عندما قام المواطن التونسي محمد البوعزيزي، وهو بائع خضار عمره 26 عاماً، بإحراق نفسه في وسط مدينة سيدي بوزيد، احتجاجاً على مطالب الرشى والتعسف الذي تعرض له على أيدي الشرطة، وبقي البوعزيزي في المستشفى أكثر من أسبوعين، وكان مغطى بالأربطة والشاش في معظم جسمه، وانتشر الغضب في انحاء البلد عبر الإنترنت.

وقام بن علي بزيارة خرقاء للبوعزيزي، ووعد بإجراء الإصلاحات، وفي الرابع من يناير توفي البوعزيزي، وفي 13يناير رفضت قوات الامن مواصلة إطلاق النار على المتظاهرين، بعد أن قتلت العشرات من المدنيين. وفي اليوم التالي هرب بن علي وزوجته ليلى الطرابلسي من تونس بطائرة خاصة إلى السعودية.

وبعد ذلك قام العديد من الاشخاص بحرق أنفسهم، في مصر والجزائر وموريتانيا. وألقى الرئيس الليبي معمر القذافي باللائمة على موقع «ويكيليكس»، الذي قال عنه إنه «نشر معلومات كتبها سفراء كاذبون كي يخلقوا الفوضى في العالم»، ولكن تأثير نشر تلك المعلومات لم يكن من الممكن قياسه. ولم يكن التونسيون بحاجة الى سفارة الولايات المتحدة لتقول لهم إن حكومتهم فاسدة. وفي كل الاحوال فإن هذه الحالة التونسية تمثل نصراً نادراً لقوة الشعب في العالم العربي.

والمهم الآن كيف يمكن تفسير هذه الثورة وتنفيذها ضمن الدولة وخارجها. وربما يثبت سقوط بن علي انه حالة معزولة، وتتضمن الدول العربية الاخرى عناصر سياسية وسكانية تمثل خطراً بالطريقة نفسها التي شكلها التونسيون، فالشباب يعانون البطالة، وعدم تكافؤ الفرص، والتنافر، وتعسف رجال الشرطة، والقادة المتنافسين، والنظام الشمولي الذي يخنق التعبير عن الحريات، وثمة أسباب كثيرة لقادة هذه الدول للشعور بالقلق.

وربما يكون مآل المعارضة الصاعدة في تونس الى الفشل، لان الفساد مستحكم في هذا البلد وممنهج، كما أن الذين قاموا بهذه الثورة يفتقرون إلى المبادئ السياسية الموحدة بينهم.

ويحاول مؤسس حزب النهضة الاسلامي المعتدل نوعاً ما (راشد الغنوشي) العودة الى تونس، ولكنه يثير مخاوف البعض.

وهناك نماذج مشجعة في العالم الإسلامي من شأنها أن تكون مصدر إلهام للتجارب السياسية المقبلة مثل تركيا واندونيسيا مثلاً حيث تحقق الدولتان الاستقرار تدريجياً عن طريق انتهاج سياسات سلمية وجمعية لا تحوي أحزاباً دينية عنيفة.

وعندما غزت الولايات المتحدة العراق شكلت ضربة قاصمة لقضية الترويج للديمقراطية، حيث ربطت افكارها بالعنف والاحتلال، أما في تونس فإن الاستثمارات الخارجية في المجتمع المدني مثل البرامج التي اطلقتها الولايات المتحدة، والحكومات الاوروبية، والمؤسسات المستقلة التي كانت سلمية وتدريجية وليس لها علاقة بالحرب، فقد كانت ناجحة وأعطت اكلها.

وكانت النساء التونسيات، المدعومات بحقوق أقرها الدستور، والنقابات العمالية، وناشطو حقوق الانسان، والصحافيون، والفنانون هم الذي اطاحوا بابن علي. وكانت هذه المؤسسات الديمقراطية قد نجت في ظل حكومة بن علي البوليسية، نظراً للدعم الذي كان يأتيها من الخارج الذي عزز من شرعيتها وقدرتها.

واصبحت نتائج معارضة الديمقراطية في العالم العربي معروفة، فهي ربما تؤدي الى زعزعة الاستقرار، وربما تعزز من سلطة الاحزاب الاسلامية، كما أنها يمكن ان تفتح فضاءات أكبر لايران في المنطقة عن طريق تعزيز قوة الاقليات. وهي يمكن أن تقوض جماعة المعارضة الشرعية عن طريق إظهار اعضائها وكأنهم داعمون للافكار الغربية، في مكافحتهم للارهاب. ومع ذلك فإن التأثيرات القسرية للاصطفائية السياسية والاقتصادية في المنطقة لا يمكن أن تستمر.

وكان الرئيس الاميركي باراك اوباما حذراً بشأن الترويج للديمقراطية في المنطقة، وكذلك فعلت ادارة الرئيس السابق جورج بوش خلال فترة حكمها الثانية. ووصفت وثيقة سرية لعام 2008 نشرها ويكيليكس «لقاء منفتحاً وحميماً» بين مساعد وزير الخارجية الاميركي ديفيد ووليش والرئيس بن علي، تحدث خلاله بن علي عن استراتيجية تقضي بالتعاون التام مع الادارة الاميركية لمحاربة الارهاب «دون اي موانع أو كوابح»، وعرض بن علي بعض التحليلات الحرة قال فيها إن «الوضع في مصر متفجر، وانه عاجلاً أم آجلاً فإن الاخوان المسلمين سيصلون الى السلطة في القاهرة، واشار إلى ان اليمن والسعودية تواجهان مشكلات حقيقة».

وبصورة عامة فإن المنطقة متفجرة، وبغض النظر عما يمكن إن يقول المحللون النفسيون عن ذلك، إلا ان بن علي كانت لديه الكلمات الصائبة عن المنطقة.

ومن المرجح أن يكون لادارة اوباما نفوذ غير مباشر على تونس، ومع ذلك فإن البيت الابيض كان له الخيار: إما تقديم الدعم للمرحلة الانتقالية لتونس باتجاه الديمقراطية، أو عدم الاقتراب منها، تجنباً لغضب السعودية ومصر، ولإحباط طموحات الاسلاميين الذين يصبون الى دخول معترك السياسة التونسي، وربما تكون النتيجة العملية لترويج الديمقراطية في المجتمعات العربية غير مضمونة وبطيئة، هذا اذا ظهرت.

وهناك مخاطر عظيمة، خصوصاً إذا وقعت الحكومة المصرية بأيدي اشخاص لايريدون التحالف مع واشنطن، ولكنها الاستراتيجية الصحيحة من حيث المبدأ والحفاظ على المصالح الاميركية.

واظهر التونسيون أن الوضع الراهن في السياسة العربية غير مستقر، واحياناً يشير الحس السليم الى أن الولايات المتحدة يجب ان تستثمر في الشعوب وليس في الحكام المستبدين.

 

الأكثر مشاركة