بوجود ترامب أو من دونه.. ورغم المراهنة على عامل الوقت

العلاقات الأوروبية - الأميركية تجاوزت نقطة اللاعودة

صورة

هل الانقسام بين أوروبا والولايات المتحدة ظاهرة مؤقتة أم تحول هيكلي دائم؟ وهل الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، هو السبب الجذري لهذا التصدع، أم أنه مجرد انعكاس لاتجاهات أعمق وأكثر رسوخاً في السياسة الدولية؟

ربما يتمسك المتفائلون بالأمل في إمكانية عودة الاستقرار، والتحالف الذي ساد لعقود، بعد انتهاء عهد ترامب، لكن تجربة الأيام القليلة التي قضيتها في واشنطن تشير إلى عكس ذلك تماماً.

حتى في ظل التوترات التي مرّت بها العلاقات عبر الأطلسي في العقود الأخيرة، لم يسبق أن بلغت درجة التأزم الحالية، في الواقع تبدو إدارة ترامب الأولى، بكل ما حملته من صدمات، وكأنها مجرد تمهيد لأزمة أعمق وأكثر حدة، ففي حين اقتصر الأمر سابقاً على انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني، فإن الوضع الحالي بات يتضمن تهديدات مباشرة بشن هجمات على إيران، وهو ما حدث أخيراً، كما أن منح إسرائيل ضوءاً أخضر لشن حرب على إيران، يشير إلى تحول جذري في السياسة الأميركية.

تنازلات اقتصادية

تتجلى ملامح هذا التحول بالنسبة لأوروبا في صور عدة، أبرزها فرض الرسوم الجمركية، وإجبار الاتحاد الأوروبي على تقديم تنازلات اقتصادية، فحين اضطر رئيس المفوضية الأوروبية السابق، جان كلود يونكر، إلى التفاوض على زيادة واردات أوروبا من السلع الأميركية، بدا ذلك مهيناً.

أما المشهد الذي ظهرت فيه الرئيسة الحالية للمفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، وهي ترفع إبهامها بتكلف - إلى جانب ترامب المتبسم بسخرية بعد الموافقة على رسوم بنسبة 15% - فهو مشهد مؤلم ويُعبّر عن حجم التراجع في علاقة كان يفترض أن تقوم على الندية والاحترام.

وعلى الصعيد الأمني، فإن إدارة ترامب الأولى، رغم كل شيء، أرسلت صواريخ «جافلين» المضادة للدبابات إلى أوكرانيا، أما اليوم فالأمر لا يتعدى السماح للدول الأوروبية بشراء أسلحة أميركية لكييف، بينما يُخدع ترامب علناً من قِبل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ويظهر ذلك جلياً في الاستقبال الاحتفالي الذي حظي به بوتين في أنكوريج بألاسكا، خلال لقاء سابق بين الرجلين.

«الأيام الجميلة»

ورغم كل المؤشرات، فإن بعض الأوروبيين لايزالون يتمسكون بأن «الأيام الجميلة» للتحالف الأطلسي ستعود، لكن هذا الاعتقاد أقرب إلى الوهم منه إلى الواقع، حتى في حال غياب ترامب عن المشهد السياسي، يصعب تخيل عودة العلاقات إلى ما كانت عليه، ربما أفضل ما يمكن أن نأمله، كما وصفه أحد المحللين في واشنطن، هو علاقة تشبه زواجاً مفككاً يضطر طرفاه إلى البقاء معاً مؤقتاً من أجل الأطفال، قبل الانفصال الودي.

عندما تولى جو بايدن الرئاسة، ظننت أنه سيكون آخر رئيس أميركي يحمل رؤية أطلسية حقيقية، بغض النظر عمّن سيخلفه، لا أنسى حماسه الظاهر في مؤتمر ميونيخ للأمن عام 2021، عندما قال: «أمريكا عادت»، حيث راودني شعور داخلي بأنها ربما تكون «العودة الأخيرة»، ومنذ ذلك الحين أثبتت التحولات الديموغرافية، والاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية في الولايات المتحدة والعالم، أن الالتزام الأميركي التقليدي بالقيم المشتركة لم يعد قائماً.

يدرك الأوروبيون ذلك على المستوى العقلي، لكنهم لايزالون في حالة إنكار عاطفي، لذا فهم يتجنبون إثارة غضب ترامب، ويراهنون على عامل الوقت، وينتظرون عودة ما لن يعود، وهذا النهج يحمل في طياته مخاطر كبرى، لأن السيناريوهات والبدائل الواقعية لهذا الأمل الزائف أقل إشراقاً بكثير.

علاقة نفعية

السيناريو الأول يتمثّل في علاقة نفعية بحتة بين الولايات المتحدة وأوروبا، تتأسس فقط على تلاقي المصالح المؤقتة، سيتحول التحالف إلى علاقة مصلحية لا تحمل أي التزام طويل الأجل أو مشاعر ولاء، وفي هذه الحالة، قد ترحب واشنطن ببيع الأسلحة لأوروبا، لكنها لن تتردد في التوصل إلى صفقات جانبية مع موسكو على حساب كييف والأوروبيين.

وستضطر أوروبا إلى الاعتراف بأن زمن القيم المشتركة انتهى، وأن التعامل مع الولايات المتحدة أصبح شبيهاً بالتعامل مع روسيا أو الصين أو الهند: صفقات، وميزان قوى، وسباق للحصول على أكبر قدر من المكاسب، وفي هذا السياق قد تواصل أوروبا شراء الأسلحة الأميركية لفترة من الزمن، لكنها ستعمل على بناء قدراتها الدفاعية الذاتية، والاستثمار في تطوير قطاع الدفاع الأوكراني، كجزء من سعيها نحو استقلال استراتيجي أوسع.

وستكون الرسوم الجمركية الأميركية مؤلمة، لكنها مؤقتة، وستسعى أوروبا للرد عليها بتوسيع شراكاتها التجارية مع أميركا اللاتينية (تكتل ميركوسور)، والهند، والدول الأعضاء في اتفاقية الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ، كما ينبغي أن تسعى إلى بناء نظام تجاري عالمي بديل لمنظمة التجارة العالمية، من دون الاعتماد على الولايات المتحدةن وقد لا يكون هذا هو السيناريو المثالي، لكنه سيناريو يمكن التعايش معه.

الإمبراطوريات

أما السيناريو الثاني، فهو أكثر تشاؤماً وخطورة على أوروبا، إذ يتمثّل في عالم تنبع فيه العلاقات الدولية من منطق الإمبراطوريات، حيث تدير الولايات المتحدة وروسيا والصين وربما الهند مناطق نفوذها الخاصة، وتتحكم في التفاعلات بناءً على صفقات مؤقتة لا تحكمها قواعد أو مؤسسات، في مثل هذا العالم، ستكون أوروبا مجرد لاعب صغير على هامش الطموحات الإمبراطورية الكبرى.

تظهر ميول ترامب بوضوح في هذا الاتجاه، حيث إنه لا يرى في أوروبا شريكاً، بل مستعمرة قابلة للابتزاز والضغط، وقد تبدأ الإمبراطوريات الأخرى في التصرف بالمثل، كما ظهر في تقارب الرئيس الصيني شي جين بينغ، مع كل من بوتين ورئيس وزارء الهند ناريندرا مودي.

وإذا كانت العلاقات بين واشنطن ونيودلهي تدهورت نتيجة سياسات ترامب الاقتصادية القصيرة النظر، فإن بكين كانت المستفيد الأكبر من ذلك.

في هذا السياق، يبدو مستقبل أوروبا قاتماً، إذ قد تجد نفسها عالقة بين الطموحات التوسعية لروسيا، والنزعة الإمبراطورية للولايات المتحدة، وطموحات الصين الصاعدة.

تنازلات

ويبدو أن رد الفعل الأوروبي على هذه التحولات يزيد الأمور سوءاً، فخلال الأشهر الستة الماضية، لجأ القادة الأوروبيون إلى التودد لترامب، وتقديم التنازلات، وتفادي أي مواجهة مباشرة، وهو سلوك لا يعكس إلا ضعفاً تفاوضياً، وربما قبولاً ضمنياً بدور التابع.

ولاشك أن بعض مظاهر المجاملة الدبلوماسية قد تكون ضرورية، لكن ما حدث تجاوز ذلك بكثير، الصور التذكارية المحرجة، والرسائل النصية البائسة قبيل قمم حلف شمال الأطلسي «الناتو»، إضافة إلى الهدايا الفاخرة والدعوات الملكية، كلها تثير مشاعر الاستياء لدى العديد من المواطنين الأوروبيين، وتعزز الانطباع بأن أوروبا فقدت كرامتها الاستراتيجية.

والأسوأ من ذلك، أن هذا النهج قد تكون له نتائج عكسية، لأنه يقنع ترامب، أو أي قائد أميركي مستقبلي يحمل النهج نفسه، بأن أوروبا بالفعل مستعدة للخضوع، لكن الواقع يقول في حال استمرار هذا المسار لن يؤدي إلا إلى تراجع أوروبا أكثر في النظام العالمي، لتصبح مجرد تابع في صراعات الكبار. ناتالي توكسي*    *كاتبة عمود في «الغارديان»    عن «الغارديان»


القبول بالتغيير

على الأوروبيين أن يدركوا أن الزمن الذي كانوا فيه كشركاء متساوين، في تحالف أطلسي مبني على القيم المشتركة، قد ولّى، وعليهم قبول أن العالم تغيّر، وعندما يواجهون هذه الحقيقة بواقعية، يمكنهم البدء في بناء مستقبل يحمي مصالحهم، ويمنع وقوعهم ضحية لصراع القوى الكبرى.

• فرض الرسوم الجمركية، وإجبار الاتحاد الأوروبي على تقديم تنازلات اقتصادية، أبرز ملامح التحول في سياسة واشنطن تجاه أوروبا.

• تقديم التنازلات لواشنطن قد يحمل نتائج عكسية، لأنه يقنع ترامب، أو أي رئيس أميركي، بأن أوروبا مستعدة للخضوع.

تويتر